02-12-2013 | رمضان الغنام
وتُعد المسألة النسوية وما يرتبط بها من أمور، من أهم القضايا التي تتبناها الطروحات الغربية- في المجتمع الإسلامي- سيما الطرح الليبرالي، حيث تستحوذ القضية النسوية على نصيب الأسد في جدليات الخطاب الليبرالي العربي، حتى صار الحديث عن المرأة العربية، وما يرتبط بها من حقوق، وما يدور حولها من نقاشات؛ علامة بارزة يتمايز بها رواد هذا الخطاب والمتحدثين باسمه عن غيرهم، على مدى عقود طويلة.


مشكلة الخطاب الليبرالي-خاصة- والخطابات الغربية المبثوثة في ثنايا المجتمع الإسلامي-بصفة عامة- أنها خطابات مبتورة عن الواقع العربي والإسلامي، فالفجوات الكبيرة بين طبيعة المجتمع الغربي، وبين ما يعيشه الواقع العربي، تجعل من هذا الخطاب محاولة عبثية، لا جدوى من ورائها.
فإما أن ينمحي هذا الخطاب بسبب ردات الفعل من قِبل المحافظين في المجتمع الإسلامي، وإما أن يتلوث هذا المجتمع بفعل شذوذات تلك الخطابات، وفي الحالين لا نستطيع الإقرار بأي انسجام أو توافق أو اتفاق بين الطرح الغربي، ممثلاً في خطاباته المؤدلجة، عبر عشرات الفلسفات والأفكار، وبين المنظومة القيمية التي تحكم ويتحاكم إليها المجتمع المسلم، كما لا يمكننا التنبؤ بأي تغيير في هذه العلاقة، من شأنه إحداث أي توافق أو اتفاق في المستقبل القريب أو البعيد.
وتُعد المسألة النسوية وما يرتبط بها من أمور، من أهم القضايا التي تتبناها الطروحات الغربية- في المجتمع الإسلامي- سيما الطرح الليبرالي، حيث تستحوذ القضية النسوية على نصيب الأسد في جدليات الخطاب الليبرالي العربي، حتى صار الحديث عن المرأة العربية، وما يرتبط بها من حقوق، وما يدور حولها من نقاشات؛ علامة بارزة يتمايز بها رواد هذا الخطاب والمتحدثين باسمه عن غيرهم، على مدى عقود طويلة.
ولأن الليبرالية منتج غربي وافد ارتبطت طروحاته أكثر بالمجتمع الغربي- لا مجتمعنا العربي المسلم- فجاءت الأفكار الليبرالية الخاصة بقضايا المرأة لتمثل ردة فعل على ما كان شائعاً في المجتمع الغربي من انحطاطات فكرية، ومخالفات فطرية، وانحرافات تخص وضعية المرأة، وطبيعة العلاقة بينها وبين الرجل، وهو نفس الخلط الذي وقع فيه الخطاب الليبرالي فيما يخص قضايا الحرية، ودور الدين في حياة الإنسان، وعلاقة هذا الإنسان بباقي أفراد مجتمعه، وغير ذلك من القضايا الشائكة التي تقوم عليها الفلسفة الليبرالية، والتي تختلف باختلاف المكان والزمان، ومنظومة الأفكار الحاكمة للمجتمعات المستهدفة، سواء كانت منظومة عرفية أو دينية.
فالخلط جاء بسبب رفض التفكير في فروقات الزمان والمكان والقيم التي تحكم ويتحاكم إليها كلا المجتمعين (العربي والغربي)، فبسبب إغفال أو التغافل عن هذه الفروقات حدث الخلل، فرأينا الليبرالي العربي يتحدث في قضايا وأمور هي أقرب ما تكون إلى المجتمع الغربي، وأبعد ما تكون عن الواقع العربي، واحتياجات الإنسان الذي يعايش هذا الواقع، ولذلك ظل هذا المستغرب- صاحب الطرح الليبرالي- يعيش في عزلة فكرية وشعورية إلى وقت ليس بالبعيد، إلى أن تدارك الأمر وأخذ في تغيير وسائلة والتلاعب بها قدر الاستطاعة للتغلب على طبيعة الواقع العربي.
والحديث عن المرأة من المنظور الليبرالي كان يجب إلا ينفصل عن الحديث عن الإنسان بصفة عامة، فالليبرالية بحسب إدعاءاتها لا ترى فرقاً بين إنسان وغيره، وبناء عليه ترفض أية فروقات أساسها الجنس أو اللون أو الدين أو الظرف الاجتماعي، لكن التناول الليبرالي العربي جعل من المسألة النسوية وما يرتبط بها من أفكار وسياسات مسألة فوقية، لها اعتباراتها الخاصة، التي تختلف في تناولها عن أية مسألة ليبرالية أخرى.
وهو تناول يثير الكثير من اللغط والجدل حول أهداف الليبراليين من هذه المبالغة في التعاطي مع قضايا المرأة العربية، سيما وأن طروحاتهم تحولت من مطالبات بحقوق المرأة في التعليم والرعاية والصحة، وهي حقوق مشروعة وشرعية، إلى مطالبات بوجوب التخلي عن حزم من القيم التي تتحصن بها المرأة المسلمة، والانفكاك من كل قيد من شأنه إعاقة المسار التغريبي المرسوم لهذه المرأة.
فللمرأة في المنظور الليبرالي، والمنظور الليبرالي العربي على وجه الخصوص طبيعة خاصة، وطريقة في التناول والتعاطي تتسم بكم كبير من النفعية والانتهازية من قبل منظري هذا التيار، لتتحول المرأة ويتحول الحديث عنها، والحديث عن حقوقها إلى وسيلة ابتزاز في المعركة الدائرة بين ليبرالي العرب من جانب، وقيم ومُثُل وأخلاقيات المجتمع العربي المسلم من جانب آخر.
وكأن ليبرالي العرب لم يتعلموا من الفلسفة الليبرالية أو الليبراليين الغربيين إلا حديثهم عن المرأة، وحريتها في تعرية جسدها، وإظهار مفاتنها، وتبنيها للشذوذات، ووجوب إدخالها في حالة صدام مع قيم ومبادئ وشرائع المجتمع الذي تتواجد فيه، كإثارة قضايا مثل الاختلاط، أو قيادة المرأة للسيارة، كما نرى في الخطاب الليبرالي السعودي.
فالملاحظ أن دائرة المطالب الليبرالية لا تكاد تتسع إلا لهذه الموضوعات ولمثيلاتها، والتي تتجافى إلى حد كبير مع طبيعة المرأة العربية، والمرأة المسلمة على وجه الخصوص، فليست قضية المرأة المسلمة، قضية تعري كما نرى في طروحات الليبراليين، ولا هي قضية صراع ضد الفضيلة كما يراد لها، وإنما قضيتها قضية عفة، وصراع ضد موجات التغييب والتغريب التي تحدق بها منذ أزمنة بعيدة..
والملاحظ أيضا في هذا الطرح أن الحديث عن المرأة وقضاياها، ما هو إلا مرحلة من مراحل النمو الليبرالي في المجتمع العربي، وستاراً وراءه ما وراءه، فالليبراليون يؤمنون بمنطقية التدرج، وفي الحالة العربية تمثل المرأة لديهم بوابة الانفتاح على عالم الأفكار والأيدلوجيات على مختلف تنوعاتها، وبشكل أوضح يمكننا القول أن المسألة النسوية العربية تمثل حجر الزاوية في المنظومة الفكرية لليبرالي العرب.
فالليبراليون يدركون أن المرأة تشكل عصب الحياة في المجتمع المسلم، وأن لها دوراً كبيراً، تختلف فيه طبيعتها عن طبيعة المرأة الغربية، التي ارتضت لنفسها أن تكون مشاعاً لكل أحد، خارج إطار العلاقة المشروعة، كما تختلف المرأة المسلمة مع مثيلاتها في المجتمع الغربي في فهمها لدورها في حياة أسرتها، فهي زوجة، وهي أم، وهي مربية، وهي مديرة منزل، وهي معلمة، بعكس المرأة الغربية التي يغلب عليها وعلى حياتها الطابع المادي النفعي.
لهذا الأمر مثلت المرأة المسلمة إشكالية ومشكلة في ذات الوقت، لدى دعاة الفكرة الليبرالية ورعاتها، فرؤوا العبث بقيمها وهدمها غاية لابد منها؛ لإتمام مشروعهم الفكري الهدمي، وتمكين أيدلوجيتهم المشوهة داخل المجتمع المسلم، فهذه هي الإشكالية، أما المشكلة فتمثلت في سبل غواية هذه المرأة والانحراف بها عن غايتها التي حددها لها الشرع الحنيف؛ لهذا سلك الليبراليون في سبيل ذلك مسالك عدة، كان منها حديثهم عن المساواة بين المرأة والرجل، وحرية المرأة في جسدها وعلاقاتها بالآخرين، وحقها في تقرير مصيرها دون الالتفات لأية معايير شرعية أو عرفية أو خلقية.
فمثَّل الحديث عن المساواة بين الرجل والمرأة أحد الجدليات المستعرة في خطاب ليبرالي العرب، حيث دعا الليبراليون إلى مساواة المرأة بالرجل في كل شيء مجاراةً للرؤية الليبرالية الغربية، دون الالتفات إلى طبيعة المرأة من حيث كونها إنساناً، لها من الخصائص والصفات ما يميزها عن الرجل.
والناظر للفهم الليبرالي لمعنى المساواة بين الرجل والمرأة يجده فهماً مادياً بحتاً، يعامل المرأة والرجل باعتبارهما جمادات لا روح فيها ولا مشاعر، ليتحول كل من المرأة والرجل إلى رقمين في آلة العدِّ الليبرالية، وهو جنوح عن العدل، وتطرف إلى حد الظلم، ففي هذه التسوية خرق للفطرة التي خلق الله المرأة عليها، وللعدل الإلهي الذي أوجبه الخالق على عباده..
فمن قال أن من دواعي المساواة بين الرجل والمرأة التشارك في كل شيء، ودخول المرأة في آتون صراع محموم يخرجها عن كينونتها الأنثوية؟ ومن قال أن مخالفة الفطر، والضرب بالنص الشرعي عرض الحائط ضماناً لحصول المساواة بين المرأة والرجل؟ ومن قال أن من شروط حصول العدل التساوي في كل شيء دون النظر إلى حال كل من المرأة والرجل ومعرفة احتياجاتهما الفعلية؟
لقد فهم العقل الليبرالي المساواة على أنها إشباعات جسدية دون النظر إلى الجانب الروح (النفسي) في حياة الإنسان، وهو قصور لا يكاد يخلو منه مذهب إنساني أو فلسفة وضعية. وتعد المسألة الجنسية من أشنع المسائل في الطرح الليبرالي العربي، حتى ذهب البعض إلى المطالبة بتعدد الأزواج، مساواةً لتعدد الزوجات، بل ذهب عدد من رهبان هذا المذهب إلى أبعد من هذا، وذلك بالمطالبة بحذف آيات من القرآن الكريم؛ لإخضاع النص القرآني لآرائهم، فكتب بعضهم مطالباً بنسخ قول الله تعالى: (وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ)[سورة البقرة:220]، لتتمكن المرأة من الزواج ممن تشاء.
والغريب في مسألة النسخ أو التفاسير الليبرالية المغلوطة لآي للقرآن الكريم، أنها إقرار ضمني بسيطرة النص القرآني، رغم رفض منظري المذهب لأية قيود مهما علت درجة سلطانها، وفي هذا الأمر تناقض شديد مع أبسط القواعد الليبرالية التي تنادي بالحرية المطلقة، لكنه تناقض نفعي يتسق- إلى حد كبير- مع حالة النفاق الليبرالي والمداراة التي يلجأ إليها غالب الليبراليين العرب، للخروج من مأزق رفض النص، والمصادمة الفجة لمسلمات العقل المسلم.
وإلى جانب مسألة المساواة هناك إشكالية كبرى في الفهم الليبرالي لمعنى الحرية، فالناظر للحالة الليبرالية في دولنا الإسلامية يجدها تتغلف بقدر كبير من العنصرية في الفهم لمعنى الحرية، فالحرية في المفهوم الليبرالي العربي حرية مناكفة للدين والعرف، وهي تخص طبقة معينة من الناس، ومطالب معينه يغلب عليها التبعية للغرب. فعلى الصعيد النسوي، يناصر الليبراليون دعاةَ الانحلال والعري والتطرف الفكري، في مقابل الهجوم الشديد على طلاب العفة أو أصحاب المشاريع المناوئة لحركات التغريب والتبعية.
فللفتاة أن تختار التعري، وفعل ما تشاء وإن كان شاذاً، لكنها- بحسب المنطق الليبرالي- تكون متطرفة في حال اختيارها للنقاب، أو دعت إلى العفة، أو نبذت الاختلاط، فرغم أن الحرية نطاق مفتوح يجمع بين مختلف الطبائع البشرية (اليميني، واليساري، والوسطي)، إلا أن الناظر لقطاع الليبراليين العرب وما في جعبتهم من المطالبات، لا يكاد يلحظ أي تنوع، فهم نسيج واحد، يجمع بينهم معارضة الثوابت الإسلامية، ومتابعة الغرب في كل صغيرة وكبيرة.
ومن تناقضات الليبرالية اتهام التيار الإسلامي ودعاته بالهوس الجنسي، فالإلحاحُ على وجوب ستر المرأة- والدعوات الكثيرة المطالبة بالحجاب من قِبَلِهم- يصنف لدى قطاع كبير من الليبراليين تحت بند الهوس الجنسي، وأما الدعوات الليبرالية بالمطالبة بحرية التعري ووجوب الاختلاط، فيعدونها ضربا من ضروب الحرية، والحقيقية خلاف ذلك فالليبراليون- بهذا الفهم، وهذه الطريقة في التعامل مع جسد المرأة- يعدون من أكثر الناس اتصافاً بظاهرة الهوس الجنسي، فالرغبة الشديدة في تعرية المرأة، والتعامل مع جسدها بشكل مادي شهواني، وإجبارها على الاختلاط بالمجتمع الذكوري، واعتبار جسدها مشاعاً، دلائل قوية على كذب دعواهم.. فمن المهووس إذاً؟!! من يريد الستر والعفة، أم من يسعى إلى تعرية المرأة، وقتل عفتها؟!!
وحديث الليبراليين عن (حرية المرأة في اختياراتها) أكثر فجاجة من أي حديث آخر، حيث يرى الليبراليون أن أي اختيار للمرأة العربية، لا يتفق مع منظومة الأفكار الليبرالية هو خيار رجعي لا حق لها فيه، فالحرية عند الليبراليين تتوقف عند عتبات الدين والضرورات الشرعية، فلا حق للدين في فرض زيِّ معين أو أسلوب معين لحياة المرأة، وإن ارتضت المرأة ذلك، وخاضت المعارك من أجل حصول خيارها المطابق للطرح الديني، وفي هذا المنحى دليل قوي على أن القضية الليبرالية ليست قضية حريات، بقدر ما هي مسألة أيدلوجية، تستهدف القضاء على الدين والمعتقد بالدرجة الأولى، والمرأة في هذه المعادلة ما هي إلا وسيلة يتم التخلي عنها عند أول اتفاق بين خيارات تلك المرأة والثابت الديني.
والمتمعن في النظم الليبرالية يجدها من أشد النظم إهانة للمرأة، سيما مع تلك المرأة التي اختارت لنفسها التغريد خارج السرب الليبرالي، وتبنى خيارات تختلف فيها طرحها ومزاجها عن المزاج الليبرالي العام، وهذا ما نشاهده في عدد من الدول العربية المحكومة بنظم ليبرالية، حيث تُستلب حقوق المرأة المسلمة لصالح نُخب نسوية غربية الهوي، وللأسف الشديد فإن هذه النخب تتحكم في المقدرات الخاصة بالمرأة المسلمة، وتضع لها السياسات والخطط التي لا تمت للواقع الإسلامي بأية صلة.
خلاصة القول: إن المرأة في المنظور الليبرالي هي وسيلة يتخذها الليبراليون لغاية أكبر ترتبط في الأساس بتنفيذ الأيدلوجية الليبرالية المنادية برفع سلطة الدين عن الخيارات البشرية، فالمرأة مجرد رقم في المعادلة الليبرالية، وأداة نفعية تتعامل الليبرالية معها بشكل مادي شهواني، لا على أنها روح وعقل وقلب، فالليبرالية لم تنصف المرأة الغربية بل أخرجتها من قهر عانت منه طويلاً إلى قهر أشد منه، فتحولت من كائن مهمل مهضوم الحق، إلى كائن مستغل نفسياً ومادياً، وهذا المسار هو المسار ذاته الذي يريده الليبراليون العرب للمرأة في العالم الإسلامي.