الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمَّا بعدُ:
فهذا بحثٌ مختصرٌ جدًا في حكم نفقة الوالدين والزَّوجة، والعمل عند التعارض.

أسباب النفقة:

الأسباب ثلاثة، وهي: النكاح، والقرابة، والملك.
وموضوع البحث هنا هو النِّكاح والقرابة؛ لذلك سأقتصر عليهما.
أولا: حكم نفقة الزوجة:

اتفق الفقهاء على وجوب نفقة الزوجة على زوجها([1])، والأدلَّة على ذلك:
1- قوله تعالى: (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله)
2- وقوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف).
3- وقوله تعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن).
4- وقوله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: (فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) رواهُ مسلمٌ([2]).
5- والإجماع قال ابن المنذر: (اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن)([3]).
6- ومن المعقول: أن الزوجة محبوسة المنافع على زوجها، وممنوعة من التصرف لحقه في الاستمتاع بها، فوجب لها مؤنتها ونفقتها، كما يلزم الإمام في بيت المال نفقات أهل النفير؛ لاحتباس نفوسهم على الجهاد([4]).
7- ولأن النفقة تجب جزاء الاحتباس، ومن كان محبوسا لحق شخص كانت نفقته عليه لعدم تفرغه لحاجة نفسه، قياسا على القاضي والوالي والعامل في الصدقات([5]).
سبب وجوب نفقة الزوجة :
اختلف الفقهاء في سبب وجوب نفقة الزوجة على زوجها، هل تجب بالعقد وحده أم به وبالتمكين والتسليم التام أم تجب بالعقد وتستقرُّ بالتَّمكين؟ على ثلاثة أقوال، والمهمُّ في ذلك أنَّ سبب ذلك هو بسبب عقد النِّكاح فهو من حقوق العباد.

ثانيًا: نفقة الوالدين:

اتفق الفقهاء على وجوب نفقة الأبوين المباشرين على الولد([6])، والأدلَّة على ذلك:
1- قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا)، ومن الإحسان الإنفاق عليهما عند حاجتهما.
2- وقوله تعالى: (وصاحبهما في الدنيا معروفا)، ومن المعروف القيام بكفايتهما عند الحاجة.
3- عن عبد الله بن عمرو أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله إن لي مالا ووالدا، وإن والدي يجتاح مالي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم)، رواهُ أبو داود([7]).
فإذا كان كسب الولد يعد من كسب الأب، فإن نفقة الأب تكون واجبة فيه؛ لأن نفقة الإنسان تكون من كسبه.
4- وقد حكى ابن المنذر الإجماع في هذا فقال: (وأجمعوا على أن نفقة الوالدين اللذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد)([8]).

شروط وجوب الإنفاق على الوالدين:

اشترط الفقهاء لوجوب الإنفاق على الوالدين عدَّة شروطٍ، وهي:
الشَّرط الأوَّلُ: اتَّفق الفقهاء على أن يكون الأصل فقيرا، فلا يجب على الفرع نفقة أصله إن كان أصله غنيا أو قادرا على الكسب؛ لأنها تجب على سبيل المواساة والبر، والقادر على الكسب كالموسر مستغن عن المواساة([9]).
واختلفوا في كونه فقيرًا عاجزا عن الكسب، فذهب المالكيَّة والحنابلة إلى اشتراط كونه عاجزًا عن الكسب، ولم يشترط ذلك الحنفية والشافعية؛ لأن الله تعالى قد أمر بالإحسان إلى الوالدين، وفي إلزام الآباء التكسب مع غنى الأبناء ترك للإحسان إليهم وإيذاء لهم، وهو لا يجوز.([10])
الشَّرط الثَّاني: أن يكون الفرع موسرا وهذا باتفاق الفقهاء.([11])
واشترط الحنفية والشافعية والحنابلة أن يكون في ماله أو كسبه فضل عن نفقة نفسه وولده وامرأته، فإن لم يفضل منه شيء لا تجب عليه النفقة.

التَّقديم عند المشاحَّة:

تقدَّم أنَّ سبب النَّفقة على الزَّوجة هي عقد النِّكاح وأنَّ سبب النَّفقة على الوالدين هي البرِّ والصِّلة، فالسَّببان مختلفانِ.
كما ذكر الفقهاء أنَّ الحقوقَ إذا وردتْ على محلِّ واحدٍ، وكان المحلُّ مستحقًّا لهذه الحقوق ولكنَّه لا يستوعبها جميعُها، فإنَّه لا بدَّ من تقديم أحد هذه الحقوق؛ ولا يُقدَّم حقُّ إلا بمرجِّحٍ، وقد نصَّ على ذلك كثير من العلماء، فمن أقوالهم: (لا يقدم أحد على أحد إلا بمرجح)([12])، وقولهم: (لا يقدم في التزاحم على الحقوق أحد إلا بمرجح)([13])، وقولهم: (كل ما ليس له ظاهر لا يترجح أحد محتملاته إلا بمرجح شرعي)([14])
وسببُ ذلك أنَّ قواعد الشَّريعة العامَّة دلَّت على أنَّ الحقوق إذا وردت على محلِّ وجب استيفاؤهما جميعًا؛ فإن تعذَّر ذلك فإمَّا أن تسقط جميعًا وهذا ظلمٌ لوجوب تمكين أصحاب الحقوق من حقوقهم، أو يقدَّم أحدها، ولا بدَّ للتَّقديم من مرجِّحٍ.([15])
وهذه المرجِّحات ثلاثةٌ: السَّبق، والقوَّةُ، والقرعة.
أمَّا في نفقة تعارض نفقة الزَّوجة مع الوالدين فلا مدخلَ للتَّرجيح بالسَّبقِ؛ لأنَّ سبب النَّفقة مختلفٌ.
أمَّا القرعة فليس هذا موضوعها؛ لأنَّ موضع استعمال القرعة عند التساوي وعدم إمكان التعيين أو الترجيح ([16])، وقال ابن رجب: (تستعمل القرعة في تمييز المستحق ابتداءً لمبهم غير معين عند تساوي أهل الاستحقاق، وتستعمل أيضا في تمييز المستحق المعين في نفس الأمر عند اشتباهه والعجز عن الاطلاع عليه، وتستعمل في الحقوق الاختصاص والولايات ونحوه)([17])، وذكر ابن القيم ضابط ما تجري فيه القرعة بقوله: (إن الموضع الذي تلحق فيه التهمة شرعت فيه القرعة نفيا لها ومالا تلحق فيه لا فائدة فيها)([18]).
وممَّا تقدَّم لم يبقَ إلَّا سببٌ واحدٌ للتَّرجيح بين الحقِّين وهو القوَّة، وأكثر العلماء في ذكر هذا الضَّابط فمن ذلك قولهم: (إنَّ الحقَّين إذا وجبا قُدِّمَ أقواهما)([19])، و(إذا ازدحم حقَّان على المال إن أقواهما مقدَّم على الآخر)([20])، و(الحقوق متى اجتمعت في المعيَّن وتفاوتت في القوَّة يبدأ بالأقوى فالأقوى)([21])، وغير ذلك من أقوالهم، وبيان ذلك في موضوع البحث:
أنَّ نفقةَ الزَّوجة بسبب العقد فهي من حقوق العباد، وحقوق العباد مبنيَّة على المشاحَّة والضِّيق.
ونفقة الوالدين تجب على سبيل المواساة والبر وهي من حقوق الله، وحقوق الله مبنيَّة على المسامحة.
والقاعدة أنَّ حقَّ العبدِ مقدَّمٌ عند التَّعارض، ومن أقوال العلماء في ذلك: (إذا اجتمع الحقان قدم حق العبد)([22])، وجاء في قواعد المقَّريِّ: (إن مذهب مالك تقديم حق الآدميين)([23])، وقولهم: (حق الآدمي مرجح على حقوق الله تعالى) ([24]).

ومن أوجه التَّرجيح كذلك أنَّ نفقة الزوجة عوض يجب مع الإعسار([25])، أمَّا نفقة الوالدين فلا تجبُ إلَّا على الغنيِّ.
فالخلاصة أنَّ نفقة الزَّوجة مقدَّمٌ على نفقة الوالدين.

والله أعلم



([1]) فتح القدير (3/321)، مواهب الجليل (4/181)، الحاوي الكبير (15/524)، الإنصاف (9/376).

([2]) أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب حجة النبي صلى اله عليه وسلم، حديث رقم 3009.

([3]) المغني مع الشرح (9/231).

([4]) الحاوي الكبير (15/524).

([5]) بدائع الصَّنائع (4/16)، المغني مع الشَّرح (9/230)، تبيين الحقائق (3/51).

([6]) تبيين الحقائق (3/62)، وحاشية الدسوقي (2/522)، ومغني المحتاج (3/446)، والإنصاف (9/392).

([7]) سنن أبي داود: كتاب الإجارة، باب: في الرجل يأكل من منال ولده، حديث رقم 3532.

([8]) المغني ط هجر (11/373).

([9]) حاشية ابن عابدين (2/678)، منح الجليل (2/448)، مغني المحتاج (3/446)، الإنصاف (9/392).

([10]) المصادر السَّابقة.

([11]) المصادر السَّابقة.

([12]) المنثور (1 / 294)

([13]) الأشباه والنَّظائر للسيوطي صـ 340.

([14]) الفروق (4/185).

([15]) الضوابط الفقهية لاستيفاء الحقوق صـ 3.

([16]) انظر: قواعد الأحكام (1/90)، والطرق الحكمية ص305-306.

([17])القواعد الفقهية (3/237).

([18]) الطرق الحكمية ص301.

([19])الحاوي للماوردي (3/1098).

([20]) المعيار المعرب (3/212).

([21]) المبسوط (7/215).

([22]) الأشباه والنظائر لابن نجيم مع الغمز (4/161).

([23]) (2/513).

([24]) الإحكام للآمدي (4 / 287).

([25]) المغني (7/585).