إرادةُ سِتِّينيٍ تهزِم سيجارة


في إحدى الرمضانات الفائتة، وفي طريقه إلى المسجد عَقِب الإفطار؛ أشعل أبو محمد سيجارته التي فارقها قبيل الفجر عند سحوره..حين اقترب مِن عتبة المسجد، نازعته نفسُه الطيبة -التي شُحنت مروءةً-: أأدخل وفي فمي رائحةٌ تُؤذي المصلين الصائمين؟ أم أرجع حتى لا أُؤذيهم؟ فأذيةُ المسلم جريمةٌ، فكيف بها في بيت الله!
لحظتَها قرَّر أبو محمد -بل حَلَفَ- ألا يُدخن غير ما دَخّن، ففي رحلته التي بلغت نحواً من أربعين سنة مع هذا "الخبيث" ما يكفي لقطع العلاقة (وما بقى بالعمر كثر ما مضى) فقد دخل أبو محمد مُعترك المنايا -ما بين الستين والسبعين-، وقال لنفسه بصدق: قبّح اللهُ سيجارةً تُؤخرني أو تَحوْل بيني وبين الدخول إلى بيت الله!
هذا الحوارُ بين أبي محمد وبين نفسه لم يَدُم أكثر من دقيقة، لكنه كان حواراً انتصرت فيه الإرادةُ المتحلية بالإيمان، والتفكيرِ السليم، على هوى النفس المخادع، والشهوةِ المهينة، مع الاستعانة أولاً وأخيراً بالله تعالى.
لم يكن حُكْمُ التدخين ولا ضرَرُه خافياً على أبي محمد، لكن لم تأت اللحظةُ التي تُخْتَبر إرادتُه وإيمانُه ومروءتُه مع هذه "الخبيثة" كما أتت الآن.
هذه الفرصة، وتلك الدقيقة الحوارية التي لم تَخْل من تحدٍّ، لا تتهيأ بالضرورة لكل مُدخِّن، لكن المؤكَّد أن إجراءَ حوارٍ مع النفس من الآن، يَحْضُرُ فيه العقلُ والدينُ، والتأملُ في هذه العادة السيئة؛ كافٍ -بإذن الله- للوصول إلى ذات النتيجة التي وصل إليها أبو محمد.
ربما يَحسُن أن تُذكَر الأرقامُ المخيفةُ –وبكثافة- عن ضحايا التدخين سنوياً في العالم، وما ينتج عنه من أمراضٍ وأعراضٍ سيئة -صحياً واجتماعياً- يحسن ذلك إذا كان المخاطَب كافراً، لكن من المؤكَّد أن ما يُقلِق المسلمَ الحقّ -مع ما سبق- شيءٌ أعظم من هذا وأكبر، إنه: الخوفُ من معصية الله تعالى، الذي وهبه هذا المال، واستخلفه عليه، وكيفيةُ الحفاظ على هذا البدن الذي استودعه الله عليه، والتفكرُ في آثار هذا السلوك المشِين على العبادة وعلى النفس والأهل!
إن الإيمانَ الذي دفع أبا محمد لإصدار قرارِ تَرْك التدخين في أقل من دقيقة؛ موجودٌ مثلُه عند كثير من المسلمين، لكنها الغفلةُ، والصحبةُ الساحبة، والاستغراقُ في العادة، تلك الأمور التي تحجب –بمجموعها- عن التأمل والنظر في عواقب هذه العادة السيئة، دينياً ودنيوياً.
ماذا لو استشعر المدخِّن: أنه بالتدخين يُكدِّر على إخوانِه المصلين؟
وماذا لو استشعر المدخِّن: أنه بتدخينه يؤذي ملائكةَ الرحمن -الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون-: ((فإن الملائكةَ تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم))([1]) كما قال صلى الله عليه وسلم.
وماذا لو استشعر خطرَه على صحته ونفسه؟ أذاه لأهله؟ ومَن حوله؟ أثرَه في سوء تربية أبنائه؟
ماذا لو جمع المدخِّنُ عدد السجائر التي دخنَها خلال سنة فقط؟ فلو كان معدّل ما يدخنه يومياً خمسَ سجائر؛ فهذا يعني أنه يدخن نحواً من (1800) سيجارة سنوياً!
إنها دعوة -لإخواني المدخنين- للحوار مع النفس والعقل، عند عتبة البيت، أو العمل، أو المسجد، أو في أي مكان، راجياً ألا ينتظروا بلوغ الستين!
متّع الله بأعمارِ الجميع على طاعته، وختم لي ولهم بالحسنى.

ـــــــــــــــ ـــــ
([1]) صحيح مسلم ح(564).