أ.د. الشريف حاتم العوني
الجمعة 24/01/2014
علاقة المتقين بالمعاصي علاقة معقدة ! ليس من السهل إدراكها ؛ إلا إذا اغترفنا من معين القرآن الكريم غرفةً تروي ظمأ جهلنا .
يقول الله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
فتبدأ الآية الكريمة بـ{الَّذِينَ} وهو اسم موصول ، والمقصود بهم في الآية هم (المتقون) ؛ لأن الآية قبل هذه الآية كانت هي قوله تعالى : {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ، ثم ذكر صفات المتقين ، فقال سبحانه : { الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } ، ثم قال تعالى { {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله ... } .
فالآية إذن تذكر صفات أشرف درجات المؤمنين المسارعين إلى مغفرة الله تعالى ورضوانه والموعودين بجنة عرضها السموات والأرض : وهم المتقون .
ولكن الغريب أن الآية لا تنزه هؤلاء المتقين من المعاصي ، كما قد يتوقع بعضنا ! بل إنها لا تنزههم حتى من الكبائر (الفواحش) ، كما قد يتوقعه كثيرون منا !! بل الآية لم تكتف بعدم تنزيه المتقين من المعاصي ، بل إنها لـتُـثني علىهم بارتكابها !! نعم .. تُثني عليهم بارتكاب المعاصي ، لكن في حالةٍ واحدة فقط : هي حيث يُتبعونها بالاستغفار الصادق ، الذي يستلزم فيما يستلزم : عدم العزم على الإصرار !! ولا تُثني عليهم بارتكاب المعاصي مطلقا (فهذا لا يمكن أصلا) ، ولا تُثني عليهم بعدم ارتكابها مطلقًا أيضًا (وهذا هو ما أحببت لفت الانتباه إليه) !!
ومن هذه المقدمة ندخل في استلهام بعض فوائد هذه الآية ، فمن فوائدها :
أولا : تُبيّنُ هذه الآيةُ أن المتقين ( وهم أصحاب هذا الوصف الشريف : المتقين ) لا ينحصرون في المعصومين فقط ! فالمعصومون هم أنبياء الله وحدهم ( عليهم الصلاة والسلام ) . ولا ينحصرون أيضًا في الذين يجتنبون الكبائر ، ممن لا تتجاوز معصيتهم الصغائر من الذنوب ، فليسوا محصورين في الذين لا يرتكبون الكبائر ولا يأتون الفواحش فقط ! فهذه الآية توضح أن المتقين قد يقترفون حتى الفاحشة ، وقد يقعون حتى في الكبيرة ؛ لكن الذي يميز هؤلاء المتقين من أهل الإيمان عن غيرهم ممن يقترفون الآثام (صغيرها وكبيرها) : هو أن المتقين يسارعون إلى طلب المغفرة ، أي إلى الاستغفار الحقيقي (بالقلب واللسان) .
وذلك أن وصف الفاحشة لا يكون وصفا لصغائر الذنوب ، كما قال تعالى { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ } ، فجعل الله تعالى ( اللمم ) وهي الصغائر شيئا مخالفا للكبائر والفواحش ، مما يبين أن الفواحش جنس من الكبائر ، أو لقب آخر لها .
ومن معاني هذه الفائدة : أن مجرد ارتكاب الكبيرة لا ينافي صفة التقوى ؛ إلا مع الإصرار (الذي سيأتي بيان المقصود به ) ، ومع عدم الاستغفار .
ووازنوا كلام الله تعالى هذا بما يشيع بين كثير من المسلمين ، بسبب وَعْظ جهلة الوعاظ ، من استحالة أن يجتمع وصف المتقين مع ارتكاب فاحشة .
ولذلك يكون الكلام الآتي للإمام أبي القاسم القشيري على جماله ، وعلى صحته (من وجه) ؛ لكنه ليس هو معنى الآية ! وذلك عندما قال (رحمه الله) في تفسيره : ((ويقال فاحشةُ كلِّ أحدٍ على حسب حاله ومَقامه ، وكذلك ظلمهم . وإن خُطور المخالفات ببال الأكابر ، كفِعلها من الأغيار !
قال قائلهم [شعرًا] :
أنت عيني وليس من حقِّ عيني
غضُّ أجفانها على الأقذاءِ
فليس الجُرم على البساط كالذّنب على الباب .
ويُقال : فعلوا فاحشةً : بركونهم إلى أفعالهم ، أو ظلموا أنفسهم : بملاحظة أحوالهم ؛ فاستغفروا لذنوبهم ، بالتَّـبَـرِّي عن حركاتهم وسكناتهم ، علمًا منهم بأنه لا وسيلة إليه إلا به ، فخَلّصهم من ظلمات نفوسهم . وإن رؤية الأحوال والأفعال لَظُلُمَاتٌ عند ظهور الحقائق ، ومنْ طهَّره الله بنور العناية ، صانه عن التورط في المغاليط البشرية)) .
فهذا كلام جميل جدا ؛ لكن لا ينبغي أن يخالف ظاهر الآية الواضح ، من أن المتقين قد يقعون في الكبيرة من كبائر الذنوب !
وسنكمل بقية التعليق على هذه الآية الكريمة في مقال الأسبوع القادم بإذن الله تعالى .