الموضوع: تأملات في رحلة موسى مع فرعون

تأملات في رحلة موسى مع فرعون
قال تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ [15] فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ [16]).

ليجازي الله كل إنسان بما قدم في الدنيا واجتهد ، فلا يقفن بينك وبين العمل للآخرة والسعي لها من لا يعترف بها ولا يقدم لها شيئا ، وكذلك لا يصدنك عنها الذي ينغمس في الدنيا والمحرمات والشهوات ، وكذلك لا يصدنك ويثبطك عنها هذا الذي لا يفعل الطاعات والقربات ... فإنك إن صدك الكفار والمنافقون وأهل الشهوات والهوى والمعاصي والمثبطون هلكت وخاب وخسر سعيك ...( فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ )

قال تعالى : (اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ) نعم فرعون ... نسمي الظالم باسمه ، ولا نمطره بوابل من السباب والشتائم (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ).

قال تعالى ـ حكاية عن موسى ـ : (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا [33] وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [34] إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا [35]).

نعم ، فإن شرحت صدورنا للدعوة إليك ، ويسرتها لنا ... ذكرناك كثيرا ...
فالدعوة إلى الله تعالى والأمر والنهي ذكر وتسبيح لله العزيز .

قال تعالى : ( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي ).

هذا حال أولياء الله تعالى يحبهم الله ويصطفيهم ليحببهم إلى الناس .

قال تعالى : ( وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ).
لتذكرني وتحبب الناس إلي وفِيَّ ، فأنت دائم الذكر لي .... والموفق من فرغه الله لعبادته ...
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَيْكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ)).

قال تعالى : (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَىٰ [45] قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ [46]).

أسمع وأرى في كل حال من أحوال دعوتكما لفرعون ،فلا تخافا وانطلقا إليه

قال تعالى: (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ [47] إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ [48]).

ما أجمل هذه الرسالة وهذه العبارات الإلهية وما حسن براعتها ... ففيها من الأدب الجم ، وهدوء التعبير ، وقوة الحجة ، وطمأنة المتبع لها ، والتخويف من الاعراض عنها ...

حتى إن قال فرعون بعدها : ( فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ ). ...
ثم لما أصر وغره منصبه وقوته وكذب بموسى قال : (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ [57] ).

قال تعالى ـ حكاية عن فرعون ـ : (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ [57] فَلَنَأْتِيَنَّ كَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى [58]).
وقال تعالى ـ حكاية عن سحرة فرعون ـ : (قَالُوا إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ [63] فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا ۚ).

يا سبحان الله ... نفس قول فرعون قاله أتباعه وسحرته ... وهذا على كل العصور يقول الملك أمرا ويردده أتباعه بدون علم ولا بصيرة فقط لمجرد أنه قاله ...

قال تعالى : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَىٰ [67] قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَىٰ [68]).

بعد أن اجتمع موسى مع السحرة ، وبعد أن قال الله تعالى له : (قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ). لا يزال موسى يحتاج معية الله تعالى دوما لمساندته وتثبيته ، وليس موسى وحده هو الذي يهزم جند فرعون ، بل معية الله هي التي تهزمهم : (قُلْنَا) يا موسى (لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَىٰ). اثبت يا موسى نحن معك ، ولا تخف ، أنت على الطريق الصحيح المستقيم (إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَىٰ) وغيرك من السحرة وصاحبهم الأدنى . ... فسيكفيكهم الله ...

قال تعالى ـ حكاية عن السحرة بعد أن آمنوا ـ : (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [72]).

لم يفكروا بعد أن آمنوا بأي شيء من أعراض الدنيا ... ولو حتى أن تزهق أرواحهم

(إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ [73]). والمعتصم بالله والسائر في طريقه هو الباقي وإن مات في الدنيا .

قال تعالى : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ [77] فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ [78] وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ [79])

يسميه القرآن فرعون في بداية لقائه مع موسى ويسميه فرعون في مطاردته لموسى حين أن جاءت نهايته هو وجنوده ، ولم يمطره بوابل من السباب والشائم ... "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبابا ولا فحاشا ولا لعانا".

قال تعالى : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ).

وفي النهاية حتما سيزول الظلم وسيهلك الظالم ... المهم عدم الطغيان والصبر وعدم التعدي ، لأن الطغيان سبب في الهلاك .

قال تعالى : (فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ).
لا هَمّ لأتباع فرعون وأنصاره إلا المال والجاه والمنصب والتقرب منه .

قال تعالى : (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ).
نعم مناصبكم محفوظة وأجوركم موفورة غير منقوصة .

قال تعالى ـ حكاية عن فرعون ـ : (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنّ َكُمْ أَجْمَعِينَ).

يا من تعصون أوامر الملك وتخرجون عن الالتزام بقراراته ستطردون من وظائفكم وسيغضب عليكم ، بل وسيسجنكم وسيقتلكم شر قتلة ...

قال تعالى عن سحرة فرعون التائبين : (قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ . إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ).

الفقر الذي عند الله غنى ، والغنى الذي عند الفرعون فقر .

قال تعالى ـ حكاية عن خطاب فرعون لموسى ـ : (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ).

هذه عادة الملوك .. من يعارضهم ويواجههم السجن والنفي .... ـ فليتكلم بما يشاء فهو مسموح به إلا أن يمس جاهه ومنصبه بأذى فإن تكلم فجزاؤه السجن ...

قال تعالى : (وقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ . لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ)... .

إنها دعوة للناس للتجمع والحشد ليزداد فرعون بطشا وظلما لهم ... حيث يمنع عنهم النور الإلهي الذي جاء به موسى بتكذيبه على الملإ

قال تعالى : (فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ).

يحتاج الناس لمن يثبتهم ويقودهم ويقوي عزيمتهم على الصبر والثبات على الحق .... أي يحتاجون في أيام البلاء إلى قائد يقودهم ويأخذ بأيديهم ويوجههم إذا تاهوا وانحرفوا (كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)...
وفي هذه الظروف الصعبة ينفع الصادقين صدقهم وترفع الأيدي بالدعاء والتضرع لله تعالى ، والله يفرج بذلك ويقبل على عبده الذي يقبل عليه ...