شهر رمضان بيْن الربح والخسران









كتبه/ نصر رمضان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمِن أعظم مواسم العمر ونفائس الدَّهر، التي هي مفاتِحُ الخير ومجامع البِر، وطريق الجنَّة: "شهر رمضان"، الذي هو حقيقٌ بأن يُسمَّى سُوقَ الجنَّة؛ فهو سوق لا يُباع فيها إلاَّ قصورٌ ما رأت عينٌ مثلَها، وجواهِرُ ما طمحت نفسٌ إليها، وكواعب أتراب ما خطر على قلب بشر حسنُها, "شهر رمضان" مِن أجلّ النفحات, وأعظم العطايا والهبات؛ شهرُ الرّحمات والبركات, والحسنات والخيرات، وسكب العبرات, وإقالة العثرات.

فالخيبة والخسران لمَن أدرك مواسم الغفران ولم يغفر له, والمحروم مَن حرم فيه رحمة الله؛ كيف لا وجبريل -عليه السلام- يقول كما في الصحيح: (مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُغفر لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ)، فيؤمِّن النبي -صلى الله عليه وسلم- على دعائه (آمِينَ!) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).

فرمضان فرصة نادرة ثمينة، فيها الرحمة والمغفرة, أبواب الجنة مفتحة، وأبواب النيران مغلقة, ودواعي الخير ميسرة, والأعوان عليها كثيرون, وعوامل الفساد محدودة, ومردة الشياطين مصفَّدون, فيه ليلةُ القدر خيرٌ مِن ألفِ شهر؛ مَن صامه وقامه غُفر له ما تقدّم مِن ذنبه، ولله -تعالى- فيه عتقاءُ مِن النّار, فمَن لم تنله الرحمة مع كل ذلك فمتى تناله إذن؟! ولا يهلك على الله إلا هالك, فالواجب على العبد أن يتقدم فيه ولا يتأخر, ويمضي ولا يلتفت, ويطرق أبواب الخير, وما فتح له مِن بابٍ فليلزمه؛ قال خالد بن مَعْدَان: "إذا فُتحَ لأَحَدُكُم بَابُ خيرٍ؛ فليسرع إليه فإنه لا يدري متى يُغلق عنه!", (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) (الإسراء:19).

فطلب الجنة بدون سعي جنون وعبث, قال يحيى بن معاذ: "عمل كالسراب وقلب مِن التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب ثم تطمع في الكواعب الأتراب! هيهات أنت سكران بغير شراب!"؛ لما سمع الصالحون قوله -تعالى-: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (البقرة:148), فهموا أن المراد مِن ذلك أن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة, والمسارع إلى بلوغ الدرجات العالية (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُو نَ) (المطففين:26), قال وهيب بن الورد: "إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل".

قال ابن القيم: "أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن مَن آثَر الراحة فاتته الراحة، وأن بحسَبِ ركوب الأهوال واحتمال المشاقِّ تكون الفرحة واللذة؛ فلا فرحة لِمَن لا همَّ له، ولا لذة لمَن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلًا استراح طويلًا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعةً، قاده لحياة الأبد".

فالخسارَةُ مُرٌّ مَذَاقُهَا، شديدٌ على النَّفس وطؤُهَا، غير أنَّه ومهما تنوَّعت خسارةُ الإنسانِ أو تعدَّدت، فإنَّهُ لا أعظم ولا أشدَّ مِن خسارتِه دينَهُ وإيمَانهُ؛ إذ بِه خسارةُ نفسه وهلاكُهُ، قال -سبحانه-: (قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم وَأَهلِيهِم يَومَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ) (الزمر:15), وقيمة كل إنسان ما يطلب, فمَن كان يطلب الدنيا فلا أدنى منه, فإن الدنيا دنية, وأدنى منها مَن يطلبها وهي خسيسة, وأخس منها مَن يخطبها.


قال بعضهم: "القلوب جوالة, فقلب يجول حول العرش, وقلب يجول حول الحش", فالدنيا كلها حش, وكل ما فيها مِن مطعمٍ ومشربٍ يؤول إلى الحش.

وقال بعضهم في يوم عيد لإخوانه: "هل تنظرون إلا خرقـًا تبلى, أو لحمًا يأكله الدود غدًا؟!".