المخارج وضوابطها في الشريعة الإسلامية
دراسة في ضوء المقاصد والوسائل
د. فؤاد بن يحيى الهاشمي
تمهيد:
لقد ثبت بالاستقراء أن الشريعة الإسلامية معللة بمصالح العباد في العاجل والآجل، وما من حكم شرعي سواء في العبادات أو المعاملات شرعه الله -عز وجل- في كتابه، أو على لسان نبيه إلا وفيه مصلحة، سواء أدركتها العقول أو قصرت عن ذلك. كما أن الأحكام الشرعية مقترنة بهذه المصالح اقتران الوسيلة بالمقصد، لذلك وجب الالتزام بها تحقيقاً لمقصد الشارع. فإذا ثبت هذا فلابد من أن تكون مقاصد المكلف من التزامه بالحكم مطابقة لمقاصد الشارع من التشريع، وذلك لتتحقق المصالح المقررة من الشارع من خلال تلك الأحكام، فإذا خالفت مقاصد المكلف لمقاصد الشارع كانت كل أعماله وتصرفاته باطلة ولا اعتداد بها.
والتحيل غير الشرعي أحد الوسائل التي تؤدي إلى المناقضة بين مقاصد المكلف ومقاصد الشارع؛ لأن باعث المكلف أو قصده يخالف به مقاصد الشرع. أما إذا كان فعله لا يناقض الشريعة ويحقق مقاصدها فهو جائز ؛ لأنه لا مخالفة بين مقاصد المكلف ومقاصد الشارع.
و عليه فموضوع المخارج أو الحيل الشرعية من الموضوعات المهمة للدراسة والبحث، وذلك لأن كثيراً ممن تناول الحيل بالبحث لم يبينوا ماهو جائز منها وماهو محرم، وما ضوابط ذلك. والسبب يعود إلى أن الحيلة في واقع الأمر ليس من الضروري أن تكون وسيلة إلى محرم، إذ من الممكن أن تكون وسيلة إلى جائز، فتعد عندها مخرجاً من المخارج، لذلك فالأصل أن الحيل هي كل وسيلة تتخذ لتحقيق غرض، سواء كان مشروعا أو غير مشروع، يحقق مقصداً أو يهدمه. لكن جرى عرف بعض العلماء على إطلاق مصطلح الحيل على كل فعل القصد منه هو إبطال مقاصد الشرع بتحريم ما أحل أو بتحليل ما حرم. غير أن ذلك غير صحيح، وهذا ما سيتضح في هذا البحث.
الخاتمة:
من خلال كل ما مر، سواء من تعريف الحيل أو من بيان أقسامها، يمكن ملاحظة مايلي:
1-إن التعبير بالمخارج أولى وأوفق من استعمال مصطلح الحيل الشرعية، وذلك لأمور عديدة ومن أهمها، أن هذا التعبير يوحي بالمشروعية دون خداع، على خلاف مصطلح الحيلة، فهو يوحي بالخداع وكأن فيه مخالفة للشرع دائماً، مع أن المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي العام للحيل يصدق على الحيل المشروعة وغير المشروعة، لكن يبدو أن هذا المصطلح مرتبط كثيراً في أذهان عامة الناس بمعنى الخديعة والغش والمكر، لكثرة استعماله في ذلك بين الناس، ولعله صار متعارفاً عليه عند أكثر الناس أن الحيلة مضمونها خديعة ومخالفة، لذلك فالأولى استعمال مصطلح المخرج الذي لا شبهة فيه للتعبير عن الحيل المشروعة. كما أن الأمر يتعلق بالمباحث الأصولية، وهي مباحث دقيقة وفي غاية الأهمية، والأصل أن تكون مفرداتها ومصطلحاتها واضحة، لا لبس فيها، فاستعمال مصطلح الحيلة ولو قرن بمصطلح الشرعية، إلا أنه لا يسلم من النقد ويبقى محل شبهة وتساؤل، خاصة إذا علم أن من المستشرقين من تلقف هذا المصطلح واتهم الشريعة وحملها ما لا يليق بها.
2-الحيل بالمعنى اللغوي وبالمعنى العام الذي هو أصل الوضع مرادفة للوسائل مطلقاً، فهي كل حيلة يتوصل بها إلى مقصود، سواء كان حسناً أم سيئاً وسواء كانت الحيلة الموصلة إلى هذا المقصود حسنة أم سيئة.
3- الحيلة الجائزة المؤدية إلى مقصود جائز، هي ذاتها الوسيلة الجائزة المفضية إلى مقصود جائز؛ كاتخاذ الزواج وسيلة لحفظ النسل.
4- الحيلة الجائزة المؤدية إلى محظور، كالهبة بقصد إسقاط الزكاة، وكالنكاح بقصد التحليل. وهذا النوع من الحيل هو مفهومها بالمعنى الخاص، فهذه الحيلة يجب منعها وعدم اتخاذها لإفضائها إلى محرم، أما لو أجيزت لكانت في ذلك مناقضة لسد الذريعة، لذلك قال ابن تيمية: "وتجويز الحيل يناقض سد الذريعة مناقضة ظاهرة".
5- الحيلة بالمعنى الخاص هي ما كانت جائزة وأدت إلى محرم، سواء أكان ترك واجب أم فعل محرم، إفضاؤها إلى هذا المقصود إما أن يكون قطعياً أو ظنياً، فالحيلة يشترط فيها القصد .
6- المخرج يكون حيلة إذا قصد المكلف به تغيير الحكم، أما إذا انتفى القصد فلا يعد حيلة، بل مخرجاً، كما أن تحويل الحكم يكون بقلبه بالتخلص من الحرام، أو التوصل إلى الحلال بتحقيق مصلحة راجحة، أما الوسيلة التي يتخذها المكلف لقلب الحكم يشترط أن تكون مباحة في أصل وضعها، أما إذا كانت الوسيلة محرمة فهذا الفعل لا يعد تحيلاً، وإنما هو معاندة للشرع وتهديم لمقاصده.
7- فمعنى المخرج والنظر فيها يتوقف على أركانه الثلاثة، وهي القصد والوسيلة والمقصد أو المتوسل إليه.
8- الحيل المباحة المتفق على صحتها وسلامتها من سوء النية هي مخارج من الضيق، وهي تشبه الرخص التي تفضل الله بها على عباده للتخفيف عنهم من شدة التكاليف، وقت الاحتياج لذلك، وإزالة الحرج عنهم في الدين. فإذا استعملت بقصد التوصل إلى إثبات حق أو دفع مظلمة فهي جائزة في جميع المذاهب؛ لأنها حينئذ تؤدي إلى العدل وتحقيق المصلحة، أما إذا استعملت بقصد التحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعاً إلى أحكام أخر بفعل صحيح الظاهر لغو في الباطن فهي باطلة.
9- الحيل المختلف فيها يمكن الأخذ بها عند الضرورة والحرج الشديد، إن ترجح دليلها، أو تساوى مع دليل بطلانها، خصوصاً للمضطر المحرج، فيجوز الإفتاء بها له لإخراجه من الحرج والضيق، ولإبقاء حرمة الدين واحترامه في نفسه.
10- إجازة الحيل الممنوعة يؤدي إلى مخالفة قصد الشارع بارتكاب الممنوع والمنهي عنه، والشريعة تسعى دائماً إلى منع كل باب يفضي إلى الحرام وسده، يقول ابن القيم: "وإذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات، وذلك عكس باب الحيل الموصلة إليها، فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات، وسد الذرائع عكس ذلك، فبين البابين أعظم تناقض، والشارع حرم الذرائع وإن لم يُقصد بها المحرم لإفضائها إليه، فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه". ثم يعلق ابن القيم على ذلك بكلام أقل ما يقال عنه إنه حكم، وهو يدافع عن شرع الله، ويرد على القائلين بتجويز الحيل المحرمة فيقول: "وكيف يظن بهذه الشريعة العظيمة الكاملة، التي جاءت بدفع المفاسد وسد أبوابها وطرقها، أن تجوز فتح باب الحيل، وطرق المكر على إسقاط واجباتها، واستباحة محرماتها، والتذرع على حصول المفاسد التي قصدت دفعها".
11- تتجلى العلاقة بين المخارج ومقاصد الشريعة، في أن المخارج تمثل الوسائل التي توصل إلى المقاصد، والتي تأخذ حكمها من حكم المقاصد، وتسقط بسقوطها، كما أن الحيل تمثل جانب مقاصد المكلف وعلاقتها بمقاصد الشارع موافقة ومخالفة.