أحلام شاب عزب
عبدالكريم إبراهمي
ناقد أدبي
كثيرون هم الذين يظنون أن اللذة إنما تدرك حينما يصيب زيد من الناس ما يشتهيه، وذلك كاللذة في زيارة مكان طبيعي خلاب، ومثلها في مسامرة الأحباب، ومثلها في إراحة البدن وإزالة الدرن. ولكن قليلون هم الذين يصيبون اللذة حينما يفتقدون ما يشتهون.


ولتسمحوا لي أيها السادة أن أشرح هذه الفلسفة الغامضة، وأفك هذه الطلاسم المعقدة، وخير ما أشرحها به، أن أحدثكم بشيء أشقه من صدري حتى يأتي الحديث وقد غذي بلبان الصدق، فإن الكلام ما ينفع أبدا إذا خلا من الصدق، ولقد قال الحكيم: كل كلام
يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز.
أنا يا سادة شاب عزب، مقبول الصورة، موفور الصحة، ميسور الحال، لم يمنعني من الزواج مانع، إلا أني لم أجد بعدُ تلك الفتاة التي أحلم بها، وأنا أبحث عنها، وأود لقاءها اليوم قبل الغد، وأنا أتعجل معرفة صورتها، وما اسمها؟ ومن أين هي؟
ثم إن حالتي هذه، قد تضطرني بين الفينة والأخرى، إلى أن أنزعج من طول الانتظار، وأعاني شقاء البحث والسؤال، فأحس الكآبة في قلبي، لأنه لم يعرف بعد أليفه، ولذلك يخيل إلي أن الغيب عذاب للقلب، حتى كأنه جبل يجثم عليه.
ولكن، سرعان ما ينطلق بي الخيال وقد مزق حجب الغيب، يسبح بي في الفضاءات الواسعة، وتجدني قد انتقلت من حال إلى حال، وإذا الغيب الذي كان جحيما صار الآن جنة ونعيما، وإذا بي أزور العالم ولم أتحرك. وإذا بي أرفل في لذة لا هي كاللذات، وقد
كان مبدؤها أنني لم أدرك ما أشتهيه، ألا وهو معرفة الفتاة التي تكون زوجتي.
فانظروا - يا رعاكم الله ـ كيف أني أصبت هذه اللذة من حيث فقدت معرفة الغيب، وذلك أن ما منحني إياه الخيال في لحظة الاكتئاب قد لا يمنحني القدر إياه وإن القدر خير من الخيال، لأن القدر من الحكيم الخبير، وما الخيال إلا أحاديث النفس تلهي بها الروح
وتمنيها، ولكنها أيضا نعمة الله إلى المنكوبين.
كنت أتعجل معرفة الفتاة التي تكون زوجتي، والتي أخلص لها حبي ومودتي، فأسرع إلى باب بيتها أطلب يدها من ولي أمرها. ولكن.. إذا بالخيال يفتح إلي أبواب العشرات من الفتيات، لأتخير منهن من أريد وأيهن أريد؟
أأريد التي اسمها ليلى وسعدى، وغيرهما من صواحب أسماء الصبابة والحب. وكأن الصبابة لم تعرف من الأسماء إلاها، وكأن من لم يكن اسمها ليلى أو سعدى فليس للحب فيها رغبة وطمع، حتى توهم ذلك شاعرنا فسمى كل محبوبة ليلى، فقال:
كل يغني على ليلاه متخذا
ليلى من الناس أو ليلى من الخشب
كلا.. ليس الحب حكرا على ليلى وسعدى، وإنما هو كالغيث يصيب ماؤه كل من كان تحته على الأرض، ما لم يتخف، ولذا، فهو لا يصيب إلا الكرماء، أو هو كالقمر يجد نوره كل من سرى ليلا.
ومن أريد أيضا؟
أأريد التي كالحورية، لها أطيب ثغر ريحا، كأنه من أفواه الظباء، وعيناها ترنو كالمهاة، وشعرها ليل أسود مظلم، وهلم جرا.. إلى غير ذلك من أوصاف الغادة الحسناء. وكأن الحب مسابقة، ما لم تتوافر شروطها فلا مسابقة.
كلا.. فليس الحسن شرطا في الحب، إنما شرطه أن يسر الحبيبان بعضهما، ولو أن الأمر كذلك لاجتمع هوى الألف والألفين في حب الواحدة، ولو أن الأمر كذلك لأحب قيس مهاة وما أحب ليلاه.
وماذا أريد أيضا؟
أأريد أن أقلد قيسا العامري حين أحب ليلى العامرية ابنة عمه، أو عنترة حين أحب عبلة ابنة عمه، وكأن الود ما يصفو بين الإلفين إلا إذا نمت القرابة بينهما واتصلت، فلا يتحقق إلا بالقرابة في الأنساب.
كلا.. وإنا لو سألنا قيسا: أما أحببت ليلى إلا لأنها ابنة عمك؟ لأجابنا قيس: وهل الحب ميراث؟ نعم ـ ما الحب كالميراث، لا ينتقل من هذا إلى هذا إلا بعد أن يكون بينهما قرابة ونسب، وإنما هو استئناس يجده الصب في قلبه كلما رأى إلفه، أو ذكر له اسمه أو
ما يتصل به، إنما أنت قتيل من أحببت.
ومن أريد أيضا؟ وهل بيدي أن أشتهي؟ هل بيدي أن أقول: هذه تصلح وهذه لا تصلح. وأروح أصنف النساء فأجعل منهن صنفين: ما يصلح وما لا يصلح، وكأني صاحب أخبار النساء، أو كأن النساء تمر وأنا فلاح يميز جيده من حشفه.
كلا.. ما أنا وأنتم بأصحاب الرأي في اختيار أزواجنا، وإنما صاحب الرأي من خلق الرأي.
عذرا يا سادة إن كنت قد صدعت رؤوسكم بما أشتهي وما لا أشتهي، ولا تحملوا مقالتي على محمل الجد، فما هي إلا أحلام شاب عزب، مل أن يعيش وحيدا.