تقديم الفاعل بين الكوفيين والبصريين

بسم الله الرحمن الرحيم


اشتهر عن الكوفيين إجازتهم تقديم الفاعل على فعله، فيجوز أن يُعرب (زيد) في (زيد قام) بإعرابين:
الأول: أنه مبتدأ والجملة بعده خبر، كما هو رأي البصريين.
الثاني: أنه فاعل تقدم على فعله.
ولسائل أن يسأل: ما الذي دعا الكوفيين إلى هذا القول؟ وهلا اكتفوا بالوجه الذي عليه البصريين؟
أقول في مقام الجواب: يظهر لي أن هناك سببين لهذا القول، وهما:
الأول: التفريق بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية وضعا، أي: الجملة الاسمية تدل على ثبوت الحكم للمبتدأ، والجملة الفعلية تدل على حدوث الفعل للفاعل. وعليه فربما قدّم المتكلم الفاعل؛ لداعٍ من دواعي التقديم المذكورة في علم البلاغة، أي: أراد الدلالة على الحدوث لا على الثبوت.
الثاني: التفريق بين الجملتين -وإن لم نقل باختلافهما وضعا- من حيث دلالة الاسمية على توكيد المبتدأ (زيد)؛ لأنه ذكر في مرتين: الأولى: عند التصريح بلفظ المبتدأ. الثانية: عند استتاره في الفعل؛ إذ الاسم المضمر كالمذكور بلا فرق، بينما على القول بأنها فعلية فلا يوجد مثل هذا التوكيد.

وأقول: السبب الأول مردود لما تقرر في علم البلاغة من أن الجملة الاسمية لم توضع للدلالة على الثبوت، وكذا الفعلية لم توضع للحدوث، بل هما -الحدوث والثبوت- يُفهمان من أجزاء الجملة، فإن اشتملت على الفعل فهي تدل على الحدوث وإن لم تشتمل عليه فهي دالة على الثبوت، وما ذُكر مجرد وهم.
أما السبب الثاني ففيه وجه، لكن أنى لنا إثبات مثل هذه الدعوى -إرادة التوكيد وعدمه-، ولئن ثبتت نظريا فهل يمكننا معرفة أن المتكلم أراد توكيد (زيد) بتوكيدين -بذكره أولا ثم بإضماره- أم أراد توكيده مرة واحدة، ولما كانت وظيفة الكلام هي الإبانة عمّا في نفس المتكلم ومع تعسر أو تعذر معرفة مراده من هذه الناحية لزم أن نرفض فكرة تقدم الفاعل؛ لأنها تؤدي إلى الالتباس.
ولقائل أن يقول: ألا يمكن أن نؤكد الفاعل بتوكيد واحد لا بتوكيدين؛ لأن الغرض تعلق بتوكيده مرة واحدة؟
الجواب: بل هذا ممكن لكن لا بتقدينه، بل بمؤكد آخر كتكراره أو ما شابه من المؤكدات.

النتيجة: لا دليل على جواز تقديم الفاعل، بل الدليل اقتضى عدم جوازه؛ لأنه يؤدي إلى الالتباس عند السامع، وبهذا تضيع فائدة الكلام، أعني: الإفصاح عن المعاني الكائنة في نفس المتكلم، والله أعلم.