أ.د. الشريف حاتم العوني
الجمعة 31/01/2014
المتقون والمعاصي(2/5)
تكلمنا في الأسبوع الماضي عن الفائدة الأولى التي نستفيدها من قوله تعالى : {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
ونكمل اليوم فائدتين جديدتين :
ثانيا : تَذكُرُ الآيةُ ظُلمَ النفس بعد ذكر الفاحشة في سياق ما يُوجب الاستغفار ، مع أن ظلم النفس اسم شامل لكل معصية : صغرت أو كبرت ، اقتصر ضررها على العاصي أو تعدّاه إلى غيره . مما يعني أن ذكر ظلم النفس بعد ذكر الفواحش والكبائر هو من باب ذكر العام بعد الخاص ، فالكبائر نوع من أنواع ظلم النفس . مما يدلنا على المغزى من ذكر الفواحش ، ومما يعيننا على اكتشاف السر في ذكر الكبائر ، بل في تخصيصها بالذكر ، مع إمكان الاستغناء عنها بلفظ (ظلم النفس) الذي يشملها ! ومن أوضح ما يبين ذلك المغزى ويكشفُ سِرَّ ذلك التخصيص بالذِّكر هو : لتصحيح التصور عن علاقة التقوى بارتكاب الكبائر ؛ ولبيان أن الضعف البشري قد يحط المتقي في لحظة جَذْبِه الطيني ودَفْعِ غريزته الجسديّة من علياء الإيمان والتقوى إلى حضيض التمرّغ في وحل الفواحش ، وأن ذلك (مع ذلك) لا يخرجه عن وصف المتقين ، ما دام يُتبع ذلك بالرجوع إلى ربه والفرار إليه بالاستغفار !
ومن فوائد ذكر ظلم النفس في هذا السياق أيضًا : بيان أن الصغائر تُوجِبُ على المتقين الاستغفارَ منها أيضًا ، وأن المتقين لا يستخفّون بضرورة الاستغفار .. حتى من الصغائر
بل العبد محتاج للاستغفار (حاجةَ استحبابٍ لا وجوب) في كل وقت ، حتى بعد الطاعة ؛ لما ينتاب الطاعةَ من تقصير عن حق جلال الله تعالى وعظمته ولا بُدّ ، وإعلانا للعجز عن موافاة الله تعالى حقَّه من الشكر على التوفيق والإعانة على أداء الطاعة ؛ ولذلك كما أمر الله تعالى بالاستغفار عقب أداء مناسك الحج ، في قوله تعالى { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، وكما قال تعالى في الأمر بالاستغفار عقب قيام الليل {ِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ } إلى أن قال تعالى في خاتمة الآية { وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وكان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يختم صلاته للفريضة بالاستغفار ثلاثا !
فإذا كان الاستغفار مستحبًّا حتى بعد الطاعة ، وهي طاعة تُرضي الربَّ عزّ وجل ، وتُقرِّبُ إليه العبد ؛ فكيف سينزل حُكمُه عن الوجوب بعد مخالفة أمر الله تعالى بالمعصية ، ولو كانت معصيةً صغيرة !
ثالثا : بعد أن ذكر الله تعالى إمكانية مواقعة المتقين للفاحشة وظلم النفس ذكر ما يجعل المتقين أوّابين لله تعالى بطُهر الإيمان وورِقّة طلب المغفرة (الاستغفار) ، فكان هذا الأمر الذي يرفعهم من حضيض المعصية إلى سُمُوّ القُرْب من العليّ سبحانه هو أنهم { ذَكَرُوا اللَّهَ }! نعم .. إنهم فقط { ذَكَرُوا اللَّهَ } !! فلم يقل الله تعالى : تَذكّروا عذابَ الله الأليم وأَخْذَه السريع ، ولا قال الله تعالى : تذكّروا جلالةَ من عَصَوْه ، وعظمةَ سلطانِ من خالفوه .. ولا غير ذلك من دواعي الردع القوية الحقيقية , ومن أسباب الزجر العظيمة . بل اكتفت الآية أن يكون (ذِكْرُ الله) .. مجرّدُ (ذِكْرِ الله) هو أعظمَ رادعٍ وأشَدَّ زاجرٍ . وكفى بذكر الله رادعا عن معصيته ! وكفى بذكر الله زاجرا عن التقصير في حقه سبحانه وتعالى .
الأمر حقًّا لا يحتاج أكثر من أن تَذْكُـرَ الله تعالى ، تَذْكُـرَه فقط ؛ لكي تجتنب مخالفةَ أمره . لا تحتاج إلا أن لا تَغْفُلَ عن ذِكْرِه فقط ؛ لكي يدوم أُنْسُك بلذّةِ القُرب بطاعته . فمجرد تذكّر الله تعالى يكفي لاستحضار كل معاني التعظيم حُبًّا ورجاءً وخشية ؛ ولهذا كان كافيًا للعاصي أن يذكر الله لكي يؤوب إلى رشده ويفرّ إلى ربه ! فليست الخشية وحدها هي الرادعة (كما ظنّ بعضهم) ؛ فرُبَّ حياءٍ من مُنْعِم كريمٍ كان أشدَّ في الردع عن مخالفة أمره من خوف عذابه ! ورُبَّ حبٍّ حَجَبَ النفسَ عن كل ما لا يحبه المحبوب أكثر مِن الحَذَرِ مِن عقوبة غضبه! فذِكْرُ الله على كل أنحائه أعظمُ مانعٍ عن معصيته ، وذِكْرُ الله لا يجتمع قط مع غفلة الجهالة عن واجب تعظيمه عز وجلّ !
ولذلك كان الاستغفارُ العاجِلُ السريعُ هو النتيجةَ الـمُـتَـحَـتِّ ـمةَ لمن ذَكَر الله تعالى عقب معصيته { ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ }! وهذا نحو قوله تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَـٰئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}.
ونستكمل ذكر فائدة جديدة في مقال جديد بإذن الله تعالى.