25-10-2013 | مركز التأصيل للدراسات والبحوث
كثيرا ما تكون قراءة كتب المستشرقين والاعتماد عليها, سببا في التأثر الواضح والتخبط في الأحكام والآراء, وهذا ما حصل لمؤلف كتاب موقف السيرة النبوية من التوراة واليهود, حيث يبدأ كتابه بنفيه صراع الحضارات والديانات


موقف السيرة النبوية من التوراة واليهود
الدكتور: نبيه قاسم
طباعة : مؤسسة الأسوار – عكا 2003 م .
كثيرا ما تكون قراءة كتب المستشرقين والاعتماد عليها, سببا في التأثر الواضح والتخبط في الأحكام والآراء, وهذا ما حصل لمؤلف كتاب موقف السيرة النبوية من التوراة واليهود, حيث يبدأ كتابه بنفيه صراع الحضارات والديانات فيقول: (صراع الحضارات أو صراع الديانات, شعارات تطلق في عالمنا الذي نعيشه الآن, تحمل في طياتها الكثير من التداعيات, لعل أخطرها استغلال حكام العالم لهذه الشعارات لدق طبول الحرب اللامتناهية) ومع صدق هذه المقولة, إلا أن من يفعل ذلك هم اليهود فحسب.
ورغم كون الكتاب استعراض لموقف ابن هشام صاحب كتاب السيرة النبوية من التوراة واليهود, حيث أصبح هذا الكتاب المرجع الأساسي لكل من يرغب الاطلاع على حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم, وتتبع سيرته العطرة, إلا أنك ترى كثيرا من الغمز باستشهاد ابن هشام بآيات القرآن على انحراف اليهود وفساد أخلاقهم وصفاتهم, وكأن المؤلف لم يعجبه ذلك أو كأنه يريد تقليل السلبيات فيهم ؟؟!!
وقبل أن يدخل المؤلف إلى صلب موضوع الكتاب ذكر علاقة اليهود ببلاد العرب وهجرتهم إليها وتوزعهم في شبه الجزيرة العربية, وأوضح معنى مصطلح السيرة النبوية, حيث يعتبر كتاب ابن هشام الأول استخداما لهذا المصطلح, كما ذكر المؤلف دوافع تدوين السيرة النبوية, وأوائل من ألف في السيرة النبوية كأبان بن عثمان, ومحمد بن اسحاق وغيرهم, حتى جاء ابن هشام وهذب سيرة ابن اسحاق, ليكون كتابه العمدة والمرجع الأول في السيرة النبوية.
يبدأ المؤلف بذكر الصدام العنيف بين دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وبين اليهود في المدينة النبوية,فرغم الموقف المعادي وغير الودي لليهود تجاه النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته, ورغم كلمات بحيرا الراهب التحذيرية لأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود, إلا أنه ظل صلى الله عليه وسلم يأمل بإيمانهم وإسلامهم, نظرا لكونهم أصحاب كتاب سماوي, وأتباع موسى عليه السلام.
وبعد رفض اليهود الاستجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم, بل وعداوته وصد الناس عن دينه ورسالته, وبعد اتخاذ الأذان شعارا لأداء الصلاة, وتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة, وإسلام عبد الله بن سلام أحد أكبر أحبار اليهود, بدأت العلاقة بين المسلمين واليهود تتجه نحو العداوة التي أرادها اليهود لأنفسهم, من خلال استكبارهم واستعلائهم قبول أمر الله تعالى بالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, وزعمهم أنهم شعب الله المختار.
وعن معرفة اليهود ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم, ينقل ابن هشام الروايات الكثيرة بذلك, منها قصة عبد الله بن سلام وكيفية إسلامه, وغيرها من القصص كثير, والتي تؤكد أن اليهود كانوا يطمعون أن يكون هذا النبي منهم وعاملا بإرادتهم, فلما خرج النبي من العرب من قريش رفضوا دعوته وناصبوه العداء, مما جعل المقابل من الإسلام والمسلمين الخصومة والعداء كذلك.
ثم يتناول الكتاب قصة إسلام عبد الله بن سلام كأول شخصية يهودية مهمة تقبل الإسلام, ويكون لها أثر في دخول العديد من بعده من اليهود في الإسلام, كمخيريق ووهب بن منبه وكعب الأحبار محمد بن كعب القرظي وغيرهم.
وعن المواجهات الحادة بين اليهود والمسلمين يورد الكاتب غزوة خيبر, التي أبرزت الرغبة بطرد اليهود نهائيا خارج المدينة, نظرا لخصومتهم العنيدة للدين الجديد, و تحريضهم المستمر على المسلمين من خلال دفع القبائل العربية لمحاربة المسلمين, بل والمشاركة في هذه الحروب, ولعل غزوة الخندق نموذج صارخ لهذه المشاركة.
وإذا كانت غزوات بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة تميزت بكونها ردات فعل حازم وسريع لأخطاء ارتكبها أحد أفراد من اليهود, أو تهمة وجهت لبعضهم عن طريق الوحي من السماء, أو الخيانة ونقض العهد والتآمر مع الأعداء, إلا أن غزوة خيبر كانت تهدف للقضاء على الخطر اليهودي الذي بات يهدد بتقويض الدين الجديد, بعد انتقال اليهود إلى استعمال مالهم الكثير لتأليب القبائل ضد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وبعد بيان الأحداث الكثيرة التي رافقت غزوة خيبر, والتي تؤكد أهمية هذه الغزوة في السيرة النبوية, من حيث إنهاء الوجود اليهودي وخطره على الإسلام في المدينة المنورة, شرع الكاتب بيبان صفات اليهود الخلقية كما صورت في السيرة النبوية, فقد تعرض ابن هشام لمواقف اليهود المختلفة, مؤكدا على مسؤوليتهم عن كل ما لحق بهم من عقاب وعذاب.
وقد ذكر ابن هشام في هذا المقام مقولة بحيرا الراهب لأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم: (إرجع بابن أخيك إلى بلده, وإحذر عليه يهود, فوالله لئن رأوه وعرفوا ما عرفت ليبغنه شرا, فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم)
وقد اهتم ابن هشام بذكر صفات اليهود الخلقية كما وردت في السيرة النبوية , ومن أهم هذه الصفات السلبية السيئة :
1- إنكار الحقيقة التي كثيرا ما بشروا بها: وهي قرب ظهور النبي صلى الله عليه وسلم, فلما ظهر كذبوه وعادوه.
2- الكذب والزيف: من خلال قصة عبد الله بن سلام, وكيف تراجعوا عما وصفوه به بعد علمهم بدخوله الإسلام.
3- لا أمان لهم ولا يحفظون العهود: وذلك من خلال قصة بني النضير وبني قينقاع وبني قريظة الذين نقضوا العهد وخالفوا العقود والمواثيق.
4- وصفهم بالحسد: فقد أبرز ابن هشام قصة حيي بن أخطب وأخوه ياسر وشدة حسدهما للعرب, وقول ابن صويا للنبي صلى الله عليه وسلم: (والله إنهم ليعرفون أنك لنبي مرسل ولكنهم يحسدونك)
5- إثارة الفساد والخلاف بين الناس: وتغاضي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الكثير في هذا المجال.
6- اتصافهم بالغرور والكفر وإنكارهم لنبوة داود وسليمان, وقولهم عنه ساحر.
وبما أن التحريف من أخطر وأكبر الاتهامات لليهود , فقد أفرد لها الكاتب بابا خاصا , وقد استعرض في هذا الباب أهم النقاط التي اتهم بها اليهود في تحريفهم للكتاب المقدس :
1- الجهل بما في كتابهم وبما ليس في كتابهم.
2- التستر على بعض ما جاء في التوراة كإخفاء آية الرجم.
3- مناصرة أهل الشرك ضد المؤمنين مما ينافي تعاليم التوراة.
4- العمل على حرف المؤمنين عن إيمانهم, من خلال تحريض المسلمين على العودة للشرك وعبادة الأوثان.
5- الاتهام بتحريف كلام الله بكل ما يتعلق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
إن دخول العديد من علماء النصارى واليهود في الإسلام, وفر للكثير منهم المادة الغزيرة لحركة الدفاع عن الإسلام, نظرا لاطلاعهم على تفاصيل ما في التوراة والإنجيل, ولعل كتاب (إفحام اليهود) للسموأل المغربي الذي أثبت فيه تحريف اليهود للتوراة أكبر مثال على ذلك.
وفي محاولة للقول باطلاع السموأل على كتاب ابن هشام وتقليده, نظرا للقضايا المشتركة التر طرحت في الكتابين, يحاول الكاتب التشكيك بقيمة الكتابين معا, والتقليل من أهميتهما باعتبارهما يتحاملان على اليهود, من خلال اجتهادهما, رغم أن ابن هشام يعتمد على آيات القرآن والسيرة, والسموأل يعتمد على نصوص التوراة, فأين الاجتهاد في هذا ؟؟!!
ورغم وجود النسخ عند اليهود كما يقول السموأل ويثبته, إلا أن اليهود سخروا من قضية النسخ عند المسلمين, واتهموهم بتبديل الدين وتغييره من خلال النسخ, كما يوافق السموأل ابن حزم وابن هشام في أن التوراة التي بين أيدي اليهود اليوم, ليست هي التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام, مستدلا على ذلك بكثير من الشواهد والبراهين.
اللافت في هذا الكتاب اعتماد المؤلف على كتب المستشرقين بشكل كبير, كأمثال كارل بروكلمان و مونتجومري وات وغيرهم, ومحاولاته الغمز واللمز بسيرة ابن هشام, فكثيرا ما يتهم ابن هشام بالاجتهاد في ذم اليهود وانتقاصهم, رغم أن ابن هشام يستشهد بالآيات القرآنية والسيرة النبوية, وكثيرا ما يتهمه أيضا بإبراز صفة المثالية للسيرة النبوية, وكأنه يريد انتزاع هذه القداسة والهيبة, وجعل السيرة مفرغة من الوحي والتأييد الإلهي الرباني, مما يجعل الشكوك تدور حول هذا الكتاب.
والغريب أنك لا تجد موقفا واضحا للمؤلف في الكتاب, ولا تجد له أدلة أو براهين في نقده لما ورد في سيرة ابن هشام, بل هو النقد دون دليل, والتشكيك دون برهان, مما يجعل القارئ يتساءل: ماذا يريد المؤلف ؟؟! وما هي نتائج بحثه ؟؟!!
إن أمثال هذه الكتب هي مثال صارخ للعناوين البراقة, التي تجذب القارئ دون مضمون عميق ومفيد, اللهم إلا فهم أساليب المستشرقين في تناولهم لأحداث السيرة النبوية, وتحذير المسلمين منها, وهي بلا شك فائدة وأي فائدة.