حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(1)
المقدمة
الحمد لله، خَلقَ الإنسان في أحسن تقويم، وأصلي وأسلم على سيدنا ونبينا محمد بن عبدالله، كان خُلقُه القرآن الكريم، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمــا بعــد: فقد كثرت المستجدات والنوازل في هذه الأزمنة المتأخرة، التي نحتاج إلى تبصّر وتأمل، ومن أشدّها وقعًا ما يكون متصلاً بالنفس الإنسانية، فيؤثر عليها سلبًا أو إيجابًا، ومن ثمّ ينتقل هذا التأثير إلى سائر جوانب الحياة الأخرى، وقد يورث أمراضًا وأسقامًا، وضعفًا وفتورًا، وانقطاعًا للتواصل، وقلة نتاج وغيرها.
وقد شُغل الإنسان في هذه القضية حتى أوجد علومًا لها مثل علم النفس الذي أصبح علمًا يدرس وله نظرياته وتطبيقاته، وكذا الطب النفسي في الجانب العلاجي أصبح تخصصًا له قواعده ومنطلقاته.
والإسلام بمصدريه العظيمين، القرآن الكريم والسنة المطهرة، وقد أكمل الله سبحانه وتعالى بهما الدين، وأتمّ بهما النعمة على المؤمنين، قد حويا المنهجية الكاملة للمؤمن في هذه الحياة، التي إذا ما استقاها وسار عليها أوصلته إلى سعادة الدارين، من سعة الحياة والطمأنينة فيها، إلى نعيم الآخرة وسعادتها.
وقد كان التطبيق العملي لهذا الدين هو حياة النبي ﷺ، فقد جعله الله سبحانه القدوة والأسوة للمؤمنين، فقال سبحانه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا}(1)
والناظر في حياته ﷺ يجد توجيهات عظيمة، ومعالجات لكثير من الإشكالات النفسية التي تستدعي من المختصين إبرازها ودراستها وتنزيلها على الواقع، فهي مليئة بالمعالم والإشارات، بل والأسس لبناء النفس الإنسانية بناء إيجابيًا منتجًا، ولمعالجات ما يطرأ عليها من منغصات.
وقد كتب الله سبحانه وتعالى أن أشارك في شيء من هذه الأسس والمعالم في برنامج في قناة المجد الفضائية لمدة عام كامل بعنوان: (حياة السعداء) والتي كانت فكرته: استخلاص القضايا النفسية – بناء وعلاجًا – من الحديث النبوي، مدعمة بما يعضدها من القرآن الكريم. وهي فكرة لا أعرف من تطرق إليها بمثل الصورة التي عرضت إلا قليلاً من إشارات وعبارات، ومن هنا أردتها انطلاقة لئن يخوض المختصون في هذا الجانب، ليستخرجوا ما في القرآن الكريم والسنة المطهرة من كنوز تفيد علماء النفس والأطباء النفسانيين، وعامة المسلمين ليجدوا فيه ما يثرون علمهم، ويؤصلونه، وليجد كل مسلم ما يعينه على درب السعادة الحقة، وما يعالج به ما يطرأ من مشكلات.
وهذا لا يعني بأي حال – كما قد يفهمه البعض – إلغاء الطب النفسي أو إضعافه، أو عدم فعاليته، بل هو إثراء وتكامل وتأصيل. هكذا أحسب.
كما لا يعني أن ما أذكره جميعه مسلّم، بل كثير منه يحتاج إلى مزيد من البحث والتقويم، فحسبي أنها لبنة في هذا البناء الكبير الذي نحتاج إليه جميعًا.
* * *
ولأهمية هذه الفكرة أعدت النظر مرة أخرى فيما ألقيت في البرنامج لكي أصوغه في كتاب – كما طالب بذلك كثير من المستمعين والمستمعات – فيستفيد منه الجميع.
وعلى ذلك تتسطر أهداف هذا الكتاب فيما يلي:
1 – بناء الشخصية النفسية البناء الصحيح المنتج المؤسس على القرآن الكريم والسنة النبوية.
2 – ربط المسلم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ في جميع شؤون حياته.
3 – إضافة لبنة إيجابية في علم النفس وفي الطب النفسي السلوكي مستنبطة من الكتاب والسنة ومن تطبيقات النبي ﷺ.
4 – إيجاد طرق ووسائل لعلاج أمراض النفوس.
5 – تصحيح مسار كثير من المعالجين بالرقية الشرعية أو بغيرها.
6 – تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة في سلوكيات المعالجين والمرضى.
7 – محاولة تجميع العوامل المساعدة للوصول إلى السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة.
وكانت خطة هذا الكتاب كما يلي:
مهدت بتمهيد وضحت فيه منهج الإسلام في التعامل مع الأمراض والقضايا النفسية.
ثم قسمت الكتاب إلى قسمين، فالقسم الأول: في الجانب البنائي، وقد أطلت فيه إذ هو الأصل فبدأتُ بالمنطلق وهو العلم وأثره على النفس، ثم في أقسام البناء، وهي أعمال القلوب، كالإخلاص والتوكل والخوف والرجاء وغيرها، وأعمال الجوارح كالصلاة والزكاة وقراءة القرآن وغيرها.
والقسم الثاني: في الجانب العلاجي، مثل: تقوية الإرادة، والرقية الشرعية، وبدأتها بذكر بعض أسباب الأمراض النفسية، وختمت بعلاقة الرؤى والأحلام بالجانب النفسي وتأثيرها، وكيفية التعامل معها.
ولخصت ما في هذا الكتاب من أفكار في الخاتمة.
وأشير هنا إلى أني أطلت بعض الشيء في كل موضوع من الموضوعات التي تطرقت إليها، لإفادة القارئ، ثم في تفصيل الرابط بين هذه الموضوعات وبين القضية النفسية بناء وعلاجًا.
هذه أهداف العمل وخطته، ولا أزعم الكمال أو مقاربته ولكن أرجو أن تكون إضافة يُنطلق منها للمواصلة والإنضاج، فهي محاولة شخصية استنتاجية وتأملية في بعض النصوص القرآنية والنبوية مستفيدًا من بعض التفاسير والشروح، وإن كان اعتمادي أكثر على التطبيقات النبوية.
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الجهد، وأن يجعله من المدخرات في الحياة وما بعد الممات، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
---------
(1) الأحزاب [21].
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(19)
الاستقامة - مفهوم الاستقامة
روى مسلم في صحيحه بسنده عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدك وفي حديث أبي أسامة غيرك قال: «قل آمنت بالله فاستقم«(1).
مفهوم الاستقامة:
الاستقامة في اللغة: استقامَ الشيء: اعتدل واستوى(2).
وفي الاصطلاح: يمكن تعريف مفهوم الاستقامة في الاصطلاح من عدة وجوه، منها:
1- سلوك الصراط المستقيم.
2- لزوم الشريعة في التوحيد والعبادة والأخلاق.
3-لزوم أوامر الله واجتناب نواهيه ومعرفة أثر ذلك.
4- السير على هدي النبي ﷺ وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم، لقوله: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة«(3).
ومنطلق هذا البحث هو التوجيه النبوي في قوله ﷺ: «قل آمنت بالله ثم استقم«(4).
ويؤيده قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(5)
.
وقوله جل ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}(6).
وقوله تبارك وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}(7).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــ
(1)
أخرجه مسلم (ص39، رقم 159)
(2)
المعجم الوسيط 2/ 768 مادة (قَوَمَ)
(3)
أخرجه أبو داود (ص151، رقم 4607)
(4)
سبق تخريجه
(5)
[هود: 112]
(6)
[فصلت: 30]
(7)
[الفاتحة: 6]
رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)
حيـــــــــاة الســــــعداء
الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
(20)
مجالات الاستقامة
الاستقامة مفهوم عام تدل على التمسك بهذا الدين عقديًا وعمليًا، لذا فإن هذا المفهوم يدخل في جميع أصول الإسلام وفروعه، ومن أهم المجالات التي تقتضي الاستقامة فيها ما يلي:
أولاً: الاستقامة في العقيدة:
وهي التصور الصحيح عن الله سبحانه وتعالى وعلاقته بمخلوقاته وكونه، وذلك بالإيمان المطلق بالله تعالى وتوحيده في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، والإيمان بسائر أركان الإيمان، وهو الإيمان بملائكة الله وكتبه رسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، التي جاء ذكرها في كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ، يقول تبارك وتعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}(1).
ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل عليه السلام: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره«
فإن اعتقد الإنسان بهذه الأركان اعتقادًا صحيحًا، وتمثلت آثارها في جميع مناحي الحياة، فإنه قد حصل على الاستقامة العقدية إن شاء الله تعالى، أما إذا اختلطت مع إيمانه بتلك الأركان تصورات أخرى، وظن في غير الله تعالى النفع والضر، أو قدّم وسائط من البشر أو الشجر أو الكواكب لتقربه إلى الله تعالى، أو يخبره عن الغيب، فإنه يسير في ظلمات الضلال، ويدخل في قضية الشرك والندية مع الله تعالى، وبذلك فإن الاستقامة بعيدة عن واقعه العقدي.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــ
(1)
[البقرة: 285]
(2)
[مسند أحمد: 1/106]