«القرآن والتغيير النفسي»

توفيق محمد سبع - كاتب صحفي


إن هذا التغيير- يعني بتعبير- أدق نقلة معنوية في عالم النفس تصعد بضمير المؤمن ووجدانه إلى الملأ الأعلى، ليعيش مع ذلك المستوى الأسنى حياة النقاء والسمو والطهر، بعيدًا عن الشهوات والآثام، لينطلق بذلك إلى حياة إسلامية رائدة ترفض الواقع المزري،

وتنشد المستوى الكريم.. ومتى تولدت في النفس تلك القوة التي تسيطر على وساوسها وتهيمن على مسالكها واتجاهاتها فمحال أن يخضع صاحبها لمذلة أو هوان.. وذاك هو ما تنشده التربية الإيمانية وتقوم عليه.. وبهذا تكون تلك النفس في ثورة دائمة على الهبوط والإسفاف، جانحة إلى التسامي والعلاء لتحقق العالم النظيف الذي يتلاءم مع فطرتها التي فطرها الله عليها.

ولا يمكن لهذا التغيير أن يحدث آثاره الهائلة في الحياة إلا إذا كان نابعًا من أغوار النفس ومن باطنها، فأما التغيير الظاهري الذي لا ينبع من الأعماق فهو تغيير سطحي لا يحدث أثرًا، ولا يغير واقعًا، ولا تعتمد عليه في منهج الإصلاح!!
ومن ثم كان تغيير الأشباح والأشخاص والوجوه لا يعني شيئًا في هذا التحول الكبير!! وكثيرًا ما تخدع به شعوب ودول فتعتقد أن مجرد تغيير فرد بفرد، أو وزارة بوزارة كفيل أن يحل المشكلة ويزيل المعوقات.. ويقود إلى الصلاح والخير.. ولكن هيهات هيهات!! فما لم تنبع الرغبة في الإصلاح من أعماق النفس، فإن هذا الإصلاح يصبح صيحة في واد أو نفخة في رماد، لا تحصل منه الأمة إلا على قبض الريح أو حصاد الهشيم!! وهذا ما نراه بأعيننا اليوم على ساحة الحياة.
مجالات التغيير النفسي
عندما تشعر الأمم بأن مكانتها قد ضعفت، وأن منزلتها قد هبطت، وأن ريحها قد ذهبت، وأنها قد غدت هينة تافهة.. لا يقام لها وزن ولا يعمل لها حساب.. كما يقول الشاعر العربي:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم
ولا يستأذنون وهم شهود
حينئذ يجب على هذه الأمة إذا كانت جادة أن تبحث في أسباب هذا الهوان الطارئ، ثم تعمد على الفور إلى إحداث عملية تغيير نفسي.. يعيد إليها مجدها، ويرد عليها عزها لتأخذ مكانها بين الأمم، وتقول كلمتها في سياسة الحياة..
كذلك عندما تفرق الأمم في المعاصي، وترتع في جو الخطيئة فتتحول حياتها إلى فسوق وعصيان وبعد عن الله عزوجل، في هذه الحالة ينبغي أن ترجع هذه الأمم سريعًا إلى ربها بالتزام منهج الطهر، والابتعاد عن حياة الخطيئة ولا يكون ذلك إلا بالإصرار النفسي على التغيير!
وعندما تترهل عزيمة الأمم بالترف، وتسرف في الملذات والشهوات وتقعد عن حياة الجهاد والعمل، وتخلد إلى الراحة والاستكانة، فإنها تفتح على نفسها أبوابًا من الفساد.. الذي يدمر حياتها، ويأتي على بنيانها من القواعد، وقديمًا أهلك الترف أممًا وقضى على ممالك وأسقط حضارات.
عندما تصل الأمم إلى هذا الوضع الفاسد فإنها تطالب بعملية تغيير نفسي يقودها إلى حياة الكفاح والجد، لتصقل عزيمتها في جو العمل والجهاد.. وعندما تصاب الأمم بتمزق الصف، واختلاف الكلمة، وتناقص الأهداف، بحيث يصبح بأسها بينها، فيكيد بعضها لبعض، ويحارب بعضها بعضًا، وتتفنن في اختلاق الأزمات، وتلفيق التهم، ذاهلة عن عدوها الأصيل، تاركة إياه يعربد في أرضها، ويقتل أبناءها، ويعبث بمقدراتها ومقدساتها.. عندما تصل الأمة إلى هذا المستوى المهين.. فإنها مطالبة بعملية تغيير نفسي تصلح به الفاسد، وتنقذ الضائع، وتعيد التماسك إلى صفوفها، والوحدة إلى شعوبها.
عندما تتردد الأمم في التبعية الذليلة، فترتمي في أحضان الدول الكافرة، وتفضي إليها بأسرارها، وتتخذ منها البطانة، فإنها مطالبة سريعًا بأن تستمع إلى قول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (الممتحنة: 1).
وحينئذ تعمد إلى عملية تطهير نفسي يعيد إليها شخصيتها المستقلة، وإرادتها المتحررة، فتمضي على درب الإيمان.. مع الله ورسوله.
وكم من مجالات لا يحصيها العد تحتاج إلى تغيير نفسي يعصمها من الزلل، ويحميها من الضياع، ويحفظ عليها كرامتها وعزها!
من سنن الله الكونية
يوشك التغيير النفسي الذي أشرنا إليه أن يكون سنة مطردة من سنن الله في الكون، يخضع لقوانين عامة شاملة، لا تختلف فيها أمة عن أمة، ولا يتمايز فيها جيل عن جيل، {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137).
من أجل ذلك كان التقصير فيه عندما تتجمع أسبابه معجلاً بفناء الأمم، مؤذنًا بغروب شمسها.. وللأمم آجال كما أن للأفراد أعمارًا.. وأعمار الأمم طويلة بالنسبة إلى أعمار الأفراد: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } (الأعراف: 34).
وإنما تغرب شمس الأمم عندما تتنكر للدين الحق، وتعبث بفضائله، وتتجاهل صوت النبوات، وترفع في جو الآثام والشهوات: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيَّا} (مريم: 59).
ولله عز وجل سنن يجريها، وقوانين يمضيها على الخليقة جمعاء لا يحابي شعبًا، ولا يستثني أمة وهذه القوانين تكفل للأمم مجدًا عريقًا، وعزًا سابغًا، وتمكينًا في أرض الله مادامت قائمة على أمر الله، منفذة لتعاليمه، سالكة سبيل الرسالات السماوية: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 40-41).
وليس المقصود بالنظر في الآية الكريمة النصر على العدو فحسب، بل هو نصر مطلق شامل!! نصر في شتى الميادين على التخلف والجهل- وعلى عوامل الضعف وعلى شهوات النفس وعلى كل معوقات الحياة!! إن هذا النصر إنما يتم بهذا المنهج المتماسك الذي رسمته الآية الكريمة.. وذاك هو التغيير الشامل الذي تنصر به الأمم على كل المعوقات والأزمات!! وبذا يتم لها التمكين في أرض الله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11)... وهذا هو طريق الحياة الكريمة يقوم على دعامتين: رعاية حقوق الله، والوفاء بمطالب الحياة: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105).
فالتمكين في أرض الله إنما يتم بصلاح الأنفس، وهو صلاح مادي ومعنوي.. فالعباد الصالحون بهذا التصور هم وراث الأرض- وصناع الحضارة- ورواد الخير إلى يوم الدين إنهم يملكون منهجًا أخلاقيًا وبرنامجًا حضاريًا.. وكلا الأمرين صلاح.. كلاهما عبادة لله.. وعندما تأخذ الأمة بقوانين العلم المادي- وهو ركن من أركان العقيدة- فتبني وتعمر وتزرع وتحصد، وتنشئ وتخترع، وتستخدم وسائل العلم التجريبي.. منطلقة في بناء الحضارة.. لتعيش في صميم العصر وفي جوهر الحياة تحرسها عقيدتها وتدفعها مواهبها.. فإنها بذلك تحيا حياة مباركة، وتمضي في مضمار السبق بخطىً حثيثة.. لا تنحرف ولا تنزلق، ولا تزل لها قدم بعد ثبوتها، وهكذا تمضي العقيدة متعانقة مع العلم على درب قاصد سديد، وتأبى الحضارة الحقة إلا أن تكون كما صورت مزيجًا متناسقًا من الماديات والروحيات!
وهذا هو الإسلام في جوهره الأصيل.
إن هذا الدين يأبى أن يكون نظرية تحتبس في المصحف، أو مشاعر تختبئ في الضمير، أو شعائر تقتصر على التعبد.. ولكن يجب أن تشع فضائله في المجتمع المسلم.. وأن تتجسد في سلوك، وأن يتحول إلى نبض حي يسري في الحياة، فيتعامل به الناس، ويجدون فيه علاج مشكلاتهم، ودواء أمراضهم، وأسباب سعادتهم ونصرهم كما أن هذا الدين الواقعي يأبى أن يسلم أبناءه إلى التخاذل واختلاف الكلمة، إنه يؤلف بين قلوبهم، ويجمع بين صفوفهم، ويخلق منهم صفًا متماسكًا كالبنيان المرصوص، فلا يتخاذلون في المواقف، ولا يتنابذون بالألقاب، ولا يتقاذفون الشتائم، وعندما تعيش المجتمعات على هذا النحو فإنها تملك قوة ذاتية تزلزل الجبال الرواسي، وتفرض كلمتها وإرادتها على أعداء الله.
وعندما تتعرى السياسة عن الدين.. فتمضي فاجرة رعناء.. فإنها تشتت الشمل، وتفرق الصف، وتحدث الوهن، وتجرد الأمة من درع المهابة والوقار.. فيطمع فيها العدو، ويذيقها سوء العذاب!! إذ أن قوانين النصر والهزيمة ليست خاصة بالأمم السابقة دون اللاحقة، لأن التاريخ البشري كله وحدة متماسكة، وسلسلة محكمة السرد لا وهن فيها ولا انقطاع، وسننه المطردة لا تختلف من قديم إلى جديد.
التغيير النفسي وكرامة الإنسان
لنقرأ في هذا المقام قول ربنا سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الأنفال: 53) وقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد:11)، فسوف نجد أن الآيتين تقرران قاعدة عامة من قواعد الاجتماع البشري كما أسلفنا، وهي أن الله لن يسلب النعمة إلا أن تتغير النفوس، وتفسد الطبائع، وينحط السلوك، عند ذلك يغير الله نعمة أولئك الأقوام، التي لم يرعوها حق رعايتها، ولم يؤدوا شكرها، إلى نقمة ونكال، يشقى بها أولئك الأقوام، وينحدرون إلى درك المهانة والتخلف، وعندما نتأمل الآيتين السابقتين ستتضح لنا حقيقة رائعة.. وهي الارتفاع بالإنسان إلى أقصى درجات التكريم.. فإن قدر الله لا ينفذ فيه إلا من خلال نيته، وحركة عمله، وطبيعة سلوكه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (الليل: 5-10).
إن تصرف القدر في حياة البشر مبني على التغيير الواقعي في قلوبهم، ونفوسهم وضمائرهم، وجميع أوضاعهم التي يؤثرونها بإرادتهم الحرة في إطار المشيئة الإلهية.
أما المذاهب المنحرفة فإنها تلغي إرادة هذا الإنسان الكريم على ربه، وتجعله أسيرًا لشهواته، عبدًا للآلة والمادة، صريعًا للنظم والتقاليد.. فهو كائن سلبي أمام حتمية التاريخ، وحتمية الاقتصاد لأنها الآلهة التي تصنع له مصيره!! فأين هذا الوضع المهين من كرامة هذا المخلوق في ظل النظام الإسلامي؟!
وانظر بعد ذلك كيف يتمكن الإنسان من خلال التغيير النفسي إلى الأفضل من صنع مصيره، وصياغة مستقبله، بل كيف تبرز إرادته الحرة طليقة من كل قيد يكبلها، أو قهر يعنتها، أو استبداد يحول بينها وبين تحقيق ذاتها؟! وإنها لنعمة جليلة من نعم الله علينا.. نذكرها دائمًا في مجال السماحة التي أسبغها رب العباد على ذلك الإنسان الضعيف!! وجاء بها الإسلام ليصنع عالم الأحرار في أرض الله!!
شهادة التاريخ
عندما نتأمل أحداث التاريخ.. ونتدبر وقائعه نرى أن الأمم عندما تتخلى عن الأخذ بأسباب الفلاح، فإن مشيئة الله تتخلى عنها فتتخطفها الطير، أو تهوي بها الريح في مكان سحيق، وعندما تأخذ بأسباب الصلاح فإن مشيئة الله تؤازرها، وترفعها إلى حيث ينبغي أن ترتفع!! سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا.
فعندما انطلق العرب عمومًا بخصائص دينهم الجديد يفتحون البلاد ويدكون الحصون ويقهرون الظلم، ويواجهون أعتى الدول وينازلونها في ميادين الجهاد انتصروا على أعدائهم.. وأقاموا الدولة الكبرى التي كانت أمل العالم في ذلك الوقت.. تلك الدولة التي أنصفت المظلوم، وأغاثت الملهوف، وأعانت على نوائب الحق.
ذلك لأن المسلمين آنذاك كانوا كما قال المرحوم مصطفى صادق الرافعي: «ينبعثون من حدود دينهم- لا من حدود أنفسهم، وشهواتها، لأنهم ارتفعوا فوق هذه الأنفس فما يحملون السيف إلا بقانون، وما يضعونه إلا بقانون».
ولقد فتح العرب الأندلس بأخلاقهم، وحكموه بدينهم، وضبطوه بفضائلهم، ونشروا علوم القرآن وآدابه في مدنه وعواصمه، فعاشوا سادة كرامًا في ظل هذا الصلاح زهاء ثمانية قرون، صنعوا خلالها مجدًا، وكتبوا تاريخًا، وأنشأوا حضارة.
وعندما استكانوا للدعة، وتشبعت بطونهم، وخويت أفئدتهم وقلوبهم، واستباحوا المآثم والشهوات ولفَّهم الترف في ثياب الأبهة، فأمعنوا في الأثاث والرياش، وتسرب إليهم داء الأمم القديمة من التفرق والحسد، فانقسموا على أنفسهم، واستعانوا بعدوهم.
وهكذا تأخذ الأمم بأسباب الحياة فتحيا، وتنحرف عن سنة الحياة فتنتحر، وصدق ربنا إذ يقول: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }(الأعراف: 34) ولنأخذ مثل آخر من التاريخ: عندما كان بنو إسرائيل على خطَ من تقوى الله، مكن الله لهم في الأرض، وأنزل عليهم المن والسلوى، وقال مذكرًا لهم حتى لا ينحرفوا عن هذا النهج: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ} (البقرة: 122)، وعندما انحرفوا عن الجادة، وتوزعتهم المآثم والشهوات، فعبدوا العجل، وأكلوا السحت، وقتلوا أنبياء الله، وتعاملوا بالربا، وغرقوا في الحياة المادية إلى الأذقان سقط اللواء من أيديهم.. لقد صاروا بهذا التغير أخبث أهل الأرض ونزل فيهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (المائدة: 78).
إنها سنة الله التي لا تحابي، ومن ثم تحول القوم إلى شذاذ أفّاكين!!
ولن أطيل بذكر فارس والروم وغيرهما من ممالك الأرض القديمة والحديثة لأن ذلك معلوم يعرفه كل مثقف ولا يختلف فيه أحد.
عبرة الساعة من هذا المقال
الحقيقة أن واقع المسلمين الراهن واقع سيء، والانهيار المستمر في حياتهم يهدد وجودهم نفسه، وعلى الرغم من أننا لا نبالغ في تجسيم الأخطاء، فإنه لا ينبغي أن نتجاهل ما نحن فيه من ترد وهبوط، لأن ذلك يفصلنا عن الواقع، فيجعلنا نستمرئ الأخطاء، ونتعود الحياة الواهنة الذليلة بكل أبعادها المادية والمعنوية، يجب ألا نهول وألا نهون، فكلا الأمرين خطر لا تحمد مغبته، بل ينبغي أن تكون النظرة متزنة، حتى نبدأ من واقعنا السيء الذي انحدرنا إليه، فنعمل على الفور على إحداث عملية تغيير نفسي يشمل الأمة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، وكل قطر إسلامي أعرف بأدوائه.. وهو مطالب سريعًا بأن يرتفع من واقعه المؤسف إلى وضع أفضل يمكنه من أداء رسالته الخالدة في الحياة!!
والسؤال الذي يطرح نفسه على الموقف تلقائيًا هو: أين يمكن إيقاف ذلك الانهيار في حياة هذه الأمة؟
والجواب الحاسم: هو أن هذا التحول ينبغي أن يبدأ في أنفسنا، قبل أن يبدأ في أوطاننا فإن النفس إذا صلحت من الداخل أمكن أن تنقل صلاحها إلى المجتمع الواسع العريض فتستقيم مسيرته، وتتضح وجهة.. أما إذا ظلت الأنفس على ما بها من دَخَل وغش وفساد فمحال أن تستقيم مسيرتنا مهما خطبنا وصحنا وألقينا الشعارات.. لأن مثل ذلك لا يكون تغييرًا من داخل النفس.. بل من خارجها.. فهو تغيير صوري لا يلبث أن يذهب مع الريح وتبقى نقائض المجتمع على ما هي عليه!!
إن على المسلمين إذا أرادوا النهوض من هذه الكبوة.. أن ينتزعوا أنفسهم من حياة الشهوات والنقائض إلى حياة إسلامية نظيفة، فإذا تحولنا إلى مسلمين حقيقيين كما يريد الإسلام، تحول بنا مجتمعنا، وتحول بنا المسلمون في كل مكان، وتحول العالم كله بنا، وحدث التغيير الكبير في هذه الآفاق، وبذلك نكون أداة كريمة لهذا التغيير الرائد والعميق في الدنيا بأسرها.. كما أراد لنا رب العزة والجلال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143).
تلك هي وظيفتنا وهذه رسالتنا.. أن نحرس معاقل الوحي حتى لا يتطاول عليها السفهاء، وأن نوقظ رقابة الضمير حتى لا يطغى اللصوص، وأن نكافح الرذائل كيلا تطفح الشهوات، ولا يمكن بغير هذا أن يتم التحول الكبير في حياة هذه الأمة.. مهما تكلمنا وعقدنا المؤتمرات!!
بل إن جهودنا تتحول إلى ضروب من الخداع والعبث، لأن التحولات الكبيرة في حياة الشعوب والأمم لا تحدث بالأقوال دون الأفعال.
إن التغيير النفسي هو تحول عميق في أغوار النفس الإنسانية تؤازره إرادة قوية في التخلص من واقع سيئ مهين إلى مستقبل عزيز كريم، تنتقل فيه النفوس من الشر إلى الخير، ومن الرجس إلى الطهر، ومن الباطل والضلال إلى الحق والواجب، ومن المهانة والمذلة إلى العزة والكرامة.
وتلك معان كريمة قد نذهل عنها ونحن نخوض معركة الحياة، ونحصل مطالب العيش، ونمضي مع أهدافنا القريبة غير ملتفتين إلى ما وراءها من تسام وجلال.