نعيش لنأكل.. أم نأكل لنعيش؟
خاشع بن شيخ إبراهيمعبارة تتردد على الألسنة في بعض المجالس، فما موقعها من الصحة؟ والجواب غالبًا يكون نأكل لنحيا ونستمتع بالطعام لنعيش.وقد لفت نظري وأنا أتصفح مجلة «الوعي الإسلامي» الكويتية موضوع «اعتكاف أو اعتلاف»، وهو موضوع جيد ولفتة نظر جديرة بالاهتمام، وقد أجاد الكاتب في عرضه-جزاه الله خيرا- ولفتت نظري في ثناياه العبارة التالية: «نأكل لنعيش أم نعيش لنأكل؟»، والجواب الصواب الذي أراه أننا لا نعيش لنأكل ولا نأكل لنعيش للدنيا القريبة الزوال بل نأكل ونستمتع بالطيبات التي خلقها الله لنا في ظل عبادة الخالق جل جلاله قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56)، فالطيبات مخلوقة لنا لنستمتع بها، ونحن مخلوقون لعبادة الله، ومن الخطأ أن ننشغل بما خُلق لنا عما خُلقنا له، فالثقلان (الإنس والجن) مخلوقان لعبادة الله عز وجل وطاعته ومعرفته.والإنس من بين الثقلين خُص بمزيد من العناية الربانية، إذ جعله ربه سبحانه وتعالى بعد خلقه آدم خليفته في الوجود كما قال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة...} (البقرة: 30)، والخليفة ينبغي أن يأخذ عن المستخلِف أوامره ونواهيه وينفذها بدقة وأمانة؛ إذ تحمل هذا الخليفة الأمانة الكبرى وهي «افعل ولا تفعل» عن رضا وطواعية كما قال تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان...} ( الأحزاب: 72). فالإنسان من بين المخلوقات جميعها تميز بحملها، واختار أن يكون كذلك لما في هذه الخلافة من ميزات عظيمة وأهمها رفعته حيث أسجد الله ملائكته له قال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرًا من طين. فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين...} (الحجر: 28-29)، ثم شرفه الله تعالى بالتكاليف أي بالعبادة أمرًا ونهيًا في حدود طاقته وسعته فقال تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} (البقرة: 286)، فكانت العبادات المفروضة عليه من ربه جل وعلا موجودة في الكتب التي أنزلها الله على رسله من البشر، حتى كان آخرها «القرآن الكريم» على خاتمهم محمد ص وفيه قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} .والعبادة تعني معرفته سبحانه أولًا، وعبادته ثانيًا، وتتلخص في أركان الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج، لكنها لا تقتصر عليها بل تتعداها إلى كل عمل صالح يقوم به الإنسان المسلم يبتغي به وجه الله تعالى، سواء في ذلك الأعمال التي تتعلق بالآخرة كالتي ذكرناها، أو تتعلق بالدنيا كالعلم بأنواعه وتخصصاته ومجالاته الواسعة، وأشرفه معرفة الله عز وجل وما يتصل به من أمور العقيدة وفروضها، ثم ما له علاقة بالدنيا كالعلوم الإنسانية والنظرية والتجريبية، وما توصل إليه الإنسان في الوقت المعاصر من اختراعات وصناعات وتقنية واتصالات سريعة حتى غدت الكرة الأرضية قرية صغيرة.وتعلُّم هذه العلوم وغيرها مما يستجد مطلوب شرعًا بل هو فريضة، قال تعالى: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض...} ( يونس: 101)، وعلى المسلم أن يسعى إليها ولو كانت في أقاصي المعمورة، كما قيل: «اطلبوا العلم ولو في الصين» (ضعيف الجامع)، لأن الحقائق العلمية لا وطن لها فهي ملك للبشرية جمعاء.والمسلم بحّاث عن الحكمة فإذا عثر عليها أخذها، ففي الحديث «الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها» (مفتاح دار السعادة لابن القيم)، وعليه فإن الإسلام من بين الأديان جميعها لم يفرق في تعاليمه وتوجيهاته بين العلوم الدنيوية والأخروية ما دامت كلها تصب في قنوات نفع الإنسان ليكون في عبادة دائمة لله، وحتى يدفع المسلم إلى طلبها والتبحر فيها ويشوقه إليها جعلها فريضة وعبادة، فقد قال تعالى مبينًا فضل العلماء ودرجتهم: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} ( المجادلة: 11)، ونفى المساواة بينهم وبين من لا يعلمون فقال تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر: 9)، وقال ص: «من سلك طريقًا يلتمس علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة» (عارضة الأحوذي).والعلوم الدنيوية تكون أخروية يؤجر عليها طلابها والسالكون إليها بشرطين: أولهما النية لقوله ص: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (صحيح البخاري)، وثانيهما كونها نافعة؛ لحديث «لا ضرر ولا ضرار» (الأربعون النووية)، لذلك كانت الصناعات بأنواعها والمخترعات بأصنافها عبادة، لما فيها من قوة للمسلمين ونفع لهم قال تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة...} (الأنفال: 60)، وكذلك المهن المختلفة كالغراس والزراعة قال ص: «ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة» (صحيح البخاري).ومثل الزراعة التجارة فهي عبادة كما ورد في الأثر: «إن أطيب الكسب كسب التجار، الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يمدحوا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا» (ضعيف الترغيب). والعمل عبادة فكريًّا كان أو يدويًّا، فالتفكير عبادة بل فريضة قال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} (الحشر:21)، وقال تعالى:{إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}(آل عمران: 190)، والعمل اليدوي عبادة قال ص: «من أمسى كالًّا من عمل يده أمسى مغفورًا له» (الترغيب والترهيب للمنذري). وهكذا نجد أن الإسلام قد شمل بتعاليمه علوم الدنيا والآخرة من خلال كتاب الله عز وجل وسنة رسوله ص، لأنه دين الله قال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران: 19)، وأكمله ورضيه لعباده دينًا، قال تعالى:{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (المائدة: 3)، فإذا عرف المسلم هذه الحقيقة عاش لله وسخر طاقاته المادية وملكاته الفكرية والعقلية لإرضاء ربه عز وجل وطاعته، فهو لا يعيش ليأكل ولا يأكل ليعيش عيش البهائم والدواب، إنما يعيش في عبادة الله ليكون عبدًا خالصًا لربه لا لدنياه، وهو بهذا سعيد كل السعادة، لأنه وجد نفسه وعرفها، ومن عرف نفسه معرفة صحيحة عرف ربه وخالقه، عرف بأنه قبضة من طين الأرض، ونفخة من روح الله. فمن عرف الجانب الطيني منه ولم يعرف نفخة الروح فيه فقد جانب الصواب ولم يعرف حقيقته، ومن أعطى الجزء الطيني فيه غذاءه مما انبتت الأرض ولم يعط الجانب الروحي غذاءه من الإيمان بالله ومعرفته عز وجل وأشواق روحه وسلامة فطرته ولم يعطها حقها بل جهل قدرها وحرمها ما به حياتها وقوامها، فقد ظلم الفطرة الإنسانية.«كتب أحد الأطباء اللامعين جدولًا لطيبات الحياة المعترف بها كرغائب دنيوية فذكر الآتي: الصحة، الحب، الموهبة، القوة، الثراء، الشهرة، ثم تقدم بها إلى شيخ حكيم فقال الشيخ: جدول بديع وهو موضوع على ترتيب لا بأس به، ولكن يبدو لي أنك أغفلت العنصر المهم الذي يعود جدولك بدونه عبئًا لا يطاق، وضرب بالقلم على الجدول كله وكتب كلمتين سكينة النفس، وقال: هذه هي الهبة التي يدخرها الله لأصفيائه، وانه ليعطي الكثيرين الذكاء والصحة والمال والثراء والشهرة أما سكينة النفس فإنه يمنحها بقدر»(1).فالذي يعيش ليأكل أو يأكل ليعيش شخص لا يعرف الغاية من وجوده ولا الهدف من حياته، فيعيش للجسد ومتطلباته وشهواته وينسى متطلبات الروح وأشواقها وما به سعادتها وراحتها، ويرحم الله من قال:يا خـــادم الجسـم كـم تشقى لخدمتهتبتغي الربح مما فيه خسرانأقبل على النفس واستكمل فضائلهافأنت بالنفس لا بالجسم إنسانومثل هذا الإنسان لا يدري الغاية من وجوده كما لا يدري لم يعيش؟ وكيف يعيش؟ ومن أين جاء؟ وإلى أي شيء يصير؟ فهو وأمثاله يحيون حياة لا طعم لها وعيشا لا معنى له، كله قلق وحيرة وعلامات استفهام وأسئلة لا تجد عندهم جوابًا، فهم كريشة في مهب الريح طائرة.. لا تستقر على حال من القلق.تشعر بهذا حين تقرأ مؤلفاتهم وكتاباتهم (نثرًا وشعرًا)، فهذا الشاعر إيليا أبو ماضي يقول في قصيدته التي سماها «الطلاسم»:جئت لا أعلم من أين ولكني أتيتولقد أبصرت قدامي طريقًا فمشيتوسأبقى سائرًا شئت هذا أم أبيتكيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدريوهي قصيدة طويلة اكتفينا منها بهذين البيتين اللذين تدل كلماتهما على حيرته وضياعه وجهله، فإذا كان هذا الجهل والضياع والحيرة لشاعر كبير طار صيته في الآفاق، وحفظ شعره الأجيال فما بالك بمن دونه!وهذا ما عليه الإنسان المعاصر اليوم، ضياع في دنياه وجهل بمبدئه ومنتهاه، شقي في ظل الحضارة المادية التعيسة التي تغذيها المفاهيم الغربية والشرقية على حد سواء، حتى أصبح إنسانًا ممسوخًا روحًا وإنسانية وفكرًا وأشواقًا بسبب بعده عن الحقيقة وجهله بنفسه وربه الذي خلقه وقال له: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، فالعبودية للخالق هي وظيفة المخلوق، يقول أحد أقطاب الغرب: «إذا لم نكن واعين فإن التاريخ سيذكرنا على أننا الجيل الذي رفع إنسانًا إلى القمر بينما هو غائص إلى ركبتيه في الأوحال والقاذورات»(2)، فإذا انتشرت في بلادهم وبين أسرهم وشبابهم الأمراض المستعصية النفسية منها والعضوية والجنسية والتي كان آخرها الإيدز، والحالات العصبية من جنون وانتحار بنوعيه، البطيء عن طريق المخدرات والسريع عن طريق إلقاء نفسه من شاهق أو في بحر ليغرق ليتخلص من أزماته الخانقة وأوجاعه الأليمة لفقده العنصر الروحي من حياته، فهذا ليس بعجب ولا مستغرب، والأعجب والأغرب أنهم يحسبون أنهم مهتدون وأنهم يحسنون صنعًا.وهنا يأتي دور الدعاة من العلماء الأكفاء ليبصّروهم بواقعهم المؤلم وطريقهم المنحرف، وإرشادهم إلى طريق النجاة المؤدية إلى دوحة الإيمان في ظل عبادة الرحمن، حيث يجد الإنسان هناك الراحة الفكرية والسعادة النفسية والطمأنينة القلبية، والنوم العميق الهنيء ملء الجفون بلا حبوب «فوستان وفاليوم» وعياراتهما المختلفة، وبلا «ابر مورفين» ليأخذ قسطًا من الراحة لا تجديه شيئا ولا تنتشله من أمراضه الكثيرة وأزماته الخانقة، بينما المسلم بإيمانه وعبادته لربه وتمسكه بكتابه وسيره على سنة نبيه ص ومحجتها البيضاء في أمن وراحة بال لذا قال تعالى: {واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} ( الأنفال: 45).ثم كانت الصلاة، التي هي أهم عبادة في الإسلام، من أعظم وسائل الإصلاح الفردي والتربية الأخلاقية والترويح عن النفس قال تعالى: {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} ( العنكبوت: 45)، وكان النبي ص إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة وقال: «يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها» (صحيح الجامع).هكذا يعيش المسلم لربه لا لبطنه، فينتعش ويسعد ويطمئن إلى أن يلقى ربه عز وجل، وهناك الفرحة الكبرى في الفراديس العالية والرضوان الأكبر من الله جل جلاله.أما ما عليه الشعوب الغربية والشرقية على حد سواء فإنهم كما قال الله تعالى عنهم: {يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} (الروم: 7).يعيش الإنسان في تلك البلاد لنفسه وشهواته العاجلة وملذاته القاتلة التي فيها شقاؤه وتعاسته وضياعه، إذ لا هم له سوى إشباع شهوتي البطن والفرج، عيشة البهائم والدواب غافلًا عن مصيره في الآخرة كما قال تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم} (محمد: 12)، ويقال لهم يوم القيامة يوم الحسرة والندامة- تبكيتا-: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} (الأحقاف:20).أجل يعيش ذا الإنسان المجانب لهداية السماء والجاحد بالإيمان بالله الواحد، المنكر ليوم المعاد والجزاء، يوم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون، لا يدري لعيشه سببًا سوى المزيد من الطعام والشراب كالبهائم التي لا هم لها سوى إشباع شهواتها، ينكح ويستمتع لكن دون هدف أو غاية في جو خانق مسموم مظلم، ويبقى هكذا يتنقل بين الشقاء والتعاسة والضياع ويبقى كذلك حتى يعثر على الإيمان الذي هو منه قاب قوسين أو أدنى، قال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (الذاريات: 21)،لكن غروره بعقله وعلومه ومنجزاته المادية يحول بينه وبين ذلك، يقول القرآن عن هؤلاء وهم يصطرخون في النار: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. فاعترفوا بذنبهم فسحقًا لأصحاب السعير} (الملك:10-11)، جاء هذا الاعتراف متأخرًا كثيرًا عن وقته حين كان في الدنيا، وهذه هي نهاية ذلك الإنسان الذي عاش ليأكل أو أكل ليعيش حياته شقاء وتعاسة، ويوم القيامة يرد إلى أشد العذاب.فعلى الدعاة إلى الله، لاسيما الذين يعيشون بينهم ويلمسون ويرون هذا الضياع والشقاء والجهل بأنفسهم ومستقبلهم، أن يدعوهم إلى الله، أي إلى الأمن والأمان وسكينة النفس واطمئنان القلب، في ندوات ولقاءات وحوارات بأسلوب عصري حكيم جذاب بالدعوة إلى «العالمية» بدلًا من العولمة، وإلى العدل والرحمة والمساواة بدلًا من الديموقراطية، وفي نظري أنهم لو دُعوا إلى الله بهذا الأسلوب المجدي الذي يتلخص في قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (النحل: 125) على أن يكون بالخروج من حظوظ النفس وبالحوار الهادئ الهادف والقول الحسن كما قال تعالى: {وقولوا للناس حسنا} (البقرة: 83).. لو فعل ذلك الدعاة إلى الله لأثّروا فيهم تأثيرًا كبيرًا، وأزالوا عنهم خيوط الجهل والغرور والغفلة، وأخرجوهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن الجهل بمبدأهم ومنتهاهم إلى معرفة المبدأ والمصير كما قال تعالى: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} (طه: 55).منها خلقناكم للثواب والعقاب، وفيها نعيدكم للدود والتراب، ومنها نخرجكم للعرض والحساب، وبارك الله في جهود المخلصين من الدعاة والعاملين في حقل الدعوة الإسلامية أينما كانوا.وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.