أمالي شيخ العربية أبي فهر محمود أحمد شاكر رحمه الله قيَّدها بخطِّ يده تلميذُه الدكتور يعقوب يوسف الغنيم
التحريرالتعريف بفنّ الأماليالأمالي عبارة عن مجالس علمية، تتكوّن من شيخ هو المُمْلي (المتحدّث بالفوائد والنُّكت العلمية)، وتلميذ هو المستملي (أي طالب الإملاء).والعادة أنّ كتب الأمالي متنوعةٌ بحسب موضوع الدروس التي يُطلب لها الإملاء، فقد يكون موضوعها شرحًا لكلام العرب وحكمائهم وشعرائهم وخطبائهم، مقرونة بفنون النقد والموازنة، وأطرافٍ من غريب اللغة ونادرها، وطائفةٍ من قصص العرب وكلام الأعراب في باديتهم، بالإضافة إلى بعض مسائل العربية والتاريخ، وقد تكون الأمالي موضوعة لفن التفسير أو الحديث وغير ذلك.ومن كتب الأمالي على سبيل المثال: أمالي القالي، أمالي ثعلب، أمالي المرزوقي، الأمالي لابن البرِّي، الأمالي للزجاجي... وغيرها.وكتابنا الذي نعرّف به يندرج في الأمالي الأدبية، لأنه تناول بالتفصيل ما جرى في مجالس شرح كتاب الأصمعيات.حكاية هذا السِّفْر(قراءةٌ في دفتر قديم)ترجع حكاية هذه التقييدات النفيسة البالغة الأهمية إلى ما يزيد على نصف قرن من الزمان، حيث بدأ الأستاذ الدكتور يعقوب الغنيم كتابتها عام 1957م في أوراقه الخاصّة ودفاتره الشخصية، بعد أن يسّر الله له المعرفة بشيخ العربية العلامة محمود شاكر رحمه الله، وأنعم الله عليه بموافقة شيخه على عقْد لقاء علميّ يجمعه بعصبة صالحة من مُحبّي الأدب والعربية، يشرح لهم فيها كتاب الأصمعيات، للإمام الحافظ أبي سعيد عبدالملك بن قريب الأصمعي البصري اللغوي الإخباريّ العلامة، وهي مختاراتٌ شعريةٌ عظيمةُ الوقْع على قلوب المتخصصين من أهل اللغة والأدب، واختيارُ تلاميذ شاكر لكتاب الأصمعيات أو اختيار شيخهم له دليلٌ على مدى العمق الأدبيّ والثراء اللّغويّ الذي اكتنف تلك الفترة الزمنية (فترة الخمسينيات)، ممّا جعل أهل ذلك الزمن ممّن تعبوا في تكوين أنفسهم ولا يزالون على قيد الحياة اليوم، هم مشاعل العلم والمعرفة في يومنا الحاضر، وحريٌّ بمن أراد بعث المعرفة العربية، وأن يوقِد جذوتها أن يستنير بهم ويتعلّم من خبراتهم.ومِن رحمة الله تعالى وألطافه بالكاتب المقيِّد لهذه الكنوز اللغوية والفوائد والنُّكت العربية أن هيّأ له صحبة نافعةً وعقلًا حاضرًا وفهمًا نفّاذًا وطبيعةً عربية تحبّ التغرّب وتفرح بالتميّز، دلّتْه- وهو في مقتبل عمره- على السّبيل السوية في طلب العلم، وشدّت أزره بشيخ العربية أبي فهْر، سيّد الأدب وعبقريّ زمانه فيها، وهذا ما جعل لهذه الأماليّ وزنًا وحضورًا عند مَن يعرف قيمة الأشياء، ويُقوّم الجهد الشاق الذي يلزم لتحصيلها وتهذيبها.عمل الدكتور الغنيمحاول الأستاذ أن يغتنم لحظاته مع شيخه، وفي الوقت نفسه كان حريصًا على التقييد والمتابعة لِما يدور في مجلس شيخه الحافل بالفوائد ذات اليمين وذات الشمال، ولأن هيبة شيخه كانت تمنعه من أن يستوقفه أو يقطع على السامعين لذة المتابعة، أخذ على نفسه أن يكون حاضر البال قدر استطاعته، وهذا ما جعله يُسجل ما جرى في تلك المجالس العامرة، ولم يترك شاردة ولا واردة إلا قيَّدها، ساعده على ذلك فيما يظهر سرعةٌ في الكتابة ودقةٌ في النقل واطّلاعٌ أدبيّ وافر، وقبل ذلك وبعده كان يعترف لشيخه بالفضل عليه بعد فضل الله تعالى، فيقول: «واليوم وبعد وفاة الرجل الذي علّمنا وفتح أمام أعيننا مجالات المعرفة بالثقافة العربية...»، وقد كتب عنه بعد رحيله مقالات راقية، تتمتع بحسٍّ أدبي فيّاض، ووفاء نادر لشيخه شاكر رحمة الله عليه.وإنما يدرك مدى التعب والنصب الذي يهزّ مَن تحمّل هذه التَّبِعة العارفون بمشقة الطريق وقلة الصبر على لأوائه، على حدّ قول الحكيم:لاَ يَعْرِفُ الشَّوْقَ إِلاَّ مَنْ يُكَابِدُهُوَلَا الصَّبَابَةَ إِلاَّ مَنْ يُعَانِيهَاهذا ومن باب الأمانة العلمية في هذه الأمالي، فقد أشار الأستاذ الدكتور يعقوب الغنيم إلى أنّ شرح أبي فهر للأصمعيات لم يستوعبها كلّها، بل كانت آخر قصيدة شرحها الأستاذ هي التاسعة والعشرون، لدُرَيْد بن الصِمَّة، والتي يقول في مطلعها:يَا راكبًا إمَّا عَرَضْتَ فبلِّغنْأبا غالبٍ أنْ قَدْ ثأَرْنَا بِغالِبِوسبب انقطاع المجلس للظروف السياسية التي حفلت بها تلك المرحلة الزمنية.نموذجان من القصائد المشروحةالقصيدة الأولى: لسُحَيْم بن وَثِيلٍ الرِياحيّ، ومطلعها:أَنَا ابنُ جَلا وطلاعُ الثَّنايَامتَى أضَعُ العِمامَةَ تَعرِفُونيوعن عمل صاحب الكتاب فيها، فقد أشار الدكتور الغنيم إلى أن كتاب الأصمعيات مطبوع بتحقيق العلامة أحمد شاكر وعبدالسلام هارون، وذكر أنهما ترجما لشاعر القصيدة وبيّنا جوّها العام، وعدّدا مراجع القصيدة، وشَرَحا الأبيات، ومع ذلك فإنّ عمل العلامة أبي فهر كان أوسع من كل ذلك.وهذا وصف للمجلس الأول من تلك المجالس العامرة:بدأ الشيخ محمود شاكر بقراءة القصيدة مقسّما إياها إلى أقسام، ثم تحدث عن الشاعر سحيم بن وثيل الرياحي، ثم شرح الغالبَ الأعمَّ من مفردات القصيدة، وأوضح الخلاف الواقع في رواياتها، ثم بيّن معاني الأبيات في جملتها، وحدّد الساقط منها من الأصمعيات وذَكر مكان تخريجه.وبعد انتهاء القصيدة عاد العلامة شاكر ليتحدث عنها وعن الشاعر باستفاضة، فأفاض في الحديث عن نسبه، ونشأته، وإسلامه، وسكنِه بالكوفة، وحكاية مفاخرته بنحْر إبله.ثم أورد أبوفهر بعض الفوائد المتعلقة بالألفاظ التي مرّت في القصيدة.ولم يغبْ عن الشيخ أن يَذكر مقاطيع رُويت عن سحيم، والكتب التي نبّهتْ عليها.كما لم يفُتْ الأستاذ الغنيم أن يلقي لقارئ كتابِه فوائد أعزَّ من الذهب الإبريز، ومن ذلك مثلًا حديثه عن كتاب منتهى الطلب من أشعار العرب، وأنه من أحسن وأجمل ما وضع في بابه، وأنّ الشيخ شاكر كان كثير الاعتماد عليه، والاحتفاء به.القصيدة الثانية: وهو قصيدةٌ من غير الأصمعيات للشاعر الأخطل، وهي من أعظم القصائد العربية المُطوّلة، ولو صلُح أن يُنتصر لها لكانت معلّقة لجمالها وقوة سبكها، ومطلعها:خفَّ القطينُ فراحوا منكَ أو بكرُواوأزعجتهُمْ نوًى في صرفِها غيرُآخر الكتابمن مزايا هذه التقييدات النافعة أن منشئها الدكتور الغنيم أضاف إليها بعض الزيادات الرائعة ممّا كان يتحفهم بها شيخه أبوفهر رحمه الله، ومن أجمل ما أثبته في سِلْخ الكتاب، بعض المختارات الشعرية التي كان يطربهم بها الإمام الأديب شيخ العربية، وأبدعُ تلك المختارات أوّلُها، وهي لكُثيّر عزّة، التي يقول في مطلعها:خليليَّ هذا ربعُ عزَّة فاعقلاقَلُوصيْكُما ثمّ ابكيا حيثُ حلَّتِوهذه المقطوعة الرقْراقة ذكر منها الغنيم في كتابه أبياتًا سبعة، والمذكورُ منها في الديوان أكثر وألذّ.والحقّ أن هذا الكتاب جليل القدر، عظيم الفائدة، لا يملّ القارئ منه، ولا يشبع متتبعُ الفائدة من اقتناص نكته وشوارده.