الألفاظ والمصطلحات التغريبية المستحدثة في الثقافة العربية في هذا العصر ، ربما تحمل دلالات ومعاني متعددة ، يمكن تطبيقها على مجالات واسعة وفي شرائح مختلفة . ولا يمكن للثقافة العربية التحرّز من ذلك الغزو التغريبي الواسع لسببين : الأول : العولمة التي أطبقت على العالم من أقصاه إلى أدناه ، وصيّرت الدنيا الواسعة كالقرية الصغيرة في أطراف المدينة .

الثاني : التيار التغريبي المتدفّق ، الذي يستمدّ سرمديته من الدعم المادي والمعنوي من الإعلام العفن ، المموّل من الغرب الفاجر الذي يعمل بلا استجمام أو أناة .

ومن المصطلحات التي يصدح بها الإعلام اليوم ما يسمى بـ "الدولة المدنية" وهو مصطلح غربي ظهر على إثر طغيان الأباطرة المدعوم من الكنائس ، فظهر من ينادي بأن يجعل الحكم بيد الشعوب ونزعه من سلطة الكنيسة ، فاستبعد مصطلح

"الدولة الدينية" المدعوم قديماً من رهبان النصارى ، وثبّت بدلاً منه مصطلح "الدولة المدنية" ، وقرّرت الثقافة الغربية وجوب فصل الدين عن الدولة استجابة لمطالب الناس في تلك الحقبة المظلمة .

ومن الخذلان أن بعض المفكرين العرب نشروا هذه المبادئ التي تقرّر أهمية اقامة "الدولة المدنية "وزيّنوها للناس الذين خضعوا للغرب وانقادوا بكل طواعية لثقافته وحضارته .

والذين تلقّفوها وقبلوا بها على ضربين : الأول : قومٌ أنصاف متعلّمين ، سُذّج لم ينضج الفقه في صدورهم ، وليس لهم جرأة على دفع كل شاذ أو فاسد .

الثاني : قومٌ اندسّوا بين صفوف الناس في المجتمعات المسلمة وتظاهروا بالإسلام ، وفي قلوبهم غِل وكيد على كل مظهر من مظاهر توحيد المسلمين ، وبعض هؤلاء ممن درسوا في الجامعات الغربية ونهلوا من معينها ورضعوا من لبانتها .

صفّقت المجتمعات المقهورة لهذا المُسمى "الدولة المدنية" ، ظناً منها أن هذا الاتجاه هو سبيل السعادة والاستقرار ، بينما هو بلاء على الدين والدنيا .

فحقيقة الدولة المدنية التي يسعى إليها العلمانيون والليبراليون هي : التحاكم إلى الطاغوت بكل صوره وهيئاته ، وتجريد الشرع من الحاكمية التي أنزلها الله في كتابه وأوحاها الى رسوله صلى الله عليه وسلم .
والتمدّن الذي يسعى إليه هؤلاء المخذولون هو التحاكم إلى ( الديمقراطية ) أي أن المجتمعات تحكم نفسها بنفسها ، وأن الثوابت يمكن إلغاؤها أو التخفيف منها.
وقد حزب على هؤلاء المناداة بإسقاط الشريعة الإسلامية في قوانينهم ، فأجازوا التدين الشخصي ومنعوا المرجعية الإسلامية في الدستور المدني سوى قانون الأحوال الشخصية وبعض المعاملات الضرورية في الحياة الخاصة . وهذا كله مردود بقول الله تعالى : " ولا يشرك في حكمه أحدا " ( الكهف : 26 ) وبقوله سبحانه : " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون" ( المائدة: 50) .

ولسان حال هؤلاء يقول : نقبل باسلام عصري على ذوقنا وبمواصفاتنا لا بوحي الله وحكمه !! . " قل أتعلّمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الارض" . ( الحجرات : 16) .

إذا كان الترويج لفكرة تأسيس دولة مدنية القصد منه : تكريس قمع الصحوة الإسلامية التي أضحت ظاهرةً مقلقة للغرب في العالم ، فليرفق الساسة بحالهم ، فإن المدّ الإسلامي بدأ يسري بنوره في أوروبا الشرقية ،والولايات المتحدة الأمريكية ، والصين الشعبية ، والهند الوثنية، وروسيا الشيوعية ، كضياء الفجر ، كما قال الله تعالى : " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله" ( التوبة : 33 ) ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ليبلغن هذا الامر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا حجر الا أدخله الله هذا الدين ، اما بعزّ عزيز او بذل ذليل ، عزا يعز الله به الاسلام ، وذلا يذل الله به الكفر " . حديث صحيح على شرط مسلم .

لقد أسلم أحد علماء القانون اليهود قبل سنين لما علِم أن أنصبة الميراث الإسلامي جمعت في القرآن في عشرة أسطر، بينما قانون الميراث في الدستور الأمريكي يقع في ثمان مجلدات ! ، وأسلم عالم أسترالي قريبا عندما اكتشف أن مادة الزجاج التي يحتويها جسم (النمل) قد أشار إليها القرآن في قول الله تعالى : " قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده " ( النمل : 18 ) . وأسلم قبلهما كثير، كالفيلسوف الفرنسي( رينيه جينو) والمفكر الانجليزي (مارتن لنجز ) .

إن مقومات الدولة المدنية التي يغازلها المفكرون اليوم في الشرق والغرب ، قد كفلها الإسلام في عدله ومساواته وقيمه وعطفه وإعزازه لكل من انتسب إليه ، بغض النظر عن هويته ومذهبه . وحيلة اولئك في أسلمة العلمانية وتقريبها للشباب الغافل هي جناية لن يصمت عنها المخلصون . وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

كتبه: أحمد بن مسفر العتيبي.