دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
في دائرة المعارف الإسلامية
عرض ونقد
د.خالد بن عبد الله القاسم
نشر المقال في مجلة البحوث الإسلامية
العدد 61 الإصدار : من رجب إلى شوال لسنة 1421هـ
تمهيد:
تعريف بدائرة المعارف الإسلامية :
تعد " دائرة المعارف الإسلامية " أهم مؤلف استشراقي على الإطلاق ، وهذا يرجع لأسباب متعددة منها:
العدد الكبير من أساطين المستشرقين المساهمين فيها ، وكبر حجمها ، وتنوع المعارف فيها ، واستمرارية إخراجها ، وتعدد لغاتها حيث خرجت بالإنجليزية والفرنسية والألمانية ، وترجمت إلى العربية والأردية والتركية وغير ذلك ، وتعد بحق خلاصة الفكر الاستشراقي ، لذا لا يستغني عنها أي باحث في علم الاستشراق .
وقد شعر المستشرقون في مؤتمراتهم الدولية بالحاجة إلى دائرة معارف لأعلام العرب والإسلام ؛ لكـي تجمـع شتات دراساتهم عنهم باللغات الثلاث: الألمانية والفرنسية والإنجليزية ، فدعوا إليها في سنة 1895 م ، وكلفوا هوتسما[1] بإنشائها ومطبعة ليدن بإصدارها ، واستعين بالمجامع ومؤسسات نشر العلم في أوروبا قاطبة ؛للإنفاق عليها ، فأمدتها بالمال .
بدأ تأليفها سنة (1906) ومن أوائل من بادر بها هوتسما ، وحرر الدراسات المتعلقة بالخلافة العثمانية وفارس والهند والهولندية ، ثم حل محله فيما بعد فنسنك [2] عام (1924م) .
وقد خرجت الطبعة الأولى في سنة (1933 م) في خمسة عشر مجلدا ، كل مجلد يقارب خمسمائة صفحة اشتملت على مواد من حرف الألف حتى أجزاء من حرف العين ، وبالتحديد انتهت بمادة " عارفي باشا " [3] وطبعتها دار الفكر بالقاهرة .
ثم الطبعة الثانية في سنة (1969 م) في ستة عشر مجلدا كل مجلد يقارب ستمائة صفحة ، واشتملت من حرف الألف حتى أجزاء من حرف الخاء ، وانتهت بمادة " خدا بخش " [4] وهي مشتملة على ما وجد من الدائرة الأصل ، ورمزوا للمواد المضافة بالرمز (+) .
وقد بلغ عدد كتّاب الدائرة في كلا الطبعتين (486) كاتباً ، حرروا (3930) مادة [5]
كما طبعت طبعة مترجمة كاملة بتمويل من إمارة الشارقة في 33 مجلدا ، منها مجلد فهارس ، احتوت على الطبعتين الأولى والثانية بهوامشها ، وترجم الجزء المتبقي من حرف العين حتى النهاية ، وهمش على الزيادة هوامش مفيدة لأساتذة مصريين وبلغت الزيادة عشر وبلغ مجموع الصفحات (10240) صفحة في أكثر من (5000) مادة . [6]
وقد احتوت الدائرة على تشويه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وعلماء الإسلام والمسلمين لا سيما أهل السنة والجماعة ، وكافة الدعوات السلفية الإصلاحية ومن أهمها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب .
وسأتناول في هذا البحث مزاعمهم تجاه هذه الدعوة المباركة ومناقشتهم في تلك المزاعم .
الطعن في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب :
أولا: نظرة عامة لما في الدائرة :
جاء ذم الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه في مواضع كثيرة في دائرة المعارف الإسلامية ووصفوا بالأوصاف الشنيعة ، وافتري عليهم ما لم يقولوا به ، وصدق كلام خصومهم فيهم ، حيث تزعم الدائرة أنهم يكفرون ما سواهم من المسلمين ، وأنهم مشبهة في الصفات ، ولا يعترفون بالقياس والإجماع ، وأنهم متطرفون ، بل هم أشد المسلمين تعصبا وتزمتا ، ويحرمون زيارة القبور ويعدونها بدعة ، ويهاجمون أشد الأماكن قداسة عند أهل السنة والشيعة ، كما أن لهم دورا كبيرا في القرصنة في البحر والسلب في البر ، كما كانت تجارة الرقيق بسببهم مزدهرة ، وهم ينكرون التقليد! .
وهذه طائفة من النقول من الدائرة الدالة على ذلك:
عند الحديث عن مصادر التشريع الأربعة: ( ومهما يكن من شيء فإن المذاهب الأربعة قد تخلت عن هذه [الاكتفاء بالقرآن والسنة وحدهما] وأخذ الإجماع والقياس مكانهما بين أصول الفقه . وهذه الأصول الأربعة لم يعترف بها قط الخوارج والوهابية فضلا عن الشيعة )
[ الدائرة الأولى 12 \ 285 ، السنة فنسنك . ]
وجاء أيضا: ( وكانت زيارة قبور الأولياء من البدع التي حاربها محمد بن عبد الوهاب )
[ الدائرة الأولى 10 \ 473 ، زيارة ، فنسنك .]
كما جاء أيضا: ( لا يعتبر موحدا كل من زار قبور الأولياء )
[الدائرة الثالثة 32 \ 10174 مرجليوث . ]
كما جاء عن قبائل الدواسر : ( وهم يعيشون حيثما تيسر لهم على السلب ، ويقال إنهم أكثر الوهابيين تعصبا وخطورة )
[ الدائرة الأولى 9 \ 306 ، دواسر ، فاير .]
وجاء أيضا: ( ولما كان جميع المسلمين اليوم ما عدا المتطرفين من أهل الحديث والمشبهة كالوهابية وأصحاب ابن تيمية يأخذون بما يقوله الغزالي في أمر العقائد الإسلامية ، ويقدرونه تقديرا كبيرا فيحسن أن نرجع إلى الرسالة القدسية التي كتبها في بيت المقدس )
[الدائرة 4 \ 265، الله ، ماكدونالد .]
وجاء أيضا : ( وكذلك يرى الوهابيون في أنفسهم أنهم وحدهم هم الموحدون ، وأن سائر المسلمين مشركون وأنهم هم أنفسهم المكلفون بإحياء السنة ، وهم يرون أن السنة القديمة وشخصية النبي وجوهر الإسلام تبعا لذلك قد شوهت بسبب تقديس الأولياء ، وهم من أجل ذلك يهاجمون أكثر أماكن الإسلام قداسة عند أهل السنة وعند الشيعة ؛ لأن هذه الأماكن تعتبر في نظرهم معاقل لعبادة الأوثان )
[الدائرة الأولى 13 \ 217 ، شرك ، بيوركمان .]
وجاء: ( وزار بورخارت هذا المكان- بقيع الغرقد - بعد غزو الوهابيين فوجد أنه أصبح أتعس المقابر حالا في المشرق- يشير إلى هدم القباب والزخارف -)
[ الدائرة 7 \ 462 ، بقيع الغرقد ، بلا .]
كما جاء في وصف جماعة أهل الحديث في الهند : ( ويسمي الوهابيون في الهند أنفسهم بهذا الاسم ) ثم جاء في وصفهم: ( عنوا خاصة بتوكيد التوحيد ، وإنكار علم الغيب لأي من مخلوقات الله ، وقد اقتضى هذا إنكار كرامات الأولياء ، والمبالغة في تقديسهم )
[ الدائرة 5 \ 143، 144 ، أهل الحديث ، ش عنايات الله . ]
كما جاء : ( وكان هدف البريطانيين من تدخلهم في سياسة بحر فارس هو القضاء على تجارة الرقيق والقرصنة اللتين كانتا قد نظمتا تنظيما أفضل مع اتساع نفوذ الوهابيين )
[الدائرة 6 \ 297 ، بحر فارس ، بكنكهام .]
كما جاء: ( المخترعات الحديثة تستخدم بلا حرج بين الوهابيين ، وهم أكثر فرق الإسلام الحديث تزمتا )
[الدائرة 6 \ 417 ، بدعة ، روبصون . ]
كما جاء عن بعض سكان سومطرة الأندونوسية: ( وقد عاد من الحجاز في أوائل القرن التاسع عشر ثلاثة من أهل منغكاباو بعد أن أدوا فريضة الحج ، ورأوا الحكم الوهابي في مكة بعد سنة 1806 م فـامتلأت نفـوسهـم بـالحماسة لتزمت الوهـابيين وتشددهم )
[ الدائرة 6 \ 411 ، بدري ، كرن ،]
كما جاء وصفهم بـ " التطرف "
[الدائرة 4 \ 265 ، الله، ماكدونالد . ]
وجاء أيضا: ( ولقد رفض الوهابيون السماح لقوافل المحمل الذي أعدته الحكومة التركية بدخول الأراضي المقدسة ، وأبطل سعود الخطبة للسلطان ، وقال في رسالة رسمية: إنه ليس على والي دمشق أن يعتنق المذهب الوهابي فحسب ، بل على السلطان أن يفعل ذلك . ولما رفض صاحب دمشق رفضا باتا أن يذعن لمشيئته أجابه سعود بسلب حوران فـي يوليه عام 1810 م )
[ الدائرة 1 \ 309 ، ابن سعود ، مورتمان . ]
وجاء في الدائرة أيضا: ( وينكر الوهابية ، وأولهم إمامهم ابن عبد الوهاب التقليد )
[ الدائرة 9 \ 476 ، التقليد ، شاخت . ]
ثانيا: عدم وجود الأدلة على ما زعموا :
لم يقم دليل واحد على غالب تلك الدعاوى ، وقد أخذها أولئك المستشرقون من أعداء الدعوة الإصلاحية " الوهابية " إذ أن تلك هي مفترياتهم القديمة على الدعوة .
ورسائل الشيخ وكتبه ومصنفات تلاميذه موجودة متاحة ، فالواجب الرجوع إليها والتأكد من تلك المزاعم .
إن كتب أئمة الدعوة طافحة بخلاف أكثر ما ذكر ، مستدلة في جميع مسائلها بالقرآن والحديث وإجماع أهل العلم .
وقد أنكر الشيخ نفسه في حياته كثيرا من هذه المزاعم التي افتراها عليه بعض أعدائه ، حيث جاء في إحدى رسائله إلى أهل القصيم : " ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم ، وأنه قبلها وصدقها بعض المنتسبين للعلم في جهتكم ، والله يعلم أن الرجل افترى علي أمورا لم أقلها ، ولم يأت أكثرها على بالي ، فمنها قوله: أني مبطل كتب المذاهب الأربعة ، وأني أقول: إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء ، وأني أدعي الاجتهاد ، وأني خارج عن التقليد ، وأني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة . وأني أكفر من توسل بالصالحين ، وأني أكفر البوصيري؛ لقوله يا أكرم الخلق ، وأني أقول: لو أقدر على هدم قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها ، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها ، وجعلت لها ميزابا من خشب ، وأني أحرم زيارة قبر النبي ، وأني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما ، وأني أكفر ابن الفارض وابن عربي ، وأني أحرق دلائل الخيرات ، وروض الرياحين وأسميه روض الشياطين .
جوابي عن هذه المسائل: سبحانك هذا بهتان عظيم " . [7]
وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف[8] عن أعداء الدعوة:
" وعندما عجز كبراؤهم في ميادين الحجج والبراهين وباءوا بالفشل لجأوا إلى وضع العقبات في سبيل الدعوة وإلى الاعتداء الأمر الذي ألجأ الشيخ وحزبه برياسة الأمير محمد بن سعود أن يقاومهم . . . فجرت الحروب الشديدة بين حزب الشيخ وبين أولئك المخالفين ، فكما فشلوا في ميادين الحجج العلمية وخرجوا صفر اليدين ، فشلوا أيضا في ميادين المقارعة والحروب ، وكان النصر في الأغلب حليف الشيخ وحزبه . فلما لم يبق لديهم من سلاح يحاربون الدعوة به؛ شرع بعض المدعين للعلم والحكام يزيدون في اختلاقهم للأكاذيب والافتراءات وينسبونها إلى الشيخ ، وأخذوا في استعمال الدعايات الكاذبة والإشاعات الباطلة ، وطفق بعضهم يكتب إلى الأتراك ، وإلى الأشراف في الحجاز : إن هذا مبتدع ، ومذهبه خامس المذاهب ، ولا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم وكفر جميع الناس إلا من كان من أتباعه . . . " . [9]
إن أعداء الدعوة من أهل نجد والحجاز المصريين والأتراك غير مؤهلين للسماع منهم؛ لكون غالب عداوتهم للدعوة من باب الجهل والحسد ، وكفهم عما يخالف الشريعة مما ألفوه من البدع ، وانقطاع ما يصل إلى بعضهم من أموال حقا كانت أم باطلا .
وقد فطن لذلك التشويه والافتراءات على دعوة الشيخ رحمه الله بعض المؤرخين المسلمين والغربيين المحايدين ، فنبهوا على كذب تلك المزاعم ، ومن ذلك:
ما ذكره الجبرتي المؤرخ المصري الشهير [10] في حوادث الحج سنة 1223 هـ ، حيث قال عن أهم الأحداث: " ومنها انقطاع الحج الشامي والمصري معتلّين بمنع الوهابي الناس عن الحج ، والحال ليس كذلك ؛ فإنه لم يمنع أحدا يأتي الحج على الطريقة المشروعة ؛ وإنما يمنع من يأتي بخلاف ذلك من البدع التي لا يجيزها الشرع ، مثل المحمل والطبل والزمر وحمل الأسلحة ، وقد وصل طائفة من الحجاج المغاربة حجوا ورجعوا في هذا العام وما قبله ، ولم يتعرض لهم أحد بشيء ، ولما امتنعت قوافل الحج المصري والشامي ، وانقطع عن أهل المدينة ومكة ما كان يصل إليهم من الصدقات والعلائف والصرر التي كانوا يتعيشون منها ، خرجوا من أوطانهم بأولادهم ونسائهم ، ولم يمكث إلا الذي ليس له إيراد من ذلك ، وأتوا إلى مصر والشام ، ومنهم من ذهب إلى إسلامبول يتشكون من الوهابي ، ويستغيثون بالدولة في خلاص الحرمين ؛لتعود لهم الحالة التي كانوا عليها من إجراء الأرزاق ، واتصال الصلات " . [11]
ومن المعلوم أن الجبرتي شاهد منصف ، وليس له أي ميول في هذه القضية ، وقد شهد الجميع بنزاهته وتثبته ، ومن ذلك ما جاء في الدائرة نفسها بقلم اثنين من كتابها حيث قال ماكدونالد في الطبعة الأولى: ( ولا شك في نزاهة أحكام الجبرتي ، فهو من بيت علم يعرف قدر الرواية المحكمة إذا رواها شاهد عيان )
[ الدائرة 11 \ 65 ، الجبرتي ، ماكدونالد .]
وقال عن تاريخه: ( وهو أعظم تواريخ مصر في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة )
[الدائرة 11 \ 65 ، الجبرتي، ماكدونالد . ]
كما وصفه إيالون في الطبعة الثانية بقوله حين الحديث عن أسرته: ( وظهر في هذه الأسرة مؤرخ عظيم ، كان بلا شك ظاهرة فريدة في فن تدوين التاريخ الإسلامي )
[ الدائرة 11 \ 66 ، الجبرتي، إيالون . ]
وقال العلامة العراقي الآلوسي عن دعوة الشيخ في كتابه "تاريخ نجد": " ونقص عليك شيئا من سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ونذكر طرفا من أخباره وأحواله ؛ ليعلم الناظر فيه بحقيقة أمره ، فلا يروج عليه تشنيع من استحوذ عليه الشيطان وأغواه ، وبالغ في كفره واستهواه . . . " .
ثم أخذ يسرد فضائله ويبرهن على صحة معتقده
انظر: محمد بن عبد الوهاب في التاريخ، عبد الله بن سعد الرويشد ص 408، 409، رابطة الأدب الحديث، دطت .
وقال برائجس [12] : لقد أشاع الباب العالي أنه- أي سعود بن عبد العزيز - نهى الناس عن زيارة المدينة ، إلا أن هذا ليس بصحيح ، فإنه نهى فقط عن ارتكاب الأعمال الشركية عند الروضة المطهرة ، كما نهى عنها عند قبور الأولياء . . . بعض الجهال يرونهم- أي الوهابيين- كفارا ، وقد اعتمد الأتراك على الشائعات التي روجها الأشراف ، إلا أن الحقيقة أنهم متبعون تماماً للقرآن والسنة ، وكانت حركتهم تطهيرية خالصة في الإسلام " ، وقال أيضا ردا على أحد الفرنسيين وقد ألف كتابا سنة 1808 هـ ادعى بأنه سمع من مقرب من سعود أن سعود ألغى الحج ، فرد عليه برائجس : " [COLOR="blue"]يجب على الفرنسي الأحمق الذي ذكر نسخ الحج أن يعرف أن سعود نهى عن التقاليد القبيحة في الحج ، وأن أول عمل عمله بعد دخول مكة هو الطواف والعمرة" [13]
فكما أن هذا هو حال أعداء الدعوة في شبهاتهم فإن حالهم كذلك في قتالهم ، ولا أدل على ذلك مما ذكره الجبرتي بعد هزائم المصريين والأتراك أول الأمر في الجزيرة العربية ، حيث قال نقلا عن بعض من حضر الحرب: " ولقد قال لي بعض أكابرهم- في جيش محمد علي - من الذين يدعون الصلاح: أين لنا بالنصر؟!
وأكثر عساكرنا على غير الملة ، وفيهم من لا يتدين بدين ، ولا ينتحل مذهبنا ، وبصحبتنا صناديق المسكرات ، ولا يسمع في عرضنا أذان ، ولا تقام به فريضة ، ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين ، والقوم إذا دخل الوقت أذن المؤذنون ، وينتظمون صفوفا خلف إمام واحد بخشوع وخضوع ، وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذن المؤذنون وصلوا صلاة الخوف ، فتتقدم للحرب طائفة ، وتتأخر الأخرى للصلاة ، وعساكرنا يتعجبون من ذلك ؛ لأنهم لم يسمعوا به فضلا عن رؤيته .
وكان كثيرا من قتلاهم- الجيش المصري- لما ظهرت عورته لغسيله بعد القتل وجدوا غلفا غير مختونين ، وقد سبى الجيش المصري نساء في بدر ، حتى إن بعض أهل بدر الصلحاء قال لبعض العسكر: أعطني زوجتي .
قال: حتى تبيت معي الليلة ، وأعطيها لك من الغد "
تاريخ الجبرتي 7 \ 823 .
وقد شهد بصحة معتقد الشيخ محمد وأتباعه - رحمهم الله- علماء مكة والمدينة من سائر المذاهب وكذا الشريف غالب أمير مكة حينذاك بعد الجلوس مع علماء الدعوة . [14]
كما مدح دعوته وأطنب في مدحه كثير من العلماء والمفكرين المنصفين من خارج نجد منهم الأمير الصنعاني ، ومؤرخ مصر الجبرتي ، والشيخ القاسمي الذي حوكم بتهمة العمل على الوهابية ، والعلامة الآلوسي ، وكذلك الشيخ محمد رشيد رضا والأمير شكيب أرسلان ومحمد كرد علي ، والشيخ طاهر الجزائري ، وخير الدين الزركلي المؤرخ السوري المشهور صاحب كتاب الأعلام، وقد مدح الشيخ في ترجمته له 6 \ 257 ، وغيرهم كثير.
انظر جميع ذلك ما خلا الجبرتي في: ''محمد بن عبد الوهاب في التاريخ '' عبد الله بن سعد الرويشد 408، 409 .
وهذا المطلب في حد ذاته كاف كرد إجمالي على تلك المطاعن جميعا .
ثالثا: علماء الدعوة وتكفير المسلمين :
جاءت هذه الفرية على لسان بيوركمان [15] بقوله: " يرى الوهابيون في أنفسهم أنهم وحدهم هم الموحدون ، وأن سائر المسلمين مشركون "
[الدائرة، الأولى 13 \ 217، شرك، بيوركمان .]
وهذه الفرية نشرها ابن عابدين [16] في حاشيته رد المحتار 3 \ 309، دار إحياء التراث العربي، بيروت، وابن دحلان حيث يقول عن محمد بن عبد الوهاب : " وسعى بالتكفير للأمة خاصها وعامها وقاتلها على ذلك جملة إلا من وافقه على قوله " [17]
إن محمد بن عبد الوهاب وأتباعه لا يكفرون عموم المسلمين ؛ وإنما يكفرون من قامت عليه الحجة بالعلم ثم أشرك مع الله غيره بعبادة القبور ، أو بموالاة عبادها على أهل التوحيد ، أو عمل ناقضا من نواقض الإسلام المجمع عليها .
قال محمد بن عبد الوهاب : " فإن قال قائلهم: إنهم يكفرون بالعموم ،
فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم ، الذي نكفر الذي يشهد أن التوحيد دين الله ودين رسوله ، وأن دعوة غير الله باطلة ، ثم بعد هذا يكفر أهل التوحيد ، ويسميهم الخوارج ، ويتبين مع أهل القبب على أهل التوحيد " .[18]
وقال أيضا: " وأما التكفير ، فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعدما عرفه سبه ونهى الناس عنه ، وعادى من فعله ، فهذا هو الذي أكفر ، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك "
رسالة محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه من المسلمين ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية 1 \ 51 .
وقال عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب مدافعا عن مذهبه وردا على ما قاله له: " إنك ضللت وكفّرت من خالف مذهبك في الصفات " لما فقال: " إن الأمة اختلفوا في هذه المسائل اختلافا كثيرا ، ولم يكفر بعضهم بعضا؛ وإنما يكفرون من خالف نص كتاب أو سنة ، وقامت عليه الحجة ، واعتقد أن الحق خلاف ذلك .
وأما نحن فلم نكفر أحدا بهذه الأمور ، وإنما كفرنا من أشرك بالله وعبد معه غيره ، وقامت عليه الحجة ، واستهزأ بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أو شيء منه ، أو كرهه وأبغضه ، والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة ، كقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ،
وقال تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ ،
وقال تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ .
[نقض كلام الشيعة والزيدية، عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4 \ 97، جمع سليمان بن سحمان، مطبعة المنار المصرية، طبع قبل 1351هـ ]
وقال عبد اللطيف بن عبد الرحمن : " وأما القول بأننا نكفر الناس عموما ، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ، وإنا نكفر من لم يكفر ولم يقاتل " ومثل هذا ، وأضعاف أضعافه ، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله ، إذا كنا لا نكفر من عبد القبور من العوام لأجل جهلهم ، وعدم من ينبههم ؛ فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا! أو لم يكفر ويقاتل! سبحانك هذا بهتان عظيم "
[ ''الإمام محمد بن عبد الوهاب'' للرويشد 1 \ 71 . ]
وقال أيضا : " وقد جاء في الحديث: "من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما فإطلاق القول بالتكفير والحالة هذه- انتشار الجهل- دليل على جهل المكفر وعدم علمه بمدارك الأحكام " .
[رسالة لعبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 3 \ 21، جمع سليمان بن سحمان، مطبعة المنار المصرية، طبع قبل 1351 هـ ]
فهؤلاء أئمة الدعوة ينكرون هذه التهمة مبينين إدراكهم لعظم تكفير المسلم ، وأنه من صفات الجهلة المتعجلين . وربما صدر تكفير بعض من يستحق ذلك ، وقد مضى بيان حال بعض المخالفين في كلام الجبرتي السابق .
رابعا: وصف أتباع محمد بن عبد الوهاب بالمشبهة :
جاء في الدائرة اتهام أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالتشبيه في صفات الله تعالى
[ الدائرة 4 \ 265، الله، ماكدونالد.]
ومصنفات علماء الدعوة تنفي هذه التهمة بدءا من الشيخ نفسه حيث قال في شرح اعتقاده: " أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ، ولا أحرف الكلم عن مواضعه ، ولا ألحد في أسمائه وآياته ، ولا أكيف ، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه ؛لأنه تعالى لا سمي له ، ولا كفؤ له ، ولا ند له ، ولا يقاس بخلقه " .
[انظر: رسالة الشيخ إلى أهل القصيم ضمن مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب القسم الخامس الرسائل الشخصية ]
خامسا: اتهامهم بإنكار الإجماع والقياس :
جاء في الدائرة قول فنسنك عن مصادر التشريع: " وهذه الأصول الأربعة لم يعترف بها قط الخوارج والوهابية فضلا عن الشيعة "
[الدائرة الأولى 12 \ 285، السنة، فنسنك ] أي: أنهم يقتصرون على الكتاب والسنة ، وينكرون الإجماع والقياس .
وهذا أيضا من الاتهامات الباطلة ، وليس هناك ما يدل عليها ، وكتب علماء الدعوة طافحة بالاستدلال بالكتاب والسنة والإجماع والقياس .
وقد ذكر علماء الدعوة أنهم على مذهب الحنابلة في أصول الفقه ، حيث يأخذون بالنصوص في الكتاب والسنة ثم بأقوال الصحابة إذا اجتمعوا ، وإذا اختلفوا اجتهدوا في التخير بين أقوالهم ، ولم يخرجوا عنها ، ثم بالحديث المرسل والضعيف المنجبر إذا لم يعارض ، ثم بالقياس
[رسالة للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في الدرر السنية 3 \ 10 . ]
سادسا: اتهامهم بالتطرف والتشدد والتزمت :
جاء في الدائرة بقلم ماكدونالد : " ولما كان جميع المسلمين اليوم ما عدا المتطرفين من أهل الحديث والمشبهة كالوهابية وأصحاب ابن تيمية . . . "
[ الدائرة 4 \ 265 ، الله ، ماكدونالد .]
وقال روبصون [19] : " المخترعات الحديثة تستخدم بلا حرج بين الوهابيين ، وهم أكثر فرق الإسلام الحديث تزمتا "
[ الدائرة 6 \ 417 ، بدعة ، روبصون .]
وقال كرن [20] عن بعض سكان سومطرة الأندونيسية: " وقد عاد من الحجاز في أوائل القرن التاسع عشر ثلاثة من أهل منغكاباو ، بعد أن أدوا فريضة الحج ، ورأوا الحكم الوهابي في مكة بعد سنة 1806 م فامتلأت نفوسهم بالحماسة لتزمت الوهابيين وتشددهم "
[ الدائرة 6 \ 411 بدري ، كرن .]
قال مورتمان [21] : " ولقد رفض الوهابيون السماح لقوافل المحمل الذي أعدته الحكومة التركية بدخول الأراضي المقدسة ، وأبطل سعود الخطبة للسلطان ، وقال في رسالة رسمية: إنه ليس على والي دمشق أن يعتنق المذهب الوهابي فحسب بل على السلطان أن يفعل ذلك ، ولما رفض صاحب دمشق رفضا باتا أن يذعن لمشيئته أجابه سعود بسلب حوران في يوليه عام 1810 م "
[ الدائرة 1 \ 309، ابن سعود ، مورتمان .]
قلت: إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة دين الله هو المقصود بالتشدد والتزمت والتطرف فنعم؛ فقد كانت دعوة الشيخ كذلك ، بل ذلك هو غاية دعوة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
أما سوى ذلك فلم تكن دعوة الشيخ رحمه الله بهذه الصفة ، " بل إن الشيخ نفسه رغم شدة خصومة مناوئيه وضراوتها ، وشناعة عنادهم ، واستمراره ، إلا أن الشيخ رحمه الله قد كان حريصا على هداية أولئك الخصوم ، فيبذل الأسباب والوسائل لتحقيق ما يؤدي إلى استقامتهم والتزامهم بمتابعة الحق المؤيد بالدليل ، ويظهر اللين والتلطف معهم " . [ 22]
ومن أمثلة ذلك: رسالته للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف أحد علماء الإحساء ، حيث يخاطبه فيقول: " سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد: فقد وصل إلينا من ناحيتكم رسالة فيها إنكار وتغليظ علي ، ولما قيل إنك كنت معهم وقع في الخاطر بعض الشيء ؛ لأن الله نشر لك الذكر الجميل ، وأنزل في قلوب عباده لك من المحبة ما لم يؤته كثيرا من الناس "
[الدرر السنية 1 \ 31 ]
مع أن الشيخ المخاطب سبق له أن ألف رسالة في الرد على الشيخ سماها " سيف الجهاد لمدعي الاجتهاد"
[دعاوى المناوئين ص 36 ]
كما يخاطب الشيخ عبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى فيقول: " إني أدعو لك في سجودي ، وأنت وأبوك أجل الناس إلي وأحبهم عندي "
[ مجموعة مؤلفات الشيخ ، الرسائل الشخصية ص 281 ]
ومع ذلك فقد عانى الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الشيخ المخاطب وأبيه معاناة شديدة ، وأصابه منهما نَكدٌ وَ هَمّ ، كما صرح به الشيخ في رسائله مجموعة مؤلفات الشيخ ، الرسائل الشخصية ص 314 .
وهذا محمد بن فيروز الحنبلي المدافع عن الاستغاثة بالأموات ، ومن ألد أعداء دعوة الشيخ ، وقد كتب إلى الأتراك يستنجدهم لقتال البغاة الخارجين بنجد ، وهو يقصد الشيخ وأتباعه ، وحسبنا في بيان شدة كراهته وتعديه قوله: لعل الشيخ - يعني عبد الوهاب - غفل عند مواقعة أمه- يعني أم محمد بن عبد الوهاب- فسبقه الشيطان إليها فكان أبا هذا المارد "
[محمد بن عبد الوهاب للندوي ص 171، وانظر : دعاوى المناوئين ص 37 ]
ومع ذلك يصف الشيخ ابن فيروز في إحدى رسائله: " ولكن تعرف ابن فيروز أنه أقربهم إلى الإسلام ، وهو رجل من الحنابلة "
[مجموعة مؤلفات الشيخ ، الرسائل الشخصية ص 206]
كما كان أمراء آل سعود القائمون بنصرة الدعوة في نجد متسامحين ، فهذا سعود أعظم أمراء الدولة ولىّ على المدينة النبوية قاضيا حنفيا من اسطنبول ، كما أن قاضيه على القطيف كان من أهل فارس . [23]
كما كان علماء الدعوة متسامحين رحماء ، مع حرصهم على تطبيق أحكام الله تعالى ، ويشهد كل من جالسهم باعتدالهم وسعة علمهم ، ومن ذلك ما يذكره المؤرخ المصري الجبرتي : " أنه لما أرسل عبد الله بن سعود اثنين من علماء نجد لمصر للتفاوض مع محمد علي ، وجلسوا مع علماء الأزهر استأنسوا بهما ، وأعجبوا بخلقهما وعلمهما بعد أن ناقشوهما واستمعوا إليهما ، وسألوا عن أهل مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، وعن الكتب المصنفة في مذهبه ، فقيل انقرضوا من أرض مصر بالكلية ، واشتريا نسخا من كتب التفسير والحديث مثل الخازن والكشاف والبغوي والكتب الستة " [24]
وقال: " وقد اجتمعت بهما مرتين فوجدت منهما أنسا ، وطلاقة لسان ، واطلاعا وتضلعا ، ومعرفة بالأخبار والنوادر ، ولهما من التواضع وتهذيب الأخلاق ، وحسن الأدب ، واستحضار الفروع الفقهية ، واختلاف المذاهب ما يفوق الوصف" [25]
كما شهد الرحالة الأسباني " دومنغوبادلي أي لبيخ " [26] المعروف باسم الحاج علي بك العباسي - والذي عاصر الدولة السعودية الأولى وزار الحجاز إبان حكمهم ، وشهد موكب الإمام سعود في مكة سنة 1806 م- باعتدال الوهابيين حيث قال: " إن الحقيقة تفرض علي أن أعترف أنني وجدت جميع الوهابيين الذين تحدثت إليهم على جانب من التعقل والاعتدال ، وقد استقيت منهم كل المعلومات التي أوردوها عن مذهبهم . ولكن على الرغم من اعتدالهم لا يستطيع السكان والحجاج سماع مجرد اسمهم دون أن تمتلك الرجفة قلوبهم ، ولا يتلفظون به إلا همسا . لذا فإن الناس يهربون منهم ، ويتجنبون التحدث إليهم قدر الإمكان " [27]
وما يتعلق بالدعاء للسلطان فإن الدولة العثمانية في حالة حرب مع الدعوة فمن الطبيعي أن يلغي سعود الدعاء له في الخطبة .
وأما من حيث الحج فقد تقدم ما يدل على أن الأمراء السعوديين لم يمنعوا أحدا من الحج
[انظر : قول الجبرتي وبرائجس ص 908، 910 ، وإنما نهوا عن البدع وما خالف الشريعة ، وكل ذلك إنما كان بعد الإنذار لعام كامل . ]
سابعا: فيما يتعلق بالقبور:
جاء في الدائرة حكاية لمذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه: " وهم يرون أن السنة القديمة وشخصية النبي وجوهر الإسلام تبعا لذلك قد شوهت بسبب تقديس الأولياء ، وهم من أجل ذلك يهاجمون أكثر أماكن الإسلام قداسة عند أهل السنة وعند الشيعة ؛ لأن هذه الأماكن تعتبر في نظرهم معاقل لعبادة الأوثان "
[الدائرة الأولى 13 \ 217، شرك ، بيوركمان ]
وقال بلا [28] : " وزار بوركهارت هذا المكان- بقيع الغرقد - بعد غزو الوهابيين فوجد أنه أصبح أتعس المقابر حالا في المشرق- يشير إلى هدم القباب والزخارف- "
[الدائرة 7 \ 462، بقيع الغرقد ، بلا]
وجاء أيضا: " وكانت زيارة قبور الأولياء من البدع التي حاربها محمد بن عبد الوهاب "
[ الدائرة الأولى 10 \ 473، زيارة ، فنسنك، تقدمت ترجمته ]
وجاء أيضا: " لا يعتبر موحدا من زار قبور الأولياء "
[ الدائرة الثالثة 32 \ 10174، مرجليوث .]
كما جاء في الدائرة في وصف جماعة أهل الحديث في الهند : : " ويسمي الوهابيون في الهند أنفسهم بهذا الاسم " ثم جاء في وصفهم: " عنوا خاصة بتوكيد التوحيد ، وإنكار علم الغيب لأي من مخلوقات الله ، وقد اقتضى هذا إنكار كرامات الأولياء ، والمبالغة في تقديسهم "
[ الدائرة 5 \ 143، 144، أهل الحديث ، ش عنايت الله]
قلتُ: الشيخ لم يحرم زيارة القبور ، وإنما حرم ما يصاحب ذلك من بدع وشرك .
وفيما يتعلق بمهاجمتهم الأضرحة فصحيح ، ولكن لا بد من مراعاة اعتبارين:
الأول: أنها وإن كانت أكثر الأماكن قداسة عند مرتاديها فإنها ليست أكثر الأماكن قداسة في الإسلام .
الثاني: أن القبور المرتفعة مخالفة للسنة ، فضلا عن البناء عليها ، وقد ثبت عن أبي الهياج الأسدي أنه قال: قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع تمثالا إلا طمسته ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته .
فرفع القبور مخالفة للسنة الشريفة ، وأعظم من ذلك دعاء أصحابها ؛ إذ إن هذا هو الشرك الذي كان المشركون يفعلونه ، وكان القرآن ينزل بالنكير عليهم . قال سبحانه: سورة ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )
وكثير من الناس يشنع على أتباع الدعوة فيما يخص القبور دون تصور للحكم الشرعي في هذا الأمر ، ودون فهم للدوافع والأسباب التي جعلت من الشيخ وأتباعه يشددون بأن تكون وفق السنة ، وذلك لمغالاة القوم فيها حتى عبدت من دون الله تعالى .
وقد لاحظ ذلك بعض المعاصرين للدعوة من الغربيين حيث قالت " جاكلين بيرين " عن سبب عداوة بعض الناس لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب : " والسبب الأول في هذه العداوة أن الناس لم يفهموا للوهلة الأولى المعنى الإصلاحي لهدم المزارات وتقويض أضرحة الأولياء التي كان المؤمنون يؤدون لها واجب الإجلال ، وقد كاد هذا الإجلال يتحول إلى نوع من أنواع العبادة التي لا تجب إلا لله وحده " [29]
أما عنايتهم بتوكيد التوحيد فهي في مكانها ، إذ قد عني به جميع الأنبياء- عليهم السلام- بل إن الله حصر رسالتهم فيها: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)
وقال سبحانه: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ )
أما ما يختص بعلم الغيب فإن مذهب أتباع الدعوة موافق لمذهب أهل السنة ، الذين يؤمنون بما جاء في القرآن أن الغيب لله وحده: ( قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ) وأن هذا الغيب يطلعه الله على رسله كرامة لهم وإظهارا لإعجازهم ،
قال سبحانه: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ )
وأصل هذه المسألة أن كاتب المادة هو من أعداء أهل الحديث الذين يبالغون في تقديس الأولياء ويثبتون لهم العلم بالغيب ، مع مخالفته الظاهرة للقرآن .
أما إنكار كرامات الأولياء فهي فرية لا تنطلي على أحد ؛ ذلك أن مصنفات أهل السنة شاهدة على إثباتها ، بل إنها جزء من عقيدتهم ؛ لأن تلك الكرامات دلت عليها الأدلة ، وإثباتها جزء من عقيدة أهل السنة .
قال ابن تيمية : " ومن أصول أهل السنة والجماعة: التصديق بكرامات الأولياء ، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العـادات ، فـي أنواع العلوم والمكـاشفـات ، وأنواع القـدرة والتأثيرات ، كالمأثور عن سلف الأمم في سورة الكهف وغيرها ، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة ، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة "
[مجموع الفتاوي لابن تيمية 3 \ 156، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم ، الرياض . ]
أما تقديسهم للأولياء: فإن كان المقصود محبتهم ، وطلب الدعاء منهم في حال حياتهم ، والاعتراف بفضلهم فهذا لم ينكروه ، ولم ينكره أحد من المسلمين ، بل هو ثابت عندهم فيمن علم ولايته .
وأما إن كان المقصود صرف شيء من العبادة لهم من دعاء أو ذبح أو نذر أو غيرها من وجوه العبادة ، فهذا شرك أكبر ، أرسل الرسل للقضاء عليه .
ثامنا: الرد على وصفهم بالقرصنة:
جاء في الدائرة محاولات عدة لوصف الحركة الإصلاحية في نجد بالقرصنة ،
ومن ذلك: " وكان هدف البريطانيين من تدخلهم في سياسة بحر فارس هو القضاء على تجارة الرقيق والقرصنة اللتين كانتا قد نظمتا تنظيما أفضل مع اتساع نفوذ الوهابيين "
[ الدائرة 6 \ 297، بحر فارس بكنكهام]
كما جاء عن سعود بن عبد العزيز تلميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأقوى الأئمة الذين حكموا في الجزيرة العربية: " ونظم سعود القرصنة التي كانت تقوم بها القبائل القاطنة على الخليج الفارسي "
[الدائرة 1 \ 309 ، ابن سعود ، مورتمان ]
كما جاء عن قبائل الدواسر : "وهم يعيشون حيثما تيسر لهم على السلب ، ويقال إنهم أكثر الوهابيين تعصبا وخطورة "
[ الدائرة الأولى 9 \ 306، دواسر، فاير ]
وقد قلدهم في ذلك "فيليب حتى" فسمى شاطئ الإمارات بشاطئ القراصنة . [30]
وسبب وصفهم بذلك أن القواسم في ساحل رأس الخيمة والشارقة يغيرون على السفن البريطانية وعملائها في مسقط ، وينهبونها ، ويتـم ذلك بتشجيع الأمراء السعوديين فـي نجد " الوهابيين " وترسل إليهم الخمس من المغنم .
إن من العجب وصف الوهابيين بذلك ، فالمستعمر يصف غيره بالقرصان ، وينسى نفسه! .
كما أن قرصنة الإنجليز في بحار العرب سابقة لظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب حيث ظهرت في البحر الأحمر سنة (1966م) خمس سفن بريطانية وسفينتان أخريان على كل واحدة أربعة عشر مدفعا ، ومن البحارة مائة وخمسون ، وأخذت تنهب السفن في البحر الأحمر والبحر العربي والخليج العربي [31]ولم تحرك بريطانيا ساكنا .
فهذه القرصنة التي تفتك بسفن الحجاج وغيرهم مسكوت عنها ، ودفاع صاحـب الأرض ضد المستعمر قرصنة يجب إنهاؤها! .
إن الحقيقة التي لا يجادل فيها هي: أن مرور السفن البريطانية سواء شركة الهند البريطانية ، أو غيرها في الخليج إنما كان لأعمال استعمارية خالصة ، وهم لا يتناهون عن الاستيلاء ليس على السفن فحسب بل حتى على الأراضي إذا ما وجدوا فيها ضالتهم الاستعمارية رغم أنف أهلها كما هو معلوم بالضرورة عن الإنجليز ، فقد استعمروا آنذاك دولا وأراضي لا حصر لها ، كما أن مرورهم في الخليج إنما كان لعبور السفن بين مستعمراتهم العربية في العراق ومستعمراتهم الهندية ، التي تديرها شركة الهند الشرقية .
ولقد " تحولت سياسة شركة الهند الشرقية إلى امتلاك الأراضي وفرض السيادة الإنجليزية عليها من أواخر القرن السابع عشر . . . واستطاع الإنجليز في مدة قصيرة بين سنة 1750 ، وسنة 1818 فرض سيادتهم على أغلب أراضي الهند " . [32]
وهل يتوقع الإنجليز أن تبحر سفنهم بأمان وهم بهذه المثابة ، بالإضافة إلى تدخلهم في شئون بلاد الخليج حيث كانوا يحرضون حليفهم سلطان عمان على مهاجمة حلفاء الدولة السعودية ، فلما لم يستطع على ذلك ، بل أصبح حليفا للسعوديين يدفع الزكاة لهم [33]، حاصرت بريطانيا جزيرة كشم التابعة للقواسم سنة 1805 م ، منتحلة أو هي الأسباب ، وأجبرتهم على اتفاقية مجحفة سنة 1806 م ، ثم هاجموا رأس الخيمة في السنة نفسها. [34]
كما أبرموا معاهدة استعمارية أملوها على أمير رأس الخيمة بعد ضعفه حين هزيمة مناصريه السعوديين ، الذين كانوا الساعد الأيمن له ، وكانت تلك المعاهدة سنة 1820 م بعد سقوط الدرعية بعامين ، ومن بنودها: " بقاء رأس الخيمة وما حولها من مزارع في أيدي الحكومة البريطانية " .[35]
قال بوندار ليفسكي المؤرخ الروسي: " في سنة 1805 م لما تولى الأمير بدر حاكم مسقط سعى إلى إقامة علاقات طبيعية مع آل سعود وبمساندة إمام عمان ، وكان ذلك يتهدد خطط شركة الهند الشرقية في الجنوب الشرقي من الجزيرة ، فاغتيل الأمير بدر في سنة 1807 م بأمر من مقيم الشركة ، وصار سعيد بن سلطان صنيعة البريطانيين ، ومن ثم أصبح عدو الوهابيين اللدود ، ثم نشب صراع مسلح أسهم في فرض الحماية البريطانية على مسقط وساحل الصلح البحري الذي سماه المستعمرون بصفاقة ووقاحة: [ساحل القرصنة] " .[36]
إن السبب في الخصومة بين السعوديين والقواسم من جهة ، والإنجليز وخاصة حاكم بومباي من قبل الإنجليز من جهة أخرى يتلخص ببساطة بـ : اصطدام مصالح الإنجليز الاستعمارية التوسعية في الشرق بالقوة السعودية الناشئة المصممة على خضوع أراضي الجزيرة للدعوة الإصلاحية ، والتي من أسسها عدم خضوع الأراضي الإسلامية للكفار .
وكان لشركة الهند تجارة واسعة في عمان ، بل هي مركزها في المنطقة بعد البصرة ، وكان الإنجليز يمارسون نفوذهم عليها .
إن الدعوة الوهابية ترى في الإنجليز عدوا للإسلام ومستعمرا يجب محاربته ، وحين احتل القواسم بعض مدن عمان سنة 1808 م وأرسل سلطان عمان رُسُلَهُ للدرعية للتوسط طلب منهم الإمام عبد العزيز أن يوجه حاكمهم سفنه لضرب البصرة ، وأن عليه أن يثبت ولاءه للقضية الإسلامية ، فيعد حملة ضد شركة الهند المتعاونة مع باشا بغداد.[37]
" وفي هجمات القواسم على الإنجليز في إحدى المرات وجدوا في إحدى السفن امرأة هي زوجة تيلر القنصل الإنجليزي في بغداد ، فلم يمسوها بأذى بل أعادوها إلى بو شهر طبقا للتقاليد العربية" [38]
، فليس هذا من عمل القراصنة ، وهو ليس تقليدا عربيا فحسب ، بل هو ما يحث عليه الإسلام من عدم التعرض لغير المحاربين .
إن تحرير الأرض الإسلامية من المعتدين هو من الجهاد في سبيل الله وهو حق مشروع ، بل هو واجب ، وإذا لم يمكن ذلك فلا أقل من معاداة المعتدين ، وعدم توليهم ، ومضايقتهم ، والتصدي لهم .
أما أن ينعت المعتدي أصحاب الحق بالقراصنة فهو من المفارقات العجيبة ، وهذا يذكرنا بما تطلقه إسرائيل على المقاومين للاحتلال بالمخربين والإرهابيين .
أما السلب فلا ينكر أن القبائل البدوية في الجزيرة العربية كانت تمارس السلب على نطاق واسع ، ولكن هذا مخالف لتعاليم الإسلام ، ولم يكن له صلة بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، بل إن السلب والنهب انحسر بوضوح مع توسع الدولة السعودية المؤيدة من الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه ، ولقد شهد بذلك القاصي والداني ممن اطلع على أحوال نجد في تلك الفترة من المنصفين ، ومن ذلك:
ما شهد به الرحالة الأسباني " دومنغو بادليا أي ليخ " المعروف باسم الحاج علي بك العباسي ، عن قرب ومشاهدة شخصية عن الوهابيين بعد فتحهم لمكة بأنهم: " لا يسرقون قط ، لا عن طريق القوة ، ولا عن طريق الحيلة ، إلا إذا اعتقدوا أن المتاع يخص عدوا أو كافرا -لم يتعرضوا للكافر المعاهد البتة، وإنما للكافر الحربي -، وهم يؤدون أثمان كل ما يشترونه ، وأجور الخدمات التي تقدم لهم بالعملة التي لديهم " .
كما شهد بذلك بوركهارت [39] الذي زار الجزيرة العربية بعد ذلك حيث قال عن الأمن في عهد الدولة السعودية الأولى التي تسير على منهج دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب : " ولعل هذا الأمن والأمان قـد استتب فـي البلاد لأول مرة بعـد النبي العربي -الحقيقة أن الأمن استتب أيضا في عصور الخلفاء الراشدين وبعض من بعدهم، ولكنه اختل عندما أهمل العثمانيون الأماكن الداخلية في الجزيرة العربية - ، ووجد البدو لأول مرة فرصة النوم آمنين مطمئنين على أموالهم وأمتعتهم ومواشيهم "
[محمد بن عبد الوهاب للندوي 104، 105 ، نقلا عن كتابه ص 130]
وأما ما تفعله الدولة السعودية الأولى من الاستيلاء على ممتلكات الأعداء المحاربين ، فهذه غنائم حرب ، وتلك الغنائم مشروعة في الإسلام ، بل في غالب الأعراف ؛ وهم لا يفعلون ذلك إلا مع أعداء دعوتهم الإصلاحية المناوئين لها ، ولا يفعلون ذلك إلا بعد البيان والإنذار ، أما من يسمح لدعاة الدعوة بالإصلاح في الأرض ، ويعينهم في إزالة الشرك والفساد ، فإن أموالهم ودماءهم مصانة محفوظة .
ولقد أحس أهل نجد بفقد الرحمة والشورى بعد سقوط الدولة عندما حكم إبراهيم باشا الدرعية تسعة أشهر حكما إرهابيا تعسفيا بشهادة المؤرخين الأوربيين أنفسهم
[ اكتشاف جزيرة العرب ص 242]
ومن المفارقات أن يسل أولئك النفر من أهل الكتاب أقلامهم لمحاربة الدعوات الإصلاحية في الإسلام ، آخذين عليها محاربتها لأعداء الدعوة ، متناسين تلك الحرب الصليبية الشنعاء التي شنها النصارى في بلاد الإسلام على بعد آلاف الأميال عن ديارهم ، تلك الحرب المتجردة من الضمير ، والتي لم تخلف سوى الدمار ، ولم يكن لها هدف سوى نفث الأحقاد ، متناسين ما فعل اليهود ، وما يفعلون في فلسطين ، وما يقوم به النصارى الصرب من حرب إبادة ضد المسلمين في البوسنة قديما وحديثا أمام بصر العالم وسمعه ، بل إن هؤلاء الإنجليز يقفون ضد أي محاولة للسماح للمسلمين للتزود بالسلاح للدفاع عن أنفسهم .
تاسعا: فيما يتعلق بتجارة الرقيق:
جاء في الدائرة: " وكان هدف البريطانيين من تدخلهم في سياسة بحر فارس هو القضاء على تجارة الرقيق والقرصنة اللتين كانتا قد نظمتا تنظيما أفضل مع اتساع نفوذ الوهابيين "
[ الدائرة 6 \ 297، بحر فارس، بكنكهام ]
قلتُ: إن حكمنا على الرق نابع من نظرتنا إليه " في ضوء الشناعات التي ارتكبت في عالم النخاسة ، والمعاملة الوحشية التي سجلها التاريخ في العالم الروماني خاصة ، فنستفظع الرق ، ولا تطيق مشاعرنا أن يكون هذا اللون من المعاملة أمرا مشروعا يقره دين أو نظام " [40] ، بينما يجب أن ننظر إليه في ضوء الإسلام الذي حرم سرقة الأحرار ، وحصر الرق في أسرى الحرب خاصة إذا كان ثمة مصلحة من استرقاقهم ، وفتح أبواب التحرير ، وجعلها من أفضل الأعمال: ( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ) كما جعل غالب الكفارات شرطها الأول إعتاق الرقيق ، وجعل إعتقاهم من مصارف الزكاة الركن الثالث من أركان الإسلام .
بل أمر بإعتاقهم بالمكاتبة على قدر من المال إذا أسلم الرقيق ، وعرف منه قيامه بنفسه ورغبته في ذلك : ( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) كما أمر بمعاملة الرقيق معاملة إنسانية والإحسان إليهم ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن إخوانكم خولكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، ويلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم . متفق عليه
[رواه البخاري في ( كتاب الشركة ) باب 15 ، ومسلم في (كتاب الإيمان) حديث رقم (40) ] .
كمما حفظ حقوقهم وحذر من التعدي عليهم كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم : من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال رواه مسلم (1660).
وقد طبق المسلمون هذه المعاملة في الغالب ، كما طبقت في الجزيرة العربية إبان دعوة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذه التعاليم الإسلامية تجاه الرقيق ، مما لا يقارن مع معاملة الغربيين للرقيق بشهادة الجميع ، وإنني لا أذكر شهادات المسلمين ، ولكنني سأستشهد ببعض الأوروبيين الذين زاروا البلاد الإسلامية ، وبالتحديد الجزيرة العربية فهالهم حسن معاملة المسلمين للرقيق .
فهذا أول قنصل بريطاني في زنجبار يصف حالة الرقيق: "إنهم عموما يتناولون طعاما جيدا ولا تساء معاملتهم ، ومن النادر ضربهم " [41]
ويقول أحد الذين خلفوه: " لا توجد طبقة في المجتمع سعيدة وخالية البال وتحظى بمعاملة كريمة كطبقة العبيد المسلمين" [42]
وقد كتب المقيم الإنجليزي في الخليج سنة 1844م يصف حالة الرقيق بعد انتقالهم للعرب:
" ومن اللحظة التي يتم فيها شراؤهم تتحسن حالتهم من الناحية المادية ، وهم بدورهم يعملون كثيرا عن طواعية وبإتقان ، ويتضح أنهم سعداء وراضون " .
ويقول الكاتب والمؤرخ أرنولد ويلسون يصف معاملة العرب للأرقاء في الخليج في القرن التاسع عشر الميلادي- أي أيام دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -: " كان السادة ملزمين بموجب الشرع بأن يعاملوا الأرقاء معاملة جيدة ويطعموهم ويكسوهم ويحافظوا عليهم حتى موتهم ، ويزودوا كل رقيق ذكر بزوجة ، ويحافظ على أولادهم ، وكانت حياة الرقيق في الجزيرة العربية على قسوتها ليست على التأكيد أقسى من حياة العبري العادي ، كما كانت أقل عسرا من حياة رجل القبائل الإفريقي ومن المؤكد أنها لم تكن مهينة ، ويصل الأرقاء في العادة إلى منازل رفيعة من الثقة ، ونظرا لاعتناقهم الإسلام كانوا أهلا للحصول على حريتهم في الظروف الصحيحة المتفق عليها " [43]
وقد أكد برترام توماس الكلام السابق من واقع خبرته ومعرفته الوثيقة بحضرموت وعمان ، حيث قال: " إن معاملة العربي للعبد قد قضت نهائيا على وصمة العار التي تلازم العبيد في المناطق الأخرى ، وذلك أن المعاملة الحسنة والرفق بالعبيد هي السمة الغالبة اليوم في معاملة العرب للرقيق " [44]
وقد حكت الليدي آن بلنت - وقد زارت الجزيرة العربية سنة 1879 م إبان حكم آل رشيد - مناقشة لها مع أحد مشايخ الحرم المدني وقد التقت به في حائل وهو صالح بنجي ،
حيث قال لها: ما هي مصلحة الحكومة البريطانية الدنيوية من تدخلها في تجارة الرقيق .
قالت: إنها منع القسوة .
ولكنه أصر على ألاّ قسوة فيها ، وسأل: من ذا الذي رأى زنجيا تساء معاملته؟
فسكتت ، وجاء في كتابها: " حقا إنه لشيء مشهور أن العبيد عند العرب كالأطفال المدللين أكثر من كونهم خدما " [45]
إن أكبر استرقاق بل سرقة للأحرار واسترقاقهم قد تمت تحت نظر الدول الغربية وسمعها ، بل بإشرافها ورعايتها ، فهل كان السبب في تدخل بريطانيا في سياسة بحر فارس- وهو يبعد آلاف الأميال- الغيرة على العبيد؟!
كيف! وهم السابقون إلى سرقة الأحرار في إفريقيا - خاصة في السنغال - وبيعهم في أسواق أوروبا؟
إن أكبر مراكز تجارة الرقيق كانت في عُمان ، وكانت تجارة الرقيق تعتمد في الدرجة الأولى على موسم حصاد البلح في البصرة [46]
ومن المعلوم أن أمراء عُمان المتعاقبين كانوا حلفاء الإنجليز ضد الحركة الوهابية ، وكانت البصرة التي تهيئ العمل للأرقاء تحت حكم الإنجليز في تلك الفترة .
عاشرا: فيما يتعلق بالتقليد:
قال شاخت [47] : " وينكر الوهابية ، وأولهم إمامهم ابن عبد الوهاب التقليد "
[الدائرة 9 \ 476، التقليد، شاخت ]
قلتُ: هذا أيضا من مفتريات القوم ، فلم ينكر محمد بن عبد الوهاب وأتباعه التقليد بهذا التعميم ؛ لأن المسألة فيها تفصيل ، ذلك أن محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يرون وجوب الاجتهاد بحسب القدرة ، وذم المقلد مع قدرته على الاجتهاد ، أو التقليد مع علمه بمخالفة ذلك لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، أما من قلد الأئمة الأربعة من عوام الناس فأقروه من غير نكير,
[ الدرر السنية 3 \ 8 ـ 14 ]
وهذا قول جمهور العلماء . [48]
ذلك أن التقليد كما عرفه العلماء وجاء في نفس المادة في الدائرة: " قبول قول الغير أو العمل به في مسائل الدين بلا دليل"
وعبر عنه بعض الأصوليين بأنه: قبول قول القائل بلا حجة"
[الإبهاج للسبكي 3 \ 270]
وكيف يسوغ لمن عرف الأدلة واستطاع الاجتهاد أن يقلد؟!
فمذهب الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه موافق للقرآن والسنة وسلف الأمة وجمهور العلماء ، وهو ظاهر راجح لمن تأمله وتدبره ، فإنكاره ليس لعموم التقليد ، وإنما لفروع منه .
وختاما:
فهذه دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب دعوة إصلاحية موافقة للقرآن والسنة متبعة مذهب أهل السنة والجماعة ، دعاتها أرادوا تنقية الدين وتجديده من الشرك والبدع والتقاليد الجاهلية ، وهم كغيرهم من البشر ليسوا معصومين ، قد يقع منهم الخطأ ولكن من العدل أن توزن الأمور فمن طغى خيره وصلاحه وإصلاحه عذر فيما وقع منه من الأخطاء اليسيرة التي هي من ضرورات البشر .
والناظر لهذه الدعوة ببصيرة متجردا من الحقد والهوى فإنه سيعلم فضلها على الأمة ، وتضحية أصحابها .
وللإنصاف فإن كان غالب كتاب الدائرة ممن كتب عن الدعوة تجنى عليها ، إلا أنه صدرت من بعض المؤرخين الغربيين أقوال منصفة في حق الدعوة ، ومن ذلك: ما جاء في دائرة المعارف البريطانية:
"والوهابية: اسم لحركة التطهير في الإسلام ، والوهابيون يتبعون تعاليم الرسول وحده ، ويهملون كل ما سواها ، وأعداء الوهابية هم أعداء الإسلام الصحيح "
[انظر: محمد بن عبد الوهاب في التاريخ للرويشد ص 422 ]
قال وليمز وارمسترونج : " . . . لما شاع الفساد في بلاد المسلمين قام في جزيرة العرب محمد بن عبد الوهاب يحارب البدع ، ويدعو إلى جمع الصفوف لإعادة مجد الإسلام ، وعبادة الله بقلب سليم ، ولكنه كغيره من المصلحين اضطهد واتهم بالإلحاد والزندقة " . [49]
وقال المؤرخ الأمريكي لوثرب ستودار [50] :
" . . . فالدعوة الوهابية إنما هي دعوة إصلاحية صالحة بحتة غرضها إصلاح الخرق ونسخ الشبهات وإبطال الأوهام ونقض التفاسير المختلفة والتعاليق المتضاربة التي وضعها أربابها في عصور الإسلام الوسطى ، ودحض البدع وعبادة الأولياء . وعلى الجملة هي الرجوع إلى الإسلام والأخذ به على أوله وأصله ، ولبابه وجوهره ، أي إنها الاستمساك بالوحدانية التي أوحى الله بها إلى صاحب الرسالة "
[ حاضر العالم الإسلامي ، لوثرب ستودار ص 264 ]
وقد توقع الكاتب الفرنسي " الكسندر دوماس [51]" بعد دراسة لدعوة الشيخ واطلاعه على كتب الرحالة الغربيين لجزيرة العرب وتأليفه في ذلك: : انتشار تلك الدعوة وظهورها ، وذلك عند حديثه عن احتمال ظهور قوة عربية جديدة -كتب هذا الكلام بعد سقوط الدولة السعودية الأولى، وظهور الدولة الثانية- ، بفضل: " أمة الوهابيين التي تمتلك حيوية الأجيال الفتية ، وإيمان المرسلين ، وحماسة واقتناعا دينيين مبعثهما المعتقد الوهابي ، هذا المعتقد الذي هو مؤهلا لأن يسود . . . إن الإصلاح لوشيك الحدوث من القفقاس إلى رأس زنجبار . . . إن مائتي مليون مسلم يتعادون ويتنازعون ، تجمعهم نقطة عقائدية واحدة هي الحج ، تشتم خلاله كل شيعة الشيعة الأخرى . . . ولكن المستقبل في غمرة كل ذلك للوهابيين وحدهم . . . ولمذهبهم الذي يختفي أمامه ألوف الأولياء ، والشيوخ والمتصوفون ، الذين يقدسهم المسلمون من غير الوهابيين ، وأمام مبادئهم الخلقية التي تكاد تكون مبادئ إنجيليـة تمحـور ذلـك الانحـلال الشـرقـي المنتشر فـي أكثر العواصم " . [52]