دراسات في التصوف الإشراقي
البوادر الغيبية في النوادر العينية
للشيخ عبد الكريم الجيلي



بقلم فضيلة الشيخ عبد الرحمن الوكيل رحمه الله


نقلا عن كتاب (مجموع مقالات العلامة عبد الرحمن الوكيل رحمه الله) جمع وترتيب وعناية شعبان عبد المجيد محمد بن عوض بن عبد الغني المصري
دار سبيل المؤمنين للنشر والتوزيع ص 385 -380


يقول الشيخ الجيلي في كتابه (الإنسان الكامل) : (مثل العالم مثل الثلج ، والحقّ - سبحانه وتعالى - الماء الذي هو أصل الثلج ، فاسم تلك الثلجة على ذلك المنعقد معار ، واسم المائية عليه حقيقة ، وقد نبّهت على ذلك في القصيدة المسماة : بالبوادر الغيبية في النوادر العينية ، وهي قصيدة عظيمة لم ينسج الزمان على كمّ الحقائق مثل طرتزها ، ولم يسمح الدهر بفهمها ، لإعتزازها)
وقد بحثنا طويلا على هذه القصيدة التي يقول عنها صاحبها : (لم ينسج الزمان على كم الحقائق مثل طرازها) حتى أذن الله سبحانه ، فعثرنا عليها وأخذنا ندرسها بعناية ، دراسة واعية ، نستهدف من ورائها شيئا واحدا ، وهو الوصول إلى الحقيقة ، حقيقة ما يقصده الجيلي القطب الصوفي الكبير .
فنحن الآن في عصر يبحث عن القيم النبيلة وينشد أرفع المثل ، عصر الحياة من جديد ، والحياة الطيبة إشراق من الدين الطيب ، والمثل التي تتسم بالنبل والقداسة والرفعة إنما هي سلسبيل صاف من نبع الدين الحق .
فنحن - إذن - لا نبحث بحثا نظريا لا هدف له ، وإنّما نبحث ، لنضع على الطريق ، معالم الهداية للسالكين ، ولنؤكد للذين ينشدون الحقيقة : أنّ القرآن والسنة الصحيحة - وحدهما - هما النبع المقدس ، والمنار الخالد للهداية الإلهية ، فلسنا في حاجة إلى هدى أو حقيقة إلاّ من هذا الذكر الحكيم ببيان من نزل به الروح الأمين على قلبه صلى الله عليه وسلم .
فهل ما سطره الجيلي يتصل بأسباب الهداية القرآنية ؟
وهل ما دعا إليه الجيلي يصلح أن يكون سبيلا يسلكه الإنسان ؛ ليصل منه إلى الحقيقة ؟ وهل اتى الجيلي في هذه القصيدة بشيء جديد ؟ أو هو يسير في الطريق الذي سلكه شيوخه من قبل ؟
وهل الطريق يصل بسالكه في نهايته إلى رضوان الله سبحانه ، وسعادة الأولى والأخرى ؟
هذه أسئلة أقدم بها لهذا البحث ، وأرجو أن يجد القاريء فيما نكتب أجوبة صادقة صحيحة ، مدعمة بالأدلة القاطعة من هذه الأسئلة .
ونحب أن نؤكد لمن يتعصبون للجيلي أو لغيره ، أننا لن نحمّل ألفاظه غير ما أراد لها الجيلي نفسه من معنى ، وأننا سنقارن بين ما دان به الجيلي ، ودعا الناس إلى أن يدينوا به ، وبين دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونحب أن نؤكّد لهم : أنّنا لا نتعصب أبدا لغير الحق المشرق من هداية القرآن العظيم ؛ وبيان السنة الصحيحة .
قصيدة الجيلي في صورتها الأدبية :
جيّدة السبك في بعض أبياتها ، مفككة في بعضها الآخر ، وقد استغل فيها المحسنات اللفظية استغلالا فاحشا : (كالجناس ، والمقابلة ، والتورية) مما جعلها أشبه ما تكون بالزنجية المثقلة بالأصباغ والحلي ، هذا ما امتلأت به من أخطاء نحوية كثيرة .
وأجود ما في القصيدة من أبيات :
هي تلك التي يتغزّل فيها الشاعر ، ويكشف فيها عن لوعة الحرمان وظمإ العشق ، ووله الصبابة ، وإن كان يزعم أنه إنّما يتغزّل في الذات الإلهية ؛ ولكننا سنعرض عليك غزله ، وثمت تحكم بانه إنّما يتغزّل في إمرأة شغفته حبّا ، ثمّ تركته لسهد الحبّ وليالي حرمانه ، وأسحار ارقه وشجوه ودموعه .
وهكذا كان شيوخه من قبل ، فابن عربي الحاتمي استعصت عليه ابنة الشيخ مكين الدين ، فغلزلها وقدّم إليها قربانه الأدبي (ترجمان الأشواق) ولكنها أبت أن تستجيب للهفته ، أو أن تؤمن -كما صوّرها - بأنّها هي الذات الإلهية في صورة امرأة جميلة .
ثمّ إنّ الجيلي يسطو على معاني غيره ممن سلكوا نفس طريقه من قبل ، ويصوغها صياغة جديدة ، ليس فيها الجمال الأدبي الموجود في الأدبيات التي صيغة بها من قبل ، والذي سرق منهم : ابن عربي ، وابن الفارض ، وما نسب لرابعة العدوية
فايمع إليه يقول متغزّلا :


وبي من مريض الجفن شقم مبرّح ....................... ولي في غصيّ القلب دمع مطاوع


إنّ (مريض الجفن) و(عصي القلب) يكشفان لك - في غير ما خفاء - أنّ الجيلي إنّما يخاطب امرأة تنام أجفانها للإغراء والفتنة ، ويأبى قلبها القاسي أن يحنو على وجيعة الجيلي العاشق .
أمّا سرقته من ابن الفارض فتتجلّى لك واضحة في قوله :


فكنت أنا هي وهي كانت أنا .............................. .. وما لها في وجود مفرد من ينازع


وأبن الفارض يقول :


وما زلت إيّاها وإيّاي لم تزل .............................. ولا فرق بل ذاتني لذاتي أحبّت


وأمّا سرقته من ابن عربي ، ففي قوله :


وإيّاك والتنزيه ، فهو مقيّد .............................. وإيّاك والتشبيه فهو مخادع


أخذ من ابن عربي قوله :


فإن قلت بالتشبيه : كنت محدّدا ....................... وإن قلت بالتنزيه : كنت مقيّدا


وأمّا سرقته من رابعة ، ففي قوله :


أحبّك لا لي بل لأنّك أهله .............................. وما لي في شيء سواك مطامع


أخذه عن قول المفتونة رابعة : (ما عبدتك طمعا في جنتك ، ولا خوفا من نارك ، وإنّما عبدتك لذاتك)


وأمّا أخطاؤه النحوية ، فما أكثرها . مثل :


فكل بهاء في ملاحة صدره ......................... على كلّ قدّ شابه الغصن يانع


ومثل قوله :


فعينك شاهدها بمحتد لأصلها ...................... فإن عليها للجمال لوامع


وأمّا استغلاله للمحسنات اللفظية ففي مثل قوله :


ويرفع مقدار الوضع جلاله ...................... إذا لاح فيه فهو للوضع رافع


قابل بين ضدّين في هذا البيت ، وفي قوله :


فليس لنفسي غير حالة وقتها .................... وقد فات ماضيها وغاب مضارع


ورّى في كلمتي (ماضي) و (مضارع) وضمّن البيت مصطلحات نحوية (حال - وقت - ماض - مضارع) فليس في شعره الصوفي من جمال ، اللهم إلاّ إذا هتك القناع عن الشعور المحترق من لهفته على جسد ملأ دنيا صبابته وهيمانه


.............................. ............................