21-01-2014 | يحيي البوليني
إن عدم الإيمان باليوم الآخر يدفع عددا من غير المسلمين إلى إنهاء حياتهم بأيديهم, إما حزنا على فوات شئ ماض أو خوفا من شئ قادم, فتقول الإحصاءات أن قرابة المليون ينتحرون كل عام فضلا عن محاولات الانتحار الأكثر التي تفشل, وليس هناك عاصم منها إلا الإيمان بان هناك يوما قادما لا محالة سينال كل منا فيه أجره.


لا يخلو حال المؤمن كحال الناس جميعا من حالتين, فهو يتقلب بين النعم والابتلاءات, فتارة يكون في سعة وعافية وتارة أخرى يكون في ضيق وابتلاء, وغالبا ما يجمع البشر جميعا ما بين المعافاة في أمور وجوانب وبلاءات في أخرى ليتحقق مفهوم العبودية الأوسع في حياة الناس, فيغدون ويروجون في سعي دائم بين مرتبتي الشكر على السراء والصبر على الضراء وهما شطرا الإيمان.
وهكذا يتعامل المؤمن مع الله في الحالين الذين لا ينفكان عنه بما هو خير له, كما روى صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ"[1].
ويخبرنا ربنا أن الخير والشر ابتلاء منه سبحانه للمؤمن فقال جل شأنه "وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" الانبياء:35.
وقد جمع الله عز وجل الصبر والشكر معا في أكثر من موضع في القران الكريم للدلالة على اقترانهما سويا بحال, كقوله جل شأنه "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ" ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "الإيمان نصفان: نصف صبرٍ، ونصف شكرٍ"[2].
وفي حال الابتلاء عدم وجود النعم أو بفقدها يكثر حاجة المؤمن للإيمان بكل أركانه الست, فإيمانه يعصمه ويحميه ويعينه على تحمل المحن والشدائد والآلام, ويكون صبر المؤمن وتحمله للبلاء دليلا على عمق وترسخ الإيمان في قلبه.
ودائما ما يكون الإيمان باليوم الآخر نقطة ارتكاز عظيمة ليتطلع إليها المؤمن وليوقن أن هناك يوما قادما لا محالة سيجمع الله فيه كل الخلائق فيحاسبهم على ما كسبت أيديهم وليجزي المحسن بإحسانه وليجازي المسئ على إساءته, فحينها يستخف بالمحن ويستهين بالآلام التي تصيبه في حياته ويتصبر على مواجهة الظلم والظالمين.
فالمظلوم الذي لا يستطيع أن ينتصف أو يقتص لها من ظالمه يتطلع ليوم القيامة فيجده يوم العدل الذي لا ظلم فيه, فيطمئن قلبه حين يستمع لقول الله سبحانه مسريا عنه "وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً" الكهف:49, وقوله سبحانه "الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" غافر:17.
كما يجد المؤمن قوة دافعة له حينما يعلم أن الله عالم ومطلع ويسجل على ظالمه كل صغيرة وكبيرة "وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ" إبراهيم:42, كما يشعر بأنه من المرضي عنهم والمختارين والصفوة وأنه لم يكن في الطرف الظالم حينما يسمع قول الله سبحانه "وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً" الفرقان:20.
يدرك المؤمن بأن الله سبحانه هو الحكم العدل في هذا اليوم الذي لا يوجد فيه ملك سواه, ولا يحكم فيه إلا الله "يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ" غافر:16, وتختفي فيه الجبابرة والملوك والظلمة الفجرة المستكبرون ويصبحون كالذر يطؤهم الناس بأقدامهم جزاء وفاقا على تكبرهم على عباد الله في حياتهم الدنيا: (يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُو نَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ)[3].
وينتظره المؤمن الممتحن في دينه الذي يسمع اليوم تهكم وازدراء أعدائه له ويراهم وهم يتغامزون عليه في ذهابه وعودته, وينظر كيدهم له للإيقاع به والسخرية منه في المحافل الأندية والطرقات لا لشئ إلا لتدينه وعبادته, ينتظر يوم القيامة ليرى هؤلاء المجرمين يدفعون ثمن ما اقترفته أيديهم لينقلب فرحهم حزنا طويلا وليتحول حزنه اليوم إلى فرح طويل غدا "إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ *وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ " المطففين 29-36.
وينتظره المؤمن الذي حرم من نعمة في الدنيا فلا ينظر بنظرة حسد أو حقد أو غضب أو حزن لمن أعطاه الله هذه النعمة وحرمه منها, بل ينظر إلى أن هناك يوما قادما ستتغير فيه الموازين ولن ينفع فيه أحد أحدا, فيجد أنه حرم من الإخوان والأحبة فيرى عددا من الخلان يتبرأ بعضهم من بعض ويعادي بعضهم بعضا فيدرك أن الأخوة الباقية هي الأخوة الصادقة فقط, فيحمد الله على حرمانه من بعض أحبابه, فلربما كانوا اليوم أعداء له "الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ" الزخرف:67.
ويرى من حرم في الدنيا من الأهل والأزواج والأبناء أن هناك عددا كبيرا من أهل المحشر يندمون على ما ارتكبوا من معاص وذنوب كان سببها حبهم لأهليهم ويراهم يتمنون جميعا لو لم يكن لهم أهل ولا ولد "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ" التغابن:14، وحينما يرى أن الجميع يفر من الجميع , فلا أهل ولا عشيرة ولا أحباب ولا خلان "فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ" عبس: 33-37.
ويرى من حرم نعمة المال أو سلامة البدن أن عددا من أهل القيامة يندمون على تفريطهم في جنب الله واستغلالهم لهذه النعم في معصيته, وحين يرى أن كلا منهم يُسأل عن النعم الكثيرة التي مُنحها قبل أن تتحرك قدمه يوم القيامة خطوة واحدة كما اخبرنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ عَن عُمُرِه فيما أفناهُ وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ"[4].
إن هذا الركن الهام وهو الإيمان بيوم القيامة هو أحد الأركان الستة في الإيمان التي لا يصح الإيمان إلا بها, كما جاء في حديث جبريل عليه السلام "قَالَ: فأخبرني عَنْ الإيمان؟ قَالَ: "أن تؤمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ وتؤمن بالقدر خيره وشره" قَالَ صدقت ..".
إن عدم الإيمان باليوم الآخر يدفع عددا من غير المسلمين إلى إنهاء حياتهم بأيديهم, إما حزنا على فوات شئ ماض أو خوفا من شئ قادم, فتقول الإحصاءات أن قرابة المليون ينتحرون كل عام فضلا عن محاولات الانتحار الأكثر التي تفشل, وليس هناك عاصم منها إلا الإيمان بان هناك يوما قادما لا محالة سينال كل منا فيه أجره.
إن ذكر يوم القيامة يحل كثيرا من الإشكاليات التي يعانيها المسلم في حياته, فلا يأس ولا حزن ولا ألم, ولا يمكن يدخل المؤمن أبدا بعد إيمانه باليوم الآخر في دوائر الاكتئاب التي تدفعه إلى اتخاذ قرارات بإنهاء حياته, فالمؤمن لا ينتحر حزنا على شئ ماض ولا خوفا من شئ قادم.



[1] صحيح مسلم : كتاب الزهد والرقائق
[2] ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى-في كتابه(عدَّة الصَّابرين وذخيرة الشَّاكرين)
[3] رواه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم
[4] رواه ابنُ حِبَّانَ والترمذيُّ في جامِعِه