سلم الخاسر

بقلم - فالح الحجية


هو سَلْمُ بن عمرو بن حمّاد، مولى قبيلة بني تيم بن مرّة
ولد بالبصرة و نشأ. فيها ولا يعرف تاريخ ميلاده وقيل انه سُمِّي ( الخاسر) لأنه باع مصحفاً كان ورثه عن أبيه فاشترى بثمنه طنبوراً، أو دفتر شعر
وقال صاحب الاغاني في كتابه:
-( لما مات عمرو أبو سلم الخاسر اقتسموا ميراثه فوقع في قسط سلم مصحف فرده
وأخذ مكانه دفاتر شعر كانت عند أبيه، فلقب الخاسر)

وقيل ايضا: ورث سلم الخاسر أباه مأئة ألف درهم فأنفقها على الأدب وبقي لاشيء عنده فلقبه الجيران ومن يعرفه بسلم الخاسر وقالوا: أنفق ماله على ما لا ينفعه فهو خاسر

انتقل سلم الخاسر الى بغداد لمدح الخلفاء والامراء واصحاب الجاه والحظوة وكان كثير شعره و قصائده البديعة والرائعة مزّاحاً لطيفاً . وكان صديقاً لابراهيم الموصلي ، وأبي العتاهية وقيل ان ابا العتاهية قال لسلم الخاسر لما حبس اسحاق الموصلي :

سلــم يا ســـلـــم لـــيس دونـــك ســـر
حبـس الـمـوصـلـي فــالـــعـــيش مـــر
ما استطاب اللذات مذ سكن
المطبق رأس اللذات والله حر
ترك الموصل من خلق الل
ه جـمـيعـاً وعـيشـهـم مــقـــشـــعـــ ر

يردّ مصحفاً ويأخذ
مكانه دفاتر شعر

وقيل ان ابا العتاهية لما بعث بشعره الى سلم الخاسر اجابه سلم قائلا:

ما أقبح التزهيد من واعـظ
يزهد الـنـاس ولا يزهـد

لو كان في تزهيده صـادقـا
أضحى وأمسى بيته المسجد

ورفض الدنيا ولم يلـقـهـا
ولم يكن يسعى ويستـرفـد

يخاف أن تـنـفـذ أرزاقـه
وعند الله لا ينـفـد

الرزق مقسوم على من ترى
ينالـه الأبـيض والأسـود

كل يوفى رزقـه كـامـلاً
من كف عن جهد ومن يجهد

وتكاد تجمع آراء النقاد والمؤرخين للشعر من ان سلم الخاسر سار على مذهب استاذه بشار بن برد في النظم بما في ذلك في سهولة الالفاظ وأناقة التعبير ورشاقة الكلمات ولين النسج اللغوي. حيث كان تلميذه وراوية من رواة شعره
وقد اعترف سلم نفسه بهذه الحالة من انه إنه كان تبعا لبشاربن برد ولا ينطق إلا بفضل منطقه. فلما قال بشار بن برد:

لا خير في العيش إن دمنا كذا أبدا
لا نلتقي وسبيل الملتقـى نـهـج

قالوا حرام تلاقينا فقـلـت لـهـم
ما في التلاقي ولا في غيره حرج

من راقب الناس لم يظفر بحاجتـه
وفاز بالطيبات الفاتك الـلـهـج

قال: فقال سلم الخاسر أبياتا، ثم أخذ معنى هذا البيت، فسلخه وجعله اكثر قوة وبلاغة
في قوله:

من راقب الناس مات غما وفاز باللذة الـجـسـور

فبلغ بيته بشاربن برد فغضب واستشاط، وحلف ألا يدخل إليه، ولا يفيده ولا ينفعه ما دام حيا. فاستشفع إليه بكل صديق له وكل من يثقل عليه رده فكلموه فيه، فقال:
- أدخلوه إلي
فأدخلوه إليه فاستدناه ثم قال:
- إيه يا سلم من الذي يقول:

من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفاز بالطيبات الفاتك اللـهـج

قال: أنت يا أبا معاذ، قد جعلني الله فداءك!
قال: فمن الذي يقول:

من راقب الناس مات غما وفاز باللذة الجـسـور؟

قال: تلميذك، وخريجك، وعبدك يا أبا معاذ،
فاجتذبه إليه، وقنعه بمخصرة كانت في يده ثلاثا وسلم يقول:
- لا أعود يا أبا معاذ إلى ما تنكره ولا آتي شيئا تذمه، إنما أنا عبدك
وتلميذك، وصنيعتك

مدح سلم الخاسر ًالخلفاء و الملوك والأشراف، وكانوا يجزلون له الثواب والعطاء فيأخذ الكثير وينفقه على إخوانه وغيرهم من الادباء والشعراء . فقد مدح الخلفاء من بني العباس المهدي وابنه موسى الهادي والرشيد وابنه محمد الأمين ومما قاله في مدح الخليفة المهدي:

جمع الخلافة والسَّـما حة والشجاعة في نظام

مـلك ضريبة رأيه أمضى من السيف الحُسام

وقال في مدح الخليفة الهادي:

تَخفى المُلوكُ لِموسى عِندَ طَلعَتِهِ
مِثلَ النُجومِ لِقَرنِ الشَمسِ إِذ طَلَعا
وَلَيسَ خَلقٌ يَرى بَدراً وَطَلعَتَهُ
مِنَ البَرِيَّةِ إِلّا ذَلَّ أَو خَضَعا

وقال في مدح الرشيد :

جَرى لَكَ مِن هارونَ بِالسَعدِ طائِرُه
إِمامُ اِعتِزامٍ لا تُخافُ بَوادِرُه

إِمامٌ لَهُ رَأيٌ حَميدٌ وَرَحمَةٌ
مَوارِدُهُ مَحمودَةٌ وَمَصادِرُه

هُوَ المَلِكُ المَجبولُ نَفساً عَلى التُقى
مُسَلَّمَةٌ مِن كُلِّ سوءٍ عَساكِرُه

لِتُغمَد سُيوفُ الحَربِ فَاللَهُ وَحدَهُ
وَلَيُّ أَميرِ المُؤمِنينَ وَناصِرُه

ومدح البرامكة، ومن جيد شعره في مدح يحيى البرمكي :

بقاء الديـن والدنيا جميعـاً
إذا بقي الخليفة والوزيرُ

يغار على حمى الإسلام يحيى
إذا ما ضيّع الحزمَ الغيورُ

ومدح معن بن زائدة والفضل بن الربيع وزير الرشيد ومما قال في مدح الفضل :

يا بن الذي جبر الإسلام يوم وهي
واستنفذ الناس من عمياء صيخود
قالت قريش غداة أنهاض ملكهم:
أين الربيع وأعطوا بالمقـالـيد
فقام بالأمر مئنـاس بـوحـدتـه
لعزيمة ضراب القماحيد
إن الأمور إذا ضاقت مسالكهـا
حلت يد الفضل منها كل معقود
إن الربيع وإن الفضل قد بـنـيا
رواق مجد على العباس ممدود

ومدح وعمرو بن العلاء والي طبرستان وقيل ان بشار بن برد ارسل قصيدته الميمية في عمر بن العلاء يقول فيها::
إذا نبهتك صعاب الأمور
فنبه لها عمرا ثـم نـم
فتى لا يبيت على دمـنة
ولايشرب الماء إلا بدم
بعث بها مع سلم الخاسر إلى عمرو بن العلاء فوافاه فأنشده إياها فامر عمرو لبشار بمائة ألف درهم. فقال له سلم: إن خادمك- ويعني بها نفسه- قد قال في طريقه فيك قصيدة
قال: فإنك لهناك ؟
قال: تسمع ثم تحكم
ثم قال: هات
فأنشده:
قد عزني الداء فما لـي دواء
مم ألاقي من حسان النسـاء
قلب صحيح كنت أسطو بـه
أصبح من سلمى بداء عـياء

أنفاسها مسك وفي طرفـهـا
سحر ومالي غيرها من دواء

وعدتني وعدا فـأوفـي بـه
هل تصلح الخمرة إلا بماء؟
ويقول فيها
كم كربة قد مسني ضرها
ناديت فيها عمر بن العلاء

قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم، فكانت أول عطية سنية وصلت إليه

وكان سلم الخاسر كثير المعرفة بأشعار الجاهلية حتى قيل انه اعلم الشعراء فيها .

قال الشعر في اغلب الفنون الشعرية بما فيها المدح والهجاء والغزل والرثاء الوصف وقد قال في وصف قصر صالح بن المنصور لما بناه بدجلة قال فيه سلم الخاسر:
يا صالح الجود الذي مجده
أفسد مجد الناس بالجـود
بنيت قصرا مشرفا عاليا
بطائري سعد ومسعـود
كأنـمـا يرفـع بـنـيانـه
جن سـلـيمـان بـن داود
لا زلت مسرورا به سالمـا
على اختلاف البيض والسود

ومن غزله هذه الابيات :

أجررت حبل خليع في الصبى غزل ..
. وقصرت همم العذال عن عذلي

رد البكاء على العين الطموح هوى ..
. مفرق بين توديع ومنتقل

أما كفى البين أن أرمى بأسهمه ..
. حتى رماني بلحظ الأعين النجل

مِما جنت لي وإن كانت مني صدقت .
.. ضبابة بين إثواء ومرتحل

توفي سلم الخاسر في بغداد سنة \ 186 هجرية

يا سَلْمُ إن أصْبَحْتَ في حُفْرَةٍ .
.. موسداً ترباً وأحجارا
فرُبَّ بيتٍ حَسَنٍ قُلتهُ ...
خَلَّفْتَهُ في الناس سيارا
قلدته ترباً وسيرته .
.. فان فخراً ذاك أو عارا
لو نَطَقَ الشعر بكى عبرةً ...
عليه إعلاناً وإسرارا
هَيْهاتَ أن يأتي الزَّمانُ بمثْلِهِ ..
. إن الزَّمانَ بمثلهِ لَبَخيلُ
أعْدى الزمان سَخاؤه فَسخا به ...
ولَقَدْ يكونُ به الزمانُ بخيلا
تميز شعره بالرقة والسلاسة والرصانة. وكان فيه شيء من اللهو والمجون في مطلع حياته، غير أنه لما تقدم به العمر حتى التزم جانب الوقار واصلح ما فسد ه الصبا واصدقاء السوء في اول حياته

. وقد عرف سلم بتأنقه في ملبسه ومظهره، وكذلك في شعره الذي اتصف بالعذوبة والرشاقة وله شعر في الرثاء جميل ومؤثر و فيه ندْب وبكاء
يقول في ابنة المهدي عند وفاتها :

أودى ببانوكة ريب الـزمـان
مؤنسة المهدي والخـيزران
لم تنطو الأرض على مثلهـا
مولودن حن لها الـوالـدان
بانوك يا بنت إمـام الـهـدى
أصبحت من زينة أهل الجنان
بكت لك الأرض وسكانـهـا
في كل أفق بين إنس وجـان

اما شعره في الهجاء فكان يهاجي الشاعر الكوفي الخليع
والبة بن الحُباب الأسدي ومما قال في هجائه :

يا والب بن الحباب يا حلقـي
لست من أهل الزناء فانطلق
دخل فيه الغرسول تولـجـه
مثل ولوج المفتاح في الغلق

ومن إبداعه أنه ابتكر وزناً جديدا هو على وزن (مستفعلن) واحدة بتفعلية واحدة في كل شطر الا انه لم ينظم به الشعراء فترك ولم يستقم وذلك في قصيدته التي مدح بها المهدي:

موسى المطر،غيث بكر

ثم انهمر ألوى الِمرَرْ

كم اعتسـرْ وكم قَدَرْ

ثم غَفَرْ عدل السِّيَرْ

وفي الختام اختم بهذه القصيدة الرائعة :

حَضَرَ الرَحيلُ وَشُدَّتِ الأَحداجُ
وَغَدا بِهِنَّ مُشَمِّرٌ مِزعاجُ

لِلشَّوقِ نيرانٌ قَدَحنَ بِقَلبِهِ
حَتّى اِستَمَرَّ بِهِ الهَوى المِلجاجُ

أَزعِج هَواكَ إِلى الَّذينَ تُحِبُّهُم
إِنَّ المُحِبَّ يَسوقُهُ الإِزعاجُ

لَن يُدنِيَّنكَ لِلحَبيبِ وَوَصلِهِ
إِلا السُرى وَالبازِلُ الهَجهاجُ

إِنَّ المَنايا في السُيوفِ كَوامِنٌ
حَتّى يُهَيِّجَها فَتىً هَيّاجُ

وَمَدجَجٍ يَغشى المَضيقَ بِسَيفِهِ
حَتّى يَكونَ بِسَيفِهِ الإِفراجُ

نَزَلَت نُجومُ اللَيلِ فَوقَ رُؤوسِهِم
وَلِكُلِّ قَومٍ كَوكَبٌ وَهّاجُ

شَرِبَت بِمَكَّةَ في ذُرى بَطحائِها
ماءَ النُبُوَّةِ لَيسَ فيهِ مِزاجُ

فالح نصيف الحجية
الكيلاني
العراق- ديالى - بلدروز

**********************