04-08-2012 | يحيي البوليني
وكنتيجة لوجود هذا التفسير لسبب الغزوة واعتماده – وحده - من قبل المتحدثين , فيتم وضعهم جميعا تحت ضغوط التبرير – كل عام - لسبب هجوم النبي صلى الله عليه وسلم على القافلة واستهدافها , ومن ثم يقفون وكأنهم في موقف المدافع عن جرم ارتكب ويبحثون له عن المبررات والأعذار . هذا الطرح الوعاظ وطلبة العلم في موقف حرج إذ عليهم أن يبرروا



عادة يكون من الحساسية بمكان الحديث عن مراجعة فكرية حول المواقف التاريخية , خصوصا إذا كانت تمس اوقاتا ومواقف ذات مكان مرموق من صفحات التاريخ .
وبقدر ما ينبغي للباحث في التاريخ والفكر الإسلامي أن يكون منضبطا بضبوابط المنهجية بقدر ما ينبغي عليه الاحتياط والرعاية لما يمكن أن ينتج من بحثه وما يترتب عليه من رؤى وتقديرات , فيلزمه دقة البحث من جهة , ومراعاة النتائج من جهة أخرى .
وكلماتنا الآن هي من ذلك النوع الذي يدور حول واقعة هامة لها مقامها الإيجابي االكبير في التاريخ عامة والتاريخ الإسلامي خاصة .
فمنذ اللحظة الأولى التي استجاب فيها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لأمر ربه بان يجهر بدعوة الناس للإسلام " فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ" , ومنذ أن جمع الناس على جبل الصفا ودعاهم إلى توحيد الله بدأت فعليا مرحلة إلقاء الشبهات على شخص النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى دعوته كاملة وعلى أتباعه , فبدأها أبو لهب - تبت يداه - حين قال : " تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا " ؟

وظلت بعدها الشبهات والاتهامات تكال للإسلام وللمسلمين ولشخص النبي صلى الله عليه وسلم .
وجاءت طريقة آيات القرآن الكريم كأعظم المناهج في الرد على الشبهات وتصحيح الأخطاء ليتعلم المسلمون الرد على مناوئيهم الذين يرمونهم بكل نقيصة , فكان بيانه إظهارا للحق ودفعا للشبهات وتصحيحا للمفاهيم .
وتنوع المنهج القرآني بين الدفاع تارة والهجوم على معتقدات المهاجمين تارة فلم يلزم جانب الدفاع دوما , إذ المدافع دوما لا يحسن استغلال نقاط التهافت في دعوى خصمه إذ يهتم دائما بأن يدفع عن نفسه فقط أي اتهام , فحينما يتهم المتهِمون الإسلام بما يعتبرونه من النقائص يغضون الطرف عما يوجد لديهم من فساد كبير وعوار شديد في العقيدة والأخلاق والسلوك وضعف شديد في المناهج العلمية والتحليل التاريخي

وغزوة بدر من الأحداث الهامة والكبرى في السيرة النبوية , وهي من الأحداث التي يسلط عليها الكثير من الضوء لارتباطها تاريخيا بشهر رمضان ( 17 رمضان ) , فيكثر الحديث عنها غالبا في الخطبة المتوسطة من الشهر , حيث تكون تلك الخطبة - كأنها موحدة - في معظم مساجد العالم الإسلامي عن الغزوة أحداثا وتحليلا ودروسا وعبرا .

ولكن شيئا هاما جدا يجب الالتفاف إليه والاهتمام به والتأمل فيه وهو عن سبب تلك الغزوة الأولى والكبرى والتي كان لها ناتج ومردود كبير على الدعوة الإسلامية , ومما يدلل على ذلك تسمية الله لها بيوم الفرقان " إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "

ولقد ترسخ مفهوم عن سبب الغزوة مجتزئ للحقيقة منتقص منها ولها نتيجة التراكم لدى المتحدثين من الدعاة والوعاظ , فيقولون فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وأصحابه فقط لكي ينالوا عير قريش ويصيبوا منها , أي أن الخروج لم يكن إلا بدافع اقتصادي بحت أو لرد المظالم فقط .

وهذا جزء من الحقيقة فقط , ولكنه ليس كل الحقيقة ولا حتى الجزء الأهم فيها , وجاء هذا التصور غير المكتمل نتيجة الاعتماد فقط على سيرة ابن هشام كتلخيص لسيرة ابن إسحاق - يكاد أن يكون - مصدرا أساسيا - ومع إهمال كثير من المصادر الأخرى القيمة - وحيدا للسيرة النبوية وتربت عليه الأجيال وترسخ عليه فهم الوعاظ وطلبة العلم لسبب الغزوة .

وكنتيجة لوجود هذا التفسير لسبب الغزوة واعتماده – وحده - من قبل المتحدثين , فيتم وضعهم جميعا تحت ضغوط التبرير – كل عام - لسبب هجوم النبي صلى الله عليه وسلم على القافلة واستهدافها , ومن ثم يقفون وكأنهم في موقف المدافع عن جرم ارتكب ويبحثون له عن المبررات والأعذار . هذا الطرح وضع الوعاظ وطلبة العلم في موقف حرج إذ عليهم أن يبرروا !
ولاشك أن هذا الطرح بهذه الكيفية قد فتح بابا كبيرا ولج منه المستشرقون في الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم والطعن على الصحابة الكرام بل على دعوة الإسلام , فهاجم المستشرقون هذا الموقف النبوي هجوما شديدا إذ اتهموا المسلمين بتهم كثيرة منها وصفهم – حاش لله - بقطع الطريق وأخذ الأموال !

ويعتبر اللبناني الأصل الأمريكي الدراسة والعمل والوفاة "فيليب حتي" نموذجا لهؤلاء المستشرقين , فيقول في كتابه : " تاريخ العرب " – الذي تمت طباعته وتوزيعه على أبناء الجيش الأمريكي - معلقا على سبب الغزوة " وأول مشكلة توجب حلها ـ أي في المدينة ـ إنما كانت إطعام الفقراء من المهاجرين وإيواءهم ، فراح ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم ـ يوزعهم بين الأنصار ، ولكن بعد سنتين وجدت المدينة المضيفة نفسها على حافة الانهيار ، أولا لسوء الحال الاقتصادية ، وثانيا لأن موارد المدينة كانت محدودة ، فكانت عيون أهل المدينة تتطلع إلى القوافل المكية الراجعة من سورية ، حاملة البضائع ، وفي جيوب رجالها الدنانير ، كانت القوافل المكية إغراء لم يتمكن أهل المدينة من مقاومته ، وإنزال الضربة في القوافل بمثابة إنزال الضربة في شرايين مكة الحيوية ، وذات يوم من أيام رمضان ( في منتصف شهر آذار سنة 624م ) ، وفي أثناء الشهر الحرام وقعت غزوة بدر " , وحديث هذا المستشرق مليئ بالهراء
وقال غيره من المستشرقين أن سبب الغزوة هو الانتقام الشخصي من أهل مكة بعدما أصبحت للمسلمين دولة , بينما توسع آخرون وقالوا أن الدوافع الاقتصادية هي المحرك الوحيد للجهاد الإسلامي بعامة وأن كل الغزوات لم تكن إلا بهدف قطع الطريق وسرقة الأموال .

وهذه الأقوال كلها من الخطأ التاريخي المحض , ولولا استمرار المسلمين في الدفاع عن سبب الغزوة بهذه الكيفية لما تجرأ أمثال هؤلاء , ولا ينبغي للمسلمين أن يقفوا فقط للانزواء والتبرير وهم يمتلكون ناصية الحقيقة كاملة والتي ينبغي أن يعلنوها للناس ويتحدثوا بها في كل وقت ومكان ويجب أن تتغير استراتيجيتهم في ذكر سبب الغزوة حتى يبينوا للناس وجه الحق .

والحق أنه لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يوما بادئا باعتداء , بل خرج وصحابته بدينهم ليعبدوا الله سبحانه بعيدا عن الظالمين الذين حالوا بينهم وبين عبادة ربهم على الوجه الذي يرضيه , وخرج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته بعد أن أخرجوا من ديارهم وأموالهم وتركوا كل شيئ في سبيل إرضاء ربهم , ولم يكن يشغلهم إلا أن يعبدوا ربهم في أمن وطمأنينة بعيدا عن الفتن التي كانوا يلاقونها في مكة .

بعد الهجرة بأيام .. قريش تبدأ بالاعتداء
ففي رواية صحيحة الإسناد صححها كثير من العلماء وقال بها الألباني في تعليقه على سنن أبي داود [1] , لم تنل حظها من الاهتمام من كتاب السير , لكنها تفسر لنا السبب الأهم لإقدام النبي صلى الله عليه وسلم على مهاجمة عير قريش , ومفادها أن قريشا أعلنت الحرب على الجماعة الناشئة في يثرب منذ أن وطئت أقدامهم أرضها , وعملت على إثارة الفتن والمشكلات لهم , ومعلنة وقوفها ضد هذه العصبة حتى بعد تركت لها الأرض والأموال والدور , ومعلنة أيضا عداءها لكل من يؤوي هذه العصبة وتهددهم بالحرب والاستئصال .
ولا يخفى جدية هذا التهديد القرشي المكي وخاصة أن العرب كلهم يعتبرون قريشا هي القيادة الروحية والدينية لهم , ويعتبرون وجود البيت الحرام في مكة وتحت سيطرة كفار مكة مسوغا لتهديد ومنع أي عربي يفتح أبوابه لمحمد صلى الله عليه وسلم ومن معه .
فيروي أبو داود في سننه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس والخزرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر إنكم آويتم صاحبنا وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم فقال لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا "
إن هذه الرواية تثبت لنا أن قريشا الآن قد جعلت من نفسها عدوا وتستعدي على المؤمنين في المدينة كفار يثرب ليخوض المسلمون حربا أهلية بين كفار يثرب ومسلميها , أو يضطر النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه أن يبحثوا عن مكان آخر يأويهم إذا ما نفذت قريش تهديدها وجهزت جيشا لغزو المدينة وساعتها فلن يكون للمسلمين مكان في الجزيرة العربية لخضوعها كلها تقريبا تحت سيطرة دينية لكفار مكة باعتبارهم سدنة البيت الحرام , وحينها أيضا سيكرر كفار مكة نفس الفعل مع أي قبيلة تؤوي محمدا ومن معه .
إذن فقوافل قريش ليست قوافل قبيلة مسالمة ولا محالفة ولا مستأمنة بل هي قوافل قبيلة محاربة تنتظر عودة تلك القافلة لكي تستعين بها على تجهيز جيش عرمرم لغزو المسلمين في يثرب , وهذا ما حدث حرفيا إذ أوقفت أموال تلك القافلة على تجهيز جيش مكة في العام الذي يليه والذي خاض معركة أحد فكان تمويله بالكامل من أموال قافلة أبي سفيان التي نجت في بدر .
ولم يكن سلوك أهل مكة هذا مع أهل يثرب وحدهم بل راسلوا اليهود أيضا وهم من سكان المدينة والذين تحالفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فكتبوا لهم رسالة مشابهة تحرضهم على نبذ العهد ومحاربة النبي وأصحابه واخراجهم من المدينة وذلك بعد غزوة بدر .
ففي نفس الرواية لابي داود " فبلغ ذلك كفار قريش فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود إنكم أهل الحلقة والحصون وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء وهي الخلاخيل فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم . أجمعت بنو النضير بالغدر .."

فهل يتصور عاقل يعي أبجديات الحروب والسياسة أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم القافلة التي سيستعين بها عدوه لجمع الأحمر والأسود من الناس لمحاربته واستصال صحابته من يثرب ليدخل بعدها المسلمون نفقا مظلما لا يدرون كيفية الخروج منه ؟! , وهل يعتبر هذا من أعمال القرصنة أم من أعمال الدفاع المشروع عن النفس ؟ ولمَِ يدافع المسلمون ويبررون الموقف دون ذكر تفاصيله القوية التي تعطي للنبي وصحابته الحق الكامل فيما فعلوا وتخرس كل لسان يذكر تلك الفترة بسوء .

وقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الفترة الأولى – التي سبقت بدرا - كأكثر الفترات شدة وصعوبة عليه , إذ كان لا يستطيع النوم إلا وهو يحمل سلاحه , وكان يسهر المسلمون بأسلحتهم تحسبا لهجمة من كفار يثرب أو من مقدم جيش مكة , ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يستطيع النوم آمنا إلا بعد حراسته من احد أصحابه رضي الله عنهم أجمعين .

فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي بألفاظ متقاربة واللفظ للترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: سَهِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ لَيْلَةً قَالَ لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا يَحْرُسُنِيَ اللَّيْلَةَ قَالَتْ فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعْنَا خَشْخَشَةَ السِّلَاحِ فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِكَ فَقَالَ سَعْدٌ وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَامَ وفي رواية مسلم " قالت عائشة فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه " .
ولم يتركوا حراسته صلى الله عليه وسلم إلا حينما نزلت الآية الكريمة " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" .
فكيف يمكن لإنسان أن يقول بعد ذلك أن مهاجمة قافلة قريش كانت فقط من أجل الحصول على المال أو لرد المظالم التي ظلمها المسلمون من أهل قريش ويتغافل عن تلك الحقائق التاريخية القوية والساطعة ؟

-----------------------------------------------------------------------------


[1] صحيح سنن أبي داود - 3000 ج7 ص4