الأسلوب الفقهي

يتميز أسلوب الكتابة الفقهية بالدقة المتناهية في تركيبه واختيار ألفاظه، وعباراته مع الوضوح والبيان، ذلك أن الفقه الإسلامي جملة وتفصيلا يتعلق بكافة الحقوق الدينية والمدنية والاجتماعية، وهو ما يبدو واضحا من تعريفه، وكما هو معلوم فقها أن حقوق العباد مبنية على المشاحة والمطالبة.

موضوع الفقه هو أفعال المكلفين المتصلة بالعبادات والحلال والحرام....وغير ذلك مما له علاقة بالحياة الدينية والاجتماعية التي تترتب عليها حقوق الله عز وجل وحقوق للعباد ولدى عرض الأحكام المتعلقة بها ينبغي أن تكون بعيدة عن اللبس والخلط وأن تصاغ مسائله وأحكامه في عبارات كاشفة دقيقة وباسلوب واضح، ولا يتأتى هذا للفقيه ودارس الفقه إلا بالتمرس بعبارات الفقهاء وفهمها وبكثرة الاطلاع على كتب الأدب ذات الأسلوب الرفيع والبيان الواضح وحاجته إلى التمكن من علوم اللغة العربية نحوها وصرفها وبلاغتها حتى يدرك مرامي الكلام، ومقاصد المؤلفين، فينعكس هذا على تعبيراته وأسلوب كتابته فصاحة في التعبير وبلاغة في الأسلوب، فيضع الأحكام الفقهية في ألفاظ رشيقة دون تكلف، في صياغة جميلة راقية تفصح عن المعنى المراد منها من دون تعقيد لفظي، أو معنوي، بحيث يتبادر المقصود منها بلا تكلف وعناء.

التنوع في الأسلوب الفقهي مهم جدا لاستمرار متابعة القارئ، وجذب انتباهه ليحاول الباحث أن ينتقل بالقارئ من الأسلوب التقرير السردي الخبري إلى الإنشائي الطلبي بأنواعه مما هو معروف في علم المعاني مع مناقشة ذكية تدل على فهم الموضوع والإحاطة بجوانبه.

كل حرف وكلمة وجملة في الفقه الإسلامي له مؤداها تمس نتائجها جميع الأطراف ذوي العلاقة بموضوع الحكم الشرعي، سواء منها ما يتصل بالأموال، أو الأعراض وهي موضوعات رشيقة اجتماعية حساسة.

من الأمثلة على دقة العبارة الفقهية:

أولاً : الحروف، وما يترتب عليها من أحكام علمية ما يتضح من العنوانين التاليين:

الأول: (الشروط في العقود).

الثاني: (شروط العقود)

لكل من العنوانين، أو بالأحرى العبارتين باب، وأحكام مستقلة متباينة، أسس لهذا الفرق والتمييز حرف الجر (في) كما في العنوان الأول، وخلوه من العنوان الثاني، لا شك أنه يترتب على هذا نتائج شرعية وعملية مهمة.
مثال آخر يدل على أهمية اختلاف الحروف في التعبير الفقهي في العنوانين التاليين:

الأول: العقوبة في المال.
الثاني: العقوبة بالمال.
الفرق بينهما:

"العقوبة في المال: هو قصر عقوبة الجاني على ما عصى الله به أو فيه سواء أريق أو أحرق أو تصدق به.

والعقوبة بالمال: هي أخذ مال من الجاني مما لم يعص الله به أو فيه."

هما موضوعان مختلفان متباينان كل التباين وما يميز أحدهما عن الآخر هو اختلاف حرف الجر في العنوان الأول عنه في الثاني."
ثانياً: الاتفاق في بعض الكلمات مع الاختلاف في بعضها الآخر.
من الأمثلة على ذلك:

شرط الأداء – شرط الصحة – شرط الوجوب.
الفرق بينهما كبير وشاسع، كشف عن المراد من كل عبارة منها في أسلوب واضح بعيد عن التعقيد اللفظي والمعنوي العلامة الشيخ محمد البناني المالكي رحمه الله تعالى قائلا:
"شرط الأداء: هو شرط التكليف بأداء العبادة أي فعلها.

شرط الصحة: هو ما اعتبر للاعتداد بالطاعة، كالطهارة للصلاة مثلا.

وأما شرط الوجوب: فهو ما به يكون من أهل التكليف.

كل ما هو شرط في الوجوب كالبلوغ والعقل وبلوغ الدعوة فهو شرط في الأداء، ويزيد شرط الأداء بالتمكن من الفعل، فالنائم غير مكلف بأداء الصلاة مع وجوبها عليه، فالتمكن شرط في الأداء فقط"([1])
مما سبق ندرك تفاوت النتائج، وتباين الأحكام بسبب إدخال حرف بدلا عن حرف، أو حذفه، أو اختيار كلمة بدلا عن كلمة أخرى، أو تعبير بدلا عن تعبير وهكذا.

حينئذ يتعين على الباحث الفقيه التحري والدقة في التعبير وبخاصة في المواضع التي تأخذ في الاعتبار رفع الخصومة والنزاع وذلك هو الشأن في عقود البيوع، والأنكحة والوصايا وغير ذلك مما يؤدي إلى عدم وضوح التعبير وبيانه إلى لبس ، وخلط ، ونزاع بين الأطراف والشرع الإسلامي الحنيف يحرص في تشريعاته تفادي كل ما يؤدي إلى ذلك بين أفراد المجتمع؛ إذ المقصد الأسمى في كل أموره إيجاد أسباب الوفاق والتفاهم بين أفراده، فالصياغة الفقهية السليمة الدفيقة تكلف تحقيق هذا المقصد الشرعي النبيل.

كما أن عدم التزام الدقة يؤدي إلى عكس ذلك مما يكرهه الشرع ولا يرتضيه، وقد جعل من جملة أسباب بطلان العقد كل ما يؤدي إلى الخصومة.

(
[1]
) الفتح الرباني فيما ذهل الزرقاني.

[منقول]