فقه الاقتناع
تعريف وتمهيد:
" قنعت" الإبل والغنم قنعا مالت لمأواها، وأقبلت نحو أصحابها، وقنعت الشاة ارتفع ضرعما، وفلان قنوع: رضي بالقسم واليسير، فهو قانع وقنيع "ج" قنع، وهو قنيع "ج" قنعاء، وهو قنع وقنوع أيضا، وهي قنيع وقنيعة. وقنيعة "ج" قنائع، وقنعه رضاه. واقتنع بالفكرة أو الرأي قبله واطمأن إليه، أنظر المعجم الوسيط مادة ( ق . ن . ع ).
وفقه الاقتناع: فهم حقيقته وتدبرها التدبر، ليس بآلة العقل فقط، بل بالكيان والوجدان، إذ مصطلح الفقه كما لا يخفاك ليس يساوي العلم، الذي مصدرهُ العقل، بل هو أعم وأشمل، فالفقه يساوي العلم العقلي وزيادة، أي العلم القلبي؛ والقلب بضعة من العقل؛ ومعادلة ذلك كما يلي:
فقه = علم عقلي + علم قلبي.
فلنحفظها فإنها مفيدة، إن شاء الله.
الفقه بمسائل الاقتناع، حقيقته، أسبابه، نتائجه، مصادره... من الأمور التي يجب على الداعية إلى الله أن يكون عالما بها فقها، كما يحتاجه كل متواصل، مدركا إياها الإدراك الأكمل الأتم، لينزلها التنزيل المطلوب، وهذه هي غاية الأمور، وملاكها. إذ حقيقة الشيء- كل شيء- عند تطبيقه تتضح.
والجهل بهذا الفقه سبب في دخول الداعية / المعلم / الخطيب/ الأب / المربي/ المتواصل... متاهات كان في غنى عنها لو أنه كان على وعي به، كان سيمكنه من اختصار الطرق، وبلوغ الهدف في أقرب وقت، وبأقل جهد وتكلفة.
نحو نظرية في الاقتناع
نكون مخطئين – أفحش الخطأ – عندما نربط الاقتناع بقوة الحجة البرهان، فقوة الحجة والبرهان، والدليل، نقليا كان أو عقليا، لا تؤدي بالضرورة إلى الاقتناع، الاقتناع بالفكرة، بالموقف، بالرأي، بالسلوك، هو شيء خارج عن ذلك كله، ولا يتأثر به. أو بكلمة أخرى مكان الاقتناع ليس هو العقل، بل النفس، إن أعطت الإشارة للعقل اقتنع ورضي واستجاب، وإن لم تعطه امتنع، سواء أكانت الحجة دامغة أم قاتلة، فلا مكان للحجة في هذا السياق، ولا فعل لها في هذا السباق.
المانع من قبول الرأي والموقف والسلوك... شيء كامن قابع في النفس، أو هو الهوى. يتصدى رافضا مضعفا لقويِّ الحجج والبراهين، بأشياء واهية وتصورات خاطئة، بل إنك تلفي قائلها غير مقتنع بها، إنما قالها ولفظها لشيء في نفسه صونا لماء وجه هواه – فيقول الهوى للعقل؛ باعتباره ممحصاً للحجج والبراهين: لا تقتنع ولا تستسلم لها، وكن صلبا ...
إنها والله ورطة ما بعدها ورطة: عقلٌ مسلم للحجج والرأي ونفس / هوى ممتنع، غير راض.
تجد هذا المتورط متلعثماً في كلامه، كثير الاستدراك، غامض الفكرة عازفا على وتر العموميات من المسائل، حريصا على ترك الجزم، كثير اللف، والدوران، خارجاً عن الموضوع ومولدا للكلام... ذلك حفاظا على أنانيته، فيكون الحوار تبعا لذلك مملا ًعقيما تركه أفضل وأفيد من الخوض فيه.
هنا نرتطم بسؤال نعتقده مهما كل الأهمية:
أين هو العقل الذي قلنا فيه وعنه الكثير؟ أين هو ذلك العقل الذي عقدنا عليه الآمال، وربطنا به الأحلام؟ أين هو؟
هذه الأسئلة تشككنا في سلطة العقل، التي عادة ما نسمع بها، ونقرأ عنها؛ فنندهش للأمر ونستغرب ويخامرنا الشك في سلطانه.
صحيح: العقل هو ما يميز الإنسان عن غيره ، فلا أحد ينفي هذا، ولكن نحن هنا بصدد مقاربة قيمية توازن بين العقل، مصدر التخطيط والبناء والتنظيم، والاستنباط، والموازنة، وتستطير المشاريع، والنفس أو ما عبرنا عنه بالهوى، من حيث طغيان سلطانها على سلطة العقل في حالات خاصة .
ظُنَّ أن الحجةَ إن كانت قوية، والبرهان إن كان دامغا فرضا وجودهما على العقل وألزماه الامتثال لأمره، لكن ذا غير كائن، فالبرهان والحجة ليسا ملزمين للشخص، لقوة الدليل، ألم تر أن الأنبياء والرسل، بفضل ربهم، بسطوا الحجج والبراهين بسطا، ووضحوه إيضاحا، وألقوها بين أيدي أقواهم نجوما ساطعات، فما آمنوا ولا أسلموا، بل النفر المسلم منهم قليل والنزر يسير- كما تسجل ذلك في بدايات الدعوة- دع المعجزات الواضحات وما مَكَّنَهُم ربنا منه ليكون بين أيديهم، وبأيمانهم حججا وبراهين ودلائل.
لم يكُ ذا والله مجد أمام تعنتهم، وهواهم. أهواؤهم طغت على عقولهم، فأبت عليها الخضوع، وليس هذا طاعنا على الحجج، بل لشيء في النفس جعلهم لا يقتنعون ودفعهم إلى الإعراض والنكران، والعتو في الأرض مفسدين.
بناء على ما سبق: إن العقل تابع لا متبع، خاضع لشيء اسمه الهوى كما عرفت، وحب الذات، منتظر إشارته، فإن أشارت أثبت، وقال: نعمْ، وامتثل، وإن لم تُشِرْ عليه، نفى وقال: لا ، وحجم.
فجهاز التحكم نفسٌ لا عقل، والنفس في هذه الحالة طاغية على العقل تديره كما شاءت. قال تعالى في سورة الشمس: " ونفس وما سواها، فألهما فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " ( الآيات: 7 – 8 – 9 – 10 ).
صدقت يا رب العزة والجلال فقد أفلح وفاز وظفر من زكاها وطهرها، وأخلصها لربها، ونقاها، وأدبها، وخلصها من أنانيتها، وحسدها، وطغيانها، وخمولها ودعتها، والخيبة للذي دساها وأخملها، وجعلها حيث لا ترى نعمة التقوى، والإيمان والهدى والنور.
فما أدقَّ لفظ أفلح، ولفظ خاب، فهو فلاح شامل، إذ إنه نابع من جهاز قوي، قطب رحى كل العمليات، فالفكرة لا تكون خصبة إلا والنفس صافية هادئة ساكنة، وكذلك هي خيبة شاملة..
وإذا لم يدافع العقل عن صاحبته النفس فعمن يدافع، ومن ينصره؟
ظنَّ بعض الحمقى أن العقل منتصر للحق الحجة والبرهان، وهذا غلط، إنه ذائد عن النفس، فهي مقوده كما عرفت، مدافع عنها مرض إياها، فإن لم يفعل فمن سيحقق توازنه؟ فكان أولى به أن يدافع عمن يأويه ويحميه.
لا يكون الإقناع إلا عندَ وجود شيء اسمه القابلية- أي الاستعداد الداخلي لتقبل رأي الآخر، وموقفه وسلوكه- أو الرغبة في القبول: فهذه الرغبة وذلك الاستعداد يرسلان سيالة أو إشارة؛ كيمياوية وكهربائية؛ تبيح للعقل الاقتناع، أو بكلمة أكثر دقة تبيح له التعامل مع المعروض (الموقف، السلوك، الرأي ... ) فيفتح العقل بابه آنذاك ويبدأ العمل، أما والنفس غير راضية فالعقل لا يعمل.
العبرة ليست في قوة الحجة وصلابتها، بل العبرة بمحتفات لها آثار كبيرة في حمل الكلام الموقف / السلوك محملَ الصدق واليقين، والتأشير عليه بالقبول، وبذلك تصبح أوهى الحجج أقواها، وجميل الكلام فعالا نفاذا. واستغلال المقام مهم أي أهمية، فكما تعرف فلكل مقام مقال، ولكل قوم لسان، وروعة الإلقاء سبيل الإقناع، كما أن دقة الإشارة، وروعة العبارة هزازة للنفوس، مقتحمة حصن العقول.
العقل كائن طيع، ليس صارما، كما نتصور، أو كما صور لنا، فهو عضو جميل، يحب الجمال، يصغي لأنين النفس، فيتأثر بها أيَّ التأثر، فقد يرى في بعض الأحايين الحق أبلج واضحا ناصعا، لكن النفس وهواها يمنعانه من الخضوع ويردعانه، فهو بين مطرقة الحق الكامن في مبادئِه وقوانينه الحكمية والتقييمية (وهي بإذن الله وتوفيقه مكتسبة) و سَنْدَان الهوى الآمر بكل مريح، ممتع، سهل، يسير، فبطبعه ميال إلى ما لا مشقة فيه، ولا نصب.
نقطة الانطلاق في التربية والتأديب يجب أن تكون من النفس، والتركيز كل التركيز يجب أن يكون عليها. فهي كما سبق، قطب رحى الجسم، هي المتحكمة فيه، المسيرة له، الدافعة الناهية، الزاجرة الرافضة المحبة الكارهة... والقبول الحقيقي قبول قلبي، وتهييؤه للقبول حتم لازم لمن أراد الإقناع الحقيقي. وقمة الاقتناع الانطلاق رأسا إلى الفعل.
تزكية النفس والحرص على أدبها وصقلها قبل نعومة الأظافر، وبعدها، أصوب للسير في طريق الرشاد، فإن لم تهذبها التهمها واقعها، ينتزعها منك انتزاعا.
اعلم أن النفس تولد صفحة بيضاء، إن لم تكتب عليها أيها الأب، وأيتها الأم، وأيها المربون... فإنها سترتمي في أحضان المجتمع لملء الفراغ وتعبئته، فهي لا تحب البَطَالة، فإذا لم تكن أنت أهلا للحفاظ عليها وصيانتها ورعايتها، في الوقت المناسب انتقلت إلى أيدي غيرك -ارتماؤها في أحضان المجتمع بعَجَره وبجره - لتملأ الفراغ.
لما أهمل الناس، معظمهم، تهذيب نفوسهم وأبنائهم أصبحت المدارس تعاني من مشاكل عويصة، تتمثل بالأساس في غياب الرغبة النفسية، لدى أطفالهم. فتجدهم في حجرات الدرس وكأنهم على الجمر قعود، تنتظرون متى يرن الجرس ليتدفقوا ويتحرروا، فذلك كله آيل إلى التربية التي لقنوها، فطغت على نفوسهم وتحكمت في عقولهم.
يتبين من هذا أن الاقتناع ليس متعلقا بقوة الحجة، وقوة البرهان، وكثرة النصوص القرآنية والسنية، أو من تراث السلف الصالح، وإنما معلق بشيء اسمه القابلية، أي الرغبة في الاقتناع والامتثال والتصديق، ومصدر هذه القابلية، ونبعها
النفس أو القلب فهو الذي يؤشر على السلوك والكلام / الفكرة ... معطيا إياها القابلية، وفاتحا المجال واسعا للعقل ليتعامل معها، ويتدارسها، وخير دليل على ذلك:
- الرسل والأنبــــــياء : فرغم قوة الحجج التي جاؤوا الناس بها، أبوا إلا العناد والرفض والكفران، وهم عن آياتها معرضون، فرغم قوتها لم تك هناك قابلية قلبية تأذن للعقل بتمحيصها والتعامل معها.
- المناظرات العلمية / الأدبية: خذ مثلا برنامج الرأي والرأي الآخر الذي تعرضه قناة الجزيرة، فما علمنا لحد الآن أن أحد المتناظرين أقتنع بفكرة غيره لقوتها أو حجيتها ذلك أن القابلية غير متوافرة.
وبناء على هذا الذي سبق، فإن الاقتناع الحقيقي لا يتحقق بالعنف سواء أكان عنفا ماديا كالضرب أو الحبس، أم كان معنويا / رمزيا، كعرض الرأي على الآخر بالقوة. فالإقناع لا يكون بالإكراه والإلزام.
قال تعالى في كتابه العزيز: " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي "(البقرة/256)، بل يكون بوفير الجو النفسي الملائم، وخلق العلاقات الطيبة، والانسجام مع الطرف الآخر، قال عز وجل: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " ( النحل / 25 )
وكل هذه الخطوات التربوية تؤثث/ تهيؤ للقبول، وتهيئ النفس للاستجابة والرضا، وقال جل جلاله : " فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ". (آل عمران / 159 ).
فذلكة القول:
الاقتناع بالفكرة، بالموقف، بالسلوك، بأي أمر، غير مرتبط بالحجة والبرهان، بل مرتبط بالقابلية النفسية للاقتناع، أي قابلة الشخص ليقتنع.
فالقلب هو الذي يأذن بذلك، لا العقل . لذا فمخاطبة القلوب أولى وأجدى من مخاطبة العقول.
العقل كائن طيع، يطيع النفس، ويمتثل أوامرها، إذا قالت: لا، يحجم وإذا قالت: نعم يقبل.
فنقول لطالب الإقناع عليك بالمسالك القلبية والنفسية، ألِنْها أولا واعرض عرضك ثانيا. حقق الاتصال معها وأمْرِرْ ما تود إمراره.
لو كان خطاب الحجة مجديا لامتثل الكفار الدين لأول وهلة، لأول حجة. وليست تخفانا قوة حجج الأنبياء والرسل، التي أيدهم بها رب العزة والجلال، وكانت مما اشتهر بها القوم في ذلك الزمان والمكان. لكن هيهات أن يقتنع قلب عنيد، مريض. خذ كذلك برنامج الاتجاه المعاكس الذي تعرضه قناة الجزيرة، فهل حدث أن اقتنع أحد المتحاورين؟