العلامة الشيخنشر البحث في مجلة البحوث الإسلامية
عبد الرزاق عفيفي
ومعالم منهجه الأصولي
لفضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الله السديس
إمام وخطيب المسجد الحرام
وعضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة أم القرى
العدد 58 - من رجب إلى شوال سنة 1420هـ
المقدمة :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله [1] ، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه وسلك سبيله إلى يوم الدين .
أما بعد : فإن للعلماء في هذا الدين مكانة كبرى ، ومنزلة عظمى ، فهم ورثة الأنبياء ، وخلفاء الرسل ، والأمناء على ميراث النبوة ، هم كواكب الأرض المتلألئة وشموسها الساطعة ، وأطنابها القوية ، وأوتادها المتينة ، هم للأمة مصابيح دجاها ، وأنوار هداها ، هم الأعلام الهداة والأئمة التقاة ، أضواء تنجلي بهم غياهب الظلم ، وأقطاب تدور عليهم معارف الأمم ، تتبدد بنور علمهم سحب الجهل ، وغيوم العي ، هم أهل خشية الله ، كما قال سبحانه : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) ، قرنهم الله بنفسه في الشهادة على وحدانيته فقال تعالى : (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ، وضمن الله لهم العلو والرفعة ، فقال جل وعلا : (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )
كما أنهم شهداء الله في أرضه وخلفاء رسوله في أمته ، والمحيون لما مات من سنته ، بهم حفظ الله الدين ، وبه حفظوا .
وما عزت الأمم وبلغت القمم وشيدت الحضارات وقامت الأمجاد إلا بالعلماء ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة [2]
من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب .
يقول الإمام أحمد رحمه الله في معرض فضائلهم ومآثرهم : (يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم ، ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) . [3]
وإنما تبوأ العلماء هذه المكانة لما يضطلعون به من تبليغ علوم الشريعة التي هي مادة حياة القلوب والمقربة لعلام الغيوب ، فبالعلم الشرعي تبنى الأمجاد وتشاد الحضارات وتبلغ القمم وتمحى غياهب الظلم ، قال تعالى : (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا )
وإن من أهم علوم الشريعة وأجلها قدرا وأعظمها أثرا وأكثرها فائدة وأكبرها عائدة علم أصول الفقه ؛ لأنه الطريق لاستنباط الأحكام الشرعية ، فهو منهل الأئمة ومأوى المجتهدين ومورد المفتين ، لا سيما عند النوازل والمستجدات .
ولقد زخر تاريخ الإسلام بكوكبة من علماء الأصول في مختلف العصور ، مثلوا منارات عالية في سماء العلم والمعرفة ، كما شهد عصرنا الحاضر نخبة مميزة من علماء الأصول يعدون امتدادا لسلفهم من الأصوليين ، بل إنه نتيجة لاستقرار المناهج الأصولية ونضج التفكير الأصولي المرتبط بالمنهج الصحيح لدى صفوة منهم أصبح من المهم إبراز منهج هؤلاء ودراسة حياتهم العلمية ومناهجهم الأصولية ، لما لذلك من الأثر الكبير والخير الوفير على الباحثين وطلاب العلم عامة ، والمهتمين منهم بالأصول على سبيل الخصوص .
ولقد كان من أعلام هذا العصر في العلوم الشرعية كافة وعلم الأصول خاصة شخصية علمية أصولية نادرة جديرة بالدراسة والإبراز والاهتمام ، ذلكم هو العلامة الأصولي الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله .
ونظرا لما يمثله الشيخ رحمه الله من مكانة علمية وأصولية ، ولما يتمتع به من منهج متميز وحاجة المكتبة الأصولية فيما أرى إلى بحث مستقل يبرز منهجه ويجلي طريقته ، فقد عزمت على أن أقدم بحثا في ذلك ؛ إسهاما في البحث العلمي ومشاركة في إبراز المنهج الأصولي لعلمائنا الأفذاذ ، وفاء بحقهم علينا وربطا للأجيال بعلمهم ومنهجهم ، وقد رأيت أن يكون عنوان هذا البحث ( الشيخ عبد الرزاق عفيفي ومعالم منهجه الأصولي ) .
ويشتمل البحث على مقدمة وتمهيد وفصلين وخاتمة .
التمهيد :
يشتمل التمهيد على ترجمة مختصرة للشيخ رحمه الله تضم تسعة مطالب ، هي :
الأول : اسمه ونسبه .
الثاني : ولادته ونشأته .
الثالث : طلبه للعلم وحياته العلمية .
الرابع : شيوخه وأقرانه .
الخامس : حياته العملية .
السادس : صفاته وأخلاقه .
السابع : تلاميذه .
الثامن : وفاته .
التاسع : آثاره العلمية ومؤلفاته .
المطلب الأول : اسمه ونسبه :
هو الشيخ عبد الرزاق عفيفي بن عطية بن عبد البر بن شرف النوبي المصري أصلا ومنشأ ، والنجدي موطنا و وفاة .
المطلب الثاني : مولده ونشأته :
ولد رحمه الله في مصر في قرية تسمى ( شنشور ) في محافظة المنوفية سنة 1323هـ ونشأ رحمه الله نشأة دينية علمية ، فحفظ القرآن صغيرا ، وأقبل على المتون العلمية في العقيدة والحديث والفقه واللغة ونحوها فاستظهرها لما من الله عليه بالذكاء وقوة الحافظة .
وكان مجتمع القرية الصغير المحافظ والجو الأسري المترابط خير معين له على هذه النشأة الدينية العلمية .
المطلب الثالث : طلبه للعلم وحياته العلمية :
تدرج الشيخ رحمه الله في سلك التعليم ، فالتحق أولا بالكتاتيب لتعلم القراءة والكتابة ، وهي ما يعرف اليوم بالمرحلة الابتدائية ، وبعدها التحق بأحد المعاهد الأزهرية التي تعادل المتوسطة والثانوية ، ثم التحق بالجامع الأزهر قبل أن يكون جامعة وتخرج منه ونال الشهادة العالية ، ثم حاز شهادة التخصص ، ثم حصل على الشهادة العالمية العالية .
وجمع رحمه الله بين الدراسة النظامية والأخذ من الشيوخ مع حرصه الخاص على القراءة والتحصيل حتى بز الأقران ، وفاق الخلان ، وأشير إليه بالبنان بين زملائه ومجالسيه .
المطلب الرابع : شيوخه وأقرانه :
تتلمذ الشيخ في مختلف المراحل النظامية لا سيما العليا على كوكبة من علماء الأزهر آنذاك ، حيث كان يضم نخبة مميزة ممن اشتهروا بالعمق العلمي والتأصيل المنهجي ، كما استفاد كثيرا بعد قدومه للمملكة من سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله .
وكان من أشهر أقرانه سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز ، والشيخ عبد الله بن حميد ، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي ، والشيخ محمد حامد الفقي ، والشيخ عبد الرحمن الوكيل ، والشيخ عبد الرحمن الأفريقي ، والشيخ عبد الظاهر أبو السمح ، والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة ، والشيخ محمد خليل هراس ، وغيرهم .
المطلب الخامس : حياته العملية :
مزج الشيخ رحمه الله حياته العملية بالعلمية منذ كان طالبا ، خاصة في المراحل العليا ، فكان يقوم بأعمال مباركة في الدعوة إلى الله والتدريس والمشاركة في أعمال الخير ، وعمل بعد تخرجه مدرسا في المعاهد الأزهرية في بعض القرى ومدينة الإسكندرية ، وقد انضم رحمه الله إلى جماعة أنصار السنة المحمدية ؛ لما عرف عنها من حرص على نشر العقيدة الصحيحة ودعوة الناس إلى الكتاب والسنة ، وقد رُشح رحمه الله في سن مبكرة نائبا لرئيس الجماعة في الإسكندرية ، ثم عين رئيسا لجماعة أنصار السنة في مصر كلها خلفا للشيخ محمد حامد الفقي ، ورأس تحرير مجلة التوحيد المشهورة سنوات عدة ، ثم يسر الله له القدوم إلى المملكة العربية السعودية فشرفت به وشرف بها وعمل مدرسا في دار التوحيد بالطائف ، ثم في عنيزة ، ثم في معهد الرياض العلمي ، ثم في كلية الشريعة بالرياض ، وأسندت إليه مهمة وضع عدد من المناهج في المعاهد العلمية وكلية الشريعة .
ولما افتتح المعهد العالي للقضاء عين أول مدير له وقام بوضع مناهجه ، ثم بعد ذلك انتقل إلى رئاسة البحوث العلمية والإفتاء وعين نائبا لرئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وعضوا في هيئة كبار العلماء ، وأشرف على عشرات الرسائل في الماجستير والدكتوراه ، وشارك في أعمال التوعية الإسلامية في الحج مفتيا ومدرسا في المسجد الحرام والمشاعر في الموسم .
كما قام بالإمامة والخطابة والتدريس في مسجده بالرياض .
وهكذا كانت حياته رحمه الله مليئة بالتدريس والإرشاد والدعوة والإفتاء شأن العلماء العاملين المخلصين لدينهم وأمتهم رحمه الله رحمة واسعة .
المطلب السادس : صفاته وأخلاقه :
لقد جبل الشيخ رحمه الله على صفات كريمة ومزايا عظيمة قل أن تجتمع في رجل ، فكان رحمه الله مثالا في الشمائل الحميدة والأخلاق الحسنة ، متسما بالورع والتواضع والزهد والبعد عن الأضواء ، مع ما وهبه الله من عمق في العلم وقوة في الحجة ، كما كان رحمه الله عف اللسان ، منصفا للمخالف ، حكيما في الرأي ، بعيد النظر ، مع قوة في الحق وتعامل بالحسنى وإنزال الناس منازلهم ، كما كان رحمه الله مهيبا ذا وقار وخشية . أما صفاته الخلقية فكان رحمه الله ربعة من الرجال إلى الطول أقرب ، أبيض البشرة ، تزينه لحية طويلة تشعر بالبهاء والجلال والحرص على السنة في مظهره ومخبره رحمه الله .
وله مواقف عظيمة ولطيفة ، كما له إسهامات في البذل والجود في أعمال الخير والإنفاق على طلبة العلم ، كما عرف بالصبر والتحمل والاحتساب فكسب حب الناس وثناءهم وتقديرهم رحمه الله .
المطلب السابع : تلاميذه :
يعد الشيخ رحمه الله أستاذ جيل يعتبر اليوم النواة المباركة في نهضة هذه البلاد علميا وقضائيا وإداريا ، فلا نبالغ إذا قلنا : إن الطبقة التي هي كبار علمائنا هم من تلاميذ الشيخ رحمه الله ، فقد استفاد من الشيخ رحمه الله كل من درس في المعهد والكلية والمعهد العالي للقضاء ، وهم جمع غفير أذكر من أشهرهم :
ا- سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ .
2 - الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان .
3 - د . عبد الله بن عبد المحسن التركي .
4 - الشيخ صالح بن محمد اللحيدان .
5 - الشيخ د . عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين .
6 - الشيخ د . صالح بن فوزان الفوزان .
7 - الشيخ صالح بن عبد الرحمن الأطرم .
8 - الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام .
9 - الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع .
10 - الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود .
وغيرهم كثير بارك الله فيهم ونفع بهم الإسلام والمسلمين .
المطلب الثامن : وفاته :
قدر الله على الشيخ رحمه الله الإصابة بأمراض في آخر حياته ، وفي يوم الخميس الخامس والعشرين من الشهر الثالث سنة 1415 هـ أدخل المستشفي إثر تردي حالته الصحية ، وبقي فيه مدة وجيزة حتى فاضت روحه إلى بارئها عن عمر يناهز التسعين عاما ، قضاها مجاهدا بقلمه ولسانه ، معلما مدرسا مفتيا مرشدا ، وقد أم المصلين عليه سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ بحضور جمع غفير من طلابه ومحبيه ، ودفن في مقبرة العود في الرياض رحمه الله رحمة الأبرار ، وقد عزاه ولاة الأمر وفقهم الله والعلماء وطلاب العلم وأثنوا على ما كان يتمتع به رحمه الله من مكانة علمية عالية وما لفقده رحمه الله من أثر على الساحة العلمية والإسلامية ،
عوض الله المسلمين فيه خيرا ورفع درجاته في عليين ، إنه خير مسئول وأكرم مأمول والحمد لله رب العالمين . [4]
المطلب التاسع : آثاره العلمية ومؤلفاته :
كان للشيخ رحمه الله نظرة في التأليف سببها تواضعه وتورعه رحمه الله ، فبالرغم من غزارة علمه وسعة إدراكه وتبحره في علوم شتى ، إلا أنه لم يعرف له إلا أثار قليلة ، منها : (مذكرة في التوحيد) ، و (حاشية على تفسير الجلالين) ، وتعليق على كتاب (الإحكام في أصول الأحكام) للآمدي ، كما أن له تعليقات يسيرة محفوظة على عدد من كتب العقيدة ، كما أن له مقالات وكتابات في مجلة التوحيد والهدي النبوي ، وله مجموعة من المحاضرات والدروس والمناقشات العلمية وفتاوى متنوعة جديرة بالعناية والرعاية والاهتمام ،
وعسى الله أن ييسر إخراجها حتى ينفع الله بها طلاب العلم الباحثين والمهتمين بالتحقيق ، إنه جواد كريم .