باختصار - العاقل من تدبر في العواقب


النظر في مآلات الأفعال معتبَرٌ ومقصود شرعًا، وهو أصل من أصول الفقه لابد لنا من العلم به، لنعرف متى نقدم؟ ومتى نحجم؟ متى نصرّح؟ ومتى نلمَّح؟ متى نواجه؟ ومتى نتقي.

ومن الشواهد الشهيرة في السيرة النبوية التي تدل على هذا الأصل، ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة بناء الكعبة وهدمها، والحكمة من ترك إعادة بنائها، فقد ترك - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من المصالح الشرعية خشية ما قد يؤول إليه من مفاسد أعظم، قال -صلى الله عليه وسلم -: «يا عائِشَةُ، لَوْلا أنَّ قَوْمَكِ حَديثُو عَهْدٍ بشِرْكٍ، لَهَدَمْتُ الكَعْبَةَ، فألْزَقْتُها بالأرْضِ، وجَعَلْتُ لها بابَيْنِ: بابًا شَرْقِيًّا، وبابًا غَرْبِيًّا، وزِدْتُ فيها سِتَّةَ أذْرُعٍ مِنَ الحِجْرِ، فإنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْها حَيْثُ بَنَتِ الكَعْبَةَ».

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر؛ فأنكر عليهم من كان معي؛ فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم».

يعلمنا ابن تيمية -رحمه الله- مراعاة مآلات الأفعال؛ فإن كانت تؤدي إلى مطلوب، فهي مطلوبة، وإن كانت لا تؤدي إلا إلى شر فهي منهي عنها، ويعلمنا أيضاً أن الغاية من إنكار المنكر هي حدوث المعروف؛ فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه فإنه لا يسوغ إنكاره.

قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه»، فالعاقل إذا أراد أن يقول الكلمة في أي مجال، فإنه يتدبّر الأمر، أي أنه يستشير عقله قبل أن يقول كلمته، ليدرس العقلُ الكلمة في كل نتائجها، وفي كل سلبياتها وإيجابياتها، أما الأحمق فقلبه وراء لسانه، فإذا خطرت الكلمة في ذهنه قالها دون أن يدرس عواقبها ومآلاتها.

وقال الشافعي -رحمه الله-: صِحَة النظر في الأمور، نجاة من الغرور، ففكر قبل أن تعزم، وتدبر قبل أن تهجم، وشاور قبل أن تقدم.

سُئِلَ أحد الحكماء عن الفرق بين العاقل والسفيه؟ فقال: كثير، ومنه أن العاقل اللبيب يستفرغ فكره ويتبصر الأمر قبل أن يباشره، والجاهل السفيه يستخف فكره ويتبصر الأمر بعد أن ينتهي منه، قال الحسن -رحمه الله-: الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل.

إن التفكر في عواقب الأمور من صفات العقلاء الذين لا يستغنون عنها، فكثير من الأمور، لا يمكن أن تحكم عليها في بداياتها، بل بنهاياتها؛ لأن الشيء ربما يكون خيرًا في أوله، ولكنه يكون شرًا في آخره، وقد يكون العكس، ولذلك لابد للإنسان من أن يتدبر أمره في كل ما يريد القيام به قبل أن يبدأ بالعمل، ليعرف مداخل الأمور ومخارجها، ومصادر الأمور ومواردها، وليعرف النتائج السلبية أو الإيجابية الناجمة عن القيام بهذا العمل أو ذاك.

ولعل مشكلة بعضنا الأساسية أننا ارتجاليون وحماسيون وانفعاليون، نرتبط بالشخص من خلال عاطفة، ونرتبط بالأشياء من خلال ما توحيه إلينا اللحظة.

فحتى لا نقع في العواقب غير المحمودة يجب أن نركّز على أهميّة تدبّر الأُمور وتعقلها؛ فالمطلوب التأني في حركتنا ومواقفنا؛ كي نضمن سلامة ما نقوم به أو نفكّر فيه؛ فالمؤمن مَن يدرس الأُمور بعمق ويتدبّرها، ولا يكون شخصًا عاطفيًا، تحرّكه الانفعالات واللافتات والشعارات من هنا أو هناك، بل ينطلق بذهنية التخطيط، ويستفيد من تجارب الآخرين؛ فالقرارات الحكيمة، والمواقف الصائبة، هي التي تُبنى على رويّة تامة، ورؤية ثاقبة، واعتبار لمآلاتها وعواقبها.


وائل رمضان