السلطان العادل نور الدين محمود زنكي رحمه الله
مدخل:
مرّت الشعوب المسلمة بسنين عجاف كثرت فيها الخلافات، وتعددت فيها الرايات، وظهر على المسلمين فيها الأعداء، وخبأ في قلوب الأكثرين الرجاء، غير أن الله سخر رجالاً "ظهروا ونبغوا في أحوال غير مساعدة وفي أجواء غير موافقة بل وفي أزمنة مظلمة حالكة، وفي بيئات قاتلة فاتكة، وفي شعب أصيب بشلل الفكر، وخواء الروح، وخمود العاطفة، وضعف الإرادة، وخور العزيمة، وسقوط الهمة، ورخاوة الجسم، ورقة العيش، وفساد الأخلاق، والإخلاد إلى الراحة، والخضوع للقوة، واليأس من الإصلاح"(1).
فعملوا على البناء في مجالات عدة: البناء للشخصية المسلمة والبناء للنظام الإداري والبناء للأمة المتوحدة، حتى استطاعوا تجديد الدين في واقع الناس، ونشر راية السنة في ربوع الأرض الإسلامية، من هؤلاء الأبطال السلطان العابد المتواضع الزاهد الشجاع المجاهد نور الدين محمود زنكي رحمه الله، الذي يجهل سيرته كثير من المسلمين.
أصله ونسبه:
هو الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي بن آقسنقر، كان جده آقسنقر قد وُلِّي حلب وغيرها من بلاد الشام، ونشأ أبوه عماد الدين بالعراق، وندبه الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين لولاية ديار الموصل والبلاد الشامية بعد قتل آقسنقر البرسقي وموت ابنه مسعود، فظهرت كفايته وبدت شهامته واستتب له الأمر ففتح الرها والمعرة وكفر طاب وغيرها من الحصون الشامية، واستنقذها من أيدي الكفار، وحاصر دمشق مرتين، فلم يتيسر له فتحها، فلما انقضى أجله رحمه الله قام ابنه نور الدين مقامه في الملك.
حياته:
أكرم الله نور الدين بكل هذا التاريخ المجيد وكل هذه السيرة العطرة ولم تتجاوز أيامه في هذه الأرض ثمانية وخمسين عاماً، فقد ولد نور الدين وقت طلوع الشمس من يوم الأحد سابع عشر شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة، ومات يوم الأربعاء الحادي عشر من شوال سنة تسعٍ و ستين وخمسمائة، مكث منها في الملك ثمانية وعشرين عاماً.
نشأته:
نشأ نور الدين في كفالة والده، و تعلم القرآن و الفروسية الرمي، و كان شهماً شجاعاً ذا همة عالية، وقصد صالح، وحرمة وافرة وديانة بينة (2).
حبه للسنة:
أظهر نور الدين ببلاده السنة، وأمات البدعة، ومن ذلك أمره بالتأذين بـ(حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح)، ولم يكن يؤذن بهما في دولة أبيه و جده، وإنما كان يؤذن بـ(حيّ على خير العمل) شعار الرافضة المبتدعة الذين كانوا كثيرين في أيامه.
كان نور الدين محباً للسنة حريصاً على اتباعها، قال عنه ابن عساكر: "ولقد حكى عنه من صحبه في حضره وسفره أنه لم يكن يسمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره، وإن أشهى ما إليه كلمة حق يسمعها أو إرشاد إلى سنة يتبعها" (3).
حكى الشيخ أبو البركات أنه حضر مع عمه الحافظ أبي القاسم مجلس نور الدين لسماع شئ من الحديث، فمر أثناء الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج متقلداً سيفاً، فاستفاد نور الدين رحمه الله أمراً لم يكن يعرفه، وقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلد السيف!!" يشير إلى التعجب من عادة الجند إذ هم على خلاف ذلك لأنهم يربطونه بأوساطهم، فلما كان من الغد مرّ وأنا تحت القلعة والناس مجتمعون ينتظرون ركوب السلطان، فوقفنا ننظر إليه، فخرج من القلعة وهو متقلد السيف و جميع عسكره كذلك، و يعلق ابن قاضي شهبة على هذه الحادثة فيقول: "رحم الله هذا الملك الذي لم يفرط في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الحالة. بل لما بلغته رجع بنفسه ورد جنده عن عوائدهم اتباعاً لما بلغه عن نبيه صلى الله عليه سلم فما الظن بغير ذلك من السنن" (4).
وروى أبو شامة قائلاً: "وبلغني من شدة اهتمام نور الدين رحمه الله بأمر المسلمين حين نزل الفرنج على دمياط (5) أنه قرئ عليه جزء من حديث كان له به رواية، فجاء في جملة تلك الأحاديث حديث مسلسل بالتبسم فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يبتسم لتتم السلسلة على ما عرف من عادة أهل الحديث، فغضب من ذلك وقال: إني لأستحي من الله تعالى أن يراني مبتسماً والمسلمون محاصرون بالفرنج" (6).
ومع أن نور الدين رحمه الله حنفي المذهب إلا أنه نشر مذاهب أهل السنة الأربعة، وبنى المدارس، ووقف الأوقاف، وأظهر العدل والإنصاف.
شجاعته:
يقول الإمام ابن عساكر: "بلغني أنه في الحرب رابط الجأش، ثابت القدم، شديد الانكماش، حسن الرمي بالسهام، صليب الضرب عند ضيق المقام، يقدُم أصحابه عند الكرة، ويحمي منهزمهم عند الفرة، ويتعرض بجهده للشهادة لما يرجو بها من كمال السعادة" (7).
وقال ابن الأثير: "وأما شجاعته وحسن رأيه فقد كانت النهاية إليه فيهما، فإنه كان أصبر الناس في الحرب، وأحسنهم مكيدة ورأياً، وأجودهم معرفة بأمور الأجناد وأحوالهم، وبه كان يضرب المثل في ذلك، سمعت جمعاً كثيراً من الناس لا أحصيهم يقولون: إنهم لم يروا على ظهر الفرس أحسن منه، كأنه خلق منه لا يتحرك و لا يتزلزل" (8).
وقال الحافظ ابن كثير: "وأما شجاعته فيقال: إنه لم ير على ظهر فرس أشجع ولا أثبت منه"، وقال كذلك: "وكان شجاعاً صبوراً في الحرب، يضرب المثل به في ذلك، وكان يقول: قد تعرضت للشهادة غير مرة، فلم يتفق لي ذلك، ولو كان فيّ خير ولي عند الله قيمة لرزقنيها، والأعمال بالنيات، وقال له يوماً قطب الدين النيسابوري: بالله يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك؛ فإنك لو قتلت قتل جميع من معك وأخذت البلاد، وفسد المسلمون؛ فقال له: اسكت يا قطب الدين فإن قولك إساءة أدب مع الله، ومن هو محمود؟ من كان يحفظ الدين والبلاد قبلى غير الذي لا إله إلا هو؟ ومن هو محمود؟ قال فبكى من كان حاضراً رحمه الله" (9).
وكان نور الدين رحمه الله إذا حضر الحرب أخذ قوسين وجعبتين، وباشر القتال بنفسه (10).
وعند حصن الأكراد عام 558هـ هاجم الصليبيون معسكر نور الدين رحمه الله على حين غفلة وهو في قلة من أصحابه؛ فانسحب بسرعة إلى حمص وأخذ ما يحتاجه من خيام وتجهيزات عسكرية، وعاد فعسكر على بحيرة (قدس) على بعد أربعة فراسخ فحسب من مكان الهجوم، يقول ابن الأثير: "فكان الناس لا يظنون أنه يقف دون حلب، فكان رحمه الله أشجع من ذلك وأقوى عزماً"، وعلى بحيرة (قدس) اجتمع إليه كل ناجٍ من المعركة فقال له بعض أصحابه: ليس من الرأي أن تقيم هاهنا، فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا ونحن على هذه الحال؛ فوبخه واسكته وقال: "إذا كان معي ألف فارس لا أبالي بأعدائي قلّوا أم كثروا، والله لا أستظل بجدار حتى آخذ بثأر الأسلام و ثأري"، وأرسل إلى حلب يطلب مزيداً من الأموال و العدد. وكان في نية الصليبيين الهجوم على حمص باعتبارها أقرب المواقع إليهم، فلما بلغهم مقام نور الدين رحمه الله قريباً منها قالوا: إنه لم يفعل هذا إلا وعنده من القوة ما يمنعنا (11).
وقال عنه أحد الأمراء الذين تأخروا في الاستجابة لندائه للمساعدة في فتح حارم: "إن نور الدين قد تحشف من كثرة الصوم والصلاة فهو يلقي نفسه والناس معه في المهالك" (12).
ولقد حكى عنه بعض من خدمه مدة ووازره على فعل الخير أنه سمعه يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير (13).
فتوحاته:
بعد أن تولى نور الدين رحمه الله الملك استنقذ الرها من ابن جوسلين، ولما استتب له الأمر خرج غازياً في أعمال تل باشر، فافتتح حصونا كثيرة وافتتح قلعة أفامية وقلعة عزاز وتل باشر ودلوك ومرعش وقلعة عينتاب ونهر الجوز وغير ذلك، وحصن البارة وقلعة الراوندان وقلعة تل خالد وحصن كفر لاثا وحصن بسرفوت بجبل بني عليم، وغزا حصن إنب؛ فقصده الأبرنس متملك أنطاكية وكان من أبطال العدو وشياطينهم، فرحل عنها ولقيهم دونها فكسرها وقتله وثلاثة آلاف فرنجي كانوا معه، وبقي ابنه صغيراً مع أمه بأنطاكية وتزوجت بأبرنس آخر، فخرج نور الدين رحمه الله في بعض غزواته فأسر الإبرنس الثاني، وتملك أنطاكية ابن الأبرنس الأول، وهو بيمنت، ووقع في أسره في نوبة حارم وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد (14)، وحاصر دمشق مرتين فلم يتيسر له فتحها، ثم قصدها الثالثة فتم له الصلح مع ملكها معين الدين وصاهره (تزوج ابنته)، واجتمعت كلمتهما على العدو لما وازره وسلم أهلها إليه البلد؛ لغلاء الأسعار والخوف من استعلاء كلمة الكفار، فضبط أمورها، وحصن سورها، وبنى بها المدارس والمساجد، وأفاض على أهلها الفوائد، وأصلح طرقها، ووسع أسواقها، وأدر الله على رعيته ببركته أرزاقها، وبطل منها الأنزال، ورفع عن أهلها الأثقال، ومنع ما كان يؤخذ منهم من المغارم كدار بطيخ وسوق البقل وضمان النهر والكيالة وسوق الغنم وغير ذلك من المظالم، وأمر بترك ما كان يؤخذ على الخمر من المكس، ونهى عن شربه وعاقب عليه بإقامة الحد والحبس، واستنقذ من العدو خذلهم الله ثغر بانياس وغيره من المعاقل المنيعة، كالمنيطرة وغيرها بعد الأياس (15).
إنجازاته الاجتماعية والإدارية:
أما إنجازاته الاجتماعية فقد لخصها أبن عساكر في قوله: "وأدر على الضعفاء والأيتام الصدقات، وتعهد ذوي الحاجة من أولي التعفف بالصلات، حتى وقف وقوفاً على المرضى والمجانين، وأقام لهم الأطباء والمعالجين، وكذلك على جماعة العميان، ومعلمي الخط والقرآن، وعلي ساكني الحرمين ومجاوري المسجدين، وأكرم أمير المدينة الحسين، وأحسن إليه، وأجرى عليه الضيافة لما قدم عليه وجهز معه عسكراً لحفظ المدينة، وقام لهم بما يحتاجون إليه من المؤونة، وأقطع أمير مكة إقطاعاً سنياً، وأعطى كلاً منهما ما يأكله هنياً مرياً، ورفع عن الحُجّاج ما كان يؤخذ منهم من المكس، وأقطع أمراء العرب الإقطاعات لئلا يتعرضوا للحجاج بالنحس، وأمر بإكمال سور مدينة الرسول، واستخراج العين التي بأحد وكانت قد دفنتها السيول، ودعي له بالحرمين، واشتهر صيته في الخافقين، وعمر الربط والخانقاهات والبيمارستانات (16)، وبنى الجسور في الطرق والخانات، ونصب جماعة من المعلمين لتعليم يتامى المسلمين، وأجرى الأرزاق على معلميهم وعليهم وبقدر ما يكفيهم، وكذلك صنع لما ملك سنجار وحران والرها والرقة ومنبج وشيزر وحماه وحمص وبعلبك وصرخد وتدمر، فما من بلد منها إلا وله فيه حسن أثر، وما من أهلها أحد إلا نظر له أحسن نظر، وحصل الكثير من كتب العلوم ووقفها على طلابها، وأقام عليها الحفظة من نقلتها وطلابها وأربابها، وجدد كثيراً من ذي السبيل وهدى بجهده إلى سواء السبيل (17).
زهده وتواضعه:
كان السلطان نور الدين رحمه الله زاهداً متواضعاً، لا يحب علواً في الأرض ولا فساداً، تلقى يوماً من بغداد هدية تشريف عباسية، ومعها قائمة بألقابه التي كان يذكر بها على منابر بغداد ".. اللهم أصلح المولى السلطان الملك العادل العالم العامل الزاهد العابد الورع المجاهد المرابط المثاغر نور الدين و عدته، ركن الإسلام و سيفه، قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزها، رضيَّ الإمامة وأثيرها، فخر الملة ومجدها، شمس المعالي و ملكها، سيد ملوك المشرق والمغرب وسلطانها، محي العدل في العالمين، منصف المظلوم من الظالمين ناصر دولة أمير المؤمنين.."، لكن نور الدين رحمه الله أسقط جميع الألقاب وطرح دعاءً واحداً يقول: "اللهم واصلح عبدك الفقير محمود زنكي!!" (18).
وعندما التقت قواته في (حارم) بالصليبيين الذين كانوا يفوقونهم عُدة وعدداً، انفرد نور الدين رحمه الله تحت تل حارم، وسجد لربه عز وجل، ومرّغ وجهه، وتضرع وقال: "يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك، أيش فضول محمود في الوسط؟"، يقول أبو شامة: "يشير نور الدين هنا إلى أنك يا رب أن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر، و بلغني ـ يعني أبو شامة ـ أنه قال: اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً.. من هو محمود حتي ينصر؟" (19).
وحكى أبو شامة قائلاً: "وبلغني أن إماماً لنور الدين رأى ليلة رحيل الفرنج عن دمياط في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أَعْلِمْ نور الدين أن الفرنج قد رحلوا عن دمياط في هذه الليلة، فقال: يا رسول الله، ربما لا يصدقني، فأذكر لي علامة يعرفها، فقال : قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم وقلت : يا رب انصر دينك ولا تنصر محموداً، من هو محمود الكلب حتى ينصر؟".
قال فبهت ونزلت إلى المسجد، وكان من عادة نور الدين أنه كان ينزل إليه بغلس، ولا يزال يتركع فيه حتى يصلي الصبح، قال فتعرضت له فسألني عن أمري، فأخبرته بالمنام وذكرت له العلامة، إلا أنني لم أذكر لفظة الكلب، فقال نور الدين: أذكر العلامة كلها و ألح علي في ذلك، فقلتها، فبكى ـ رحمه الله ـ وصدق الرؤيا، فأرخت تلك الليلة، فجاء الخبر برحيل الفرنج بعد ذلك في تلك الليلة" (20).
أما نفقته فقد كانت قصداً، يقول ابن كثير: "كان نور الدين عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق على أهله و عياله في المطعم والملبس حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه، من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا" (21).
ويحكي رضيع الخاتون زوجة نور الدين، أنها أرسلته إلي نور الدين تطلب زيادة في مخصصاتها المالية، يقول: "فلما قلت له ذلك تنكر وأحمر و جهه ثم قال: من أين أعطيها، أما يكفيها مالها؟ والله لا أخوض نار جهنم في هواها!! إن كانت تظن أن الذي بيدي من الأموال هي لي فبئس الظن!! إنما هي أموال المسلمين، ومرصدة لمصالحهم، ومعدة لفتق ـ أن كان ـ من عدو الاسلام، وأنا خازنهم عليها فلا أخونهم فيها، ثم قال: لي بمدينة حمص ثلاث دكاكين ملكاً قد وهبتها إياها فلتأخذها!! قال الرضيع: وكان يحصل منها قدر قليل، نحو عشرين ديناراً (22).
وقال ابن الأثير: "أحضر نور الدين الفقهاء، واستفتاهم في أخذ ما يحل له، فأخذ ما أفتوه بحله، ولم يتعده إلى غيره البتة، ولم يلبس قط ما حرمه الشرع من حرير أو ذهب أو فضة، وحكي لي عنه أنه حمل إليه من مصر عمامة من القصب الرفيع مذهبة فلم يحضرها عنده، فوصفت له فلم يلتفت إليها، و بينما هم معه في حديثها، إذ قد جاءه رجل صوفي فأمر له بها، فقيل له: إنها لا تصلح لهذا الرجل، ولو أعطي غيرها لكان أنفع له، فقال: أعطوها له فأني أرجو أن أعوض عنها في الآخرة، فسلمت إليه فسار بها إلى بغداد فباعها بستمائة دينار أو سبعمائة، وأنا أشك أنها كانت تساوي أكثر" (23).
ويقول سبط ابن الجوزي: "كان ـ يعني نور الدين ـ إذا أقام الولائم العظيمة لا يمد يده إليها إنما يأكل من طبق خاص فيه طعام بسيط" (24).
وكان يقترض أحياناً ليأكل يقول ابن كثير: "كان عمر الملاّء رجلاً من الصالحين الزاهدين، وكان نور الدين يستقرض منه في كل رمضان ما يفطر عليه، وكان يرسل إليه بفتيت ورقاق فيفطر عليه" (25).
صلاحه وتقواه:
كان نور الدين رحمه الله صالحاً.. صادق الرؤيا.. "رأى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة ثلاث مرات، وهو يقول له في كل واحدة منها: يا محمود أنقذني من هذين الشخصين، لشخصين أشقرين تجاهه، فاستحضر وزيره قبل الصبح فأخبره، فقال له: هذا أمر حدث في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ليس له غيرك، فتجهز ـ نور الدين ـ وخرج على عجل بمقدار ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك، حتى دخل المدينة على غفلة، فلما زار طلب الناس عامة للصدقة، وقال: لا يبقى بالمدينة أحد إلا جاء، فلم يبق إلا رجلان مجاوران من أهل الأندلس نازلان في الناحية التي قبلة حجرة النبي صلى الله عليه وسلم من خارج المسجد عند دار آل عمر بن الخطاب، قالا: نحن في كفاية، فجدّ في طلبهما حتى جئ بهما فلما رآهما قال للوزير هما هذان، فسألهما عن حالهما وما جاء بهما، فقالا لمجاورة النبي صلى الله عليه وسلم فكرر السؤال عليهما حتى أفضى إلى العقوبة، فأقرا أنهما من النصارى ووصلا لكي ينقلا النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحجرة الشريفة، ووجدهما قد حفرا نقباً تحت الأرض من تحت حائط المسجد القبلي يجعلان التراب في بئر عنهما في البيت.
فضرب أعناقهما عند الشباك الذي شرقي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم خارج المسجد وركب متوجهاً إلى الشام راجعاً، فصاح به من كان نازلاً تحت السور واستغاثوا وطلبوا أن يبني لهم سوراً يحفظهم فأمر ببناء هذا السور الموجود اليوم" (26).
فيا من يرى علو تلك المرتبة لا تنس الدرج!
إن الناظر إلى سيرة نور الدين رحمه الله ليرى حياة حافلة بالإنجاز و العطاء، والبذل والجهاد، ويتعجب كيف استطاع أن يبلغ تلك المنزلة، ويتذكر قول ابن القيم: "فيا من يرى علو تلك المرتبة لا تنس الدرج، كم خاض بحراً ملحاً حتى وقع بالعذب! وكم تاه في مهْمهٍ قفرٍ حتى سمى بالدليل! وكم أنضَّ مراكب الجسم! وفض شهوات الحس! وواصل السرى ـ ليلاً ونهاراً ـ وأوقد نار الصبر في دياجي الهوى" (27)، فلله كم من بحر ملح خاضه نور الدين! وكم من غصص الصبر تجرع! وكم من الشهوات خالف! وكم من المباح هجر! وكم من الجهد البدني والرياضة الروحية قدم! حتى وصل إلى تلك المرتبة التي تنحسر عنها الأبصار.
وأرى أن أهم الأسباب التي أهلته لذلك الفضل و تلك المنزلة: مواظبته على العبادة وإخلاصه وتجرده.