تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    المشاركات
    1,571

    Lightbulb من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه

    عبد الله بن حذافة السهمي
    روى أهل السير: كـ الذهبي وابن حجر وغيرهم: أن عمر رضي الله عنه وجه في السنة التاسعة عشرة للهجرة جيشاً لحرب الروم، وفتح بلادهم للإسلام، وقد علم قيصر الروم من أخبار جند المسلمين، وما يتحلون به من صدق إيمان، ورسوخ عقيدة، واسترخاص للنفوس في سبيل الله، وصبر وبذل للمُهَج والأرواح في سبيل الله ما علم.
    علم ما أذهله وما أدهشه وما أشدهَهُ! فأمر رجالاته أن إذا ظفروا بأسير من المسلمين أن يبقوا عليه حياً ويأتوه به، وشاء الله جل وعلا أن يقع في الأسر عدد من المسلمين من بينهم صحابي جليل قد أدرك معنى العبودية لله عز وجل فتخلص من رقِّ المخلوقين، فلا تراه إلا وهو يصوم النهار، ويتلو القرآن، يقوم في جنح الليل، ويستغفر بالأسحار، فقليلاً ما يهجع، راقبوه، فرأوا من تقاه وصلاحه وصلابته ورجولته وعقله ورزانته ما أدهشهم، ورأوا إن كسبوه لدينهم أنهم حققوا نصراً عظيماً، وكسباً عظيما، فذكروه لقيصرهم.
    فقال: ائتوني به، فجاءوا به فكان الخُبْر أعظم من الخَبَر، وجاوزت المعاينة الخبر، (وما راءٍ كمن سمع) كما قيل، نظر إليه قيصرهم فرأى فيه عزة واستعلاء المؤمن، ونجابة الأبطال، فبادره قائلا: إني أعرض عليك أمراً، قال: ما هو؟ قال: أن تَتَنَصَّر، فإن فعلت خلَّيت سبيلك وأكرمت مثواك، فقال الأسير في أنفة وحزم: هيهات! هيهات! إن الموت لأحب إليَّ ألف مرة مما تدعوني إليه.
    هيهات! أنَّى لقلوب خالطتها بشاشة الإيمان أن تعود إلى ظلمات الكفر والضلال مهما كانت الإغراءات، أنَّى لقلوب عرفت النور بحق أن تتدثر بالظلام مرة أخرى مهما كانت المغريات، يفشل العرض الأول من هذا القيصر ويتحطم على صخرة الإيمان؛ لأن هذا الرجل امتلأ قلبه بعبودية الله، فلم يبقَ في قلبه متسعٌ لغير تلك العبودية.

    بدأ بالإغراءات، فقال قيصرهم: لو تنصرت شاطرتك ملكي، وقاسمتك سلطاني، يريدون أن يبيع دينه بعرض من الدنيا، يريدون أن يُصرف عن عبودية الله إلى رق المركز الذي طالما سال له لعاب كثير من الناس، فضيعوا حقوق الله في سبيل نيله، وباعوا دينهم بعرض من الدنيا، هربوا من الرقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ فَبُلُوا بِرِقِّ النَّفسِ والشَّيطانِ، فقال رضي الله عنه مبتسما في قيده: اخسأ عدو الله، والذي لا إله إلا هو! لو أعطيتني جميع ما تملك وما تملكه العرب والعجم على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما قبلت.
    الله أكبر! يتحطم الإغراء بالمركز على صخور الإيمان الشُّمِّ في نفس ذلك الصحابي، لماذا؟ لأنه طالب جنة، ولا يمكن أن يغرى بما هو دون الجنة، وليس بأيديهم ما هو أعلى من الجنة ليغروه به، فأنى لهم أن يصلوا إليه، إنها سلعة الله، غالية جد غالية، مهرها بذل النفس والنفيس لمالكها الذي اشتراها من المؤمنين، وأيم الله! ما هزلت حتى يستامها المفلسون المعرضون الجبناء، وايم الله! ما كسدت حتى يبتاعها نسيئة وتأجيلاً المعسرون المفلسون، لقد أقيمت للعرض في السوق لمن يريد، وقيل: هل من مزيد؟ فلم يرضَ لها بثمن دون حبل الوريد.

    عندها قال قيصرهم: ردوه إلى الأسْرِ، فردوه، وطلب من حاشيته وبطانته الاجتماع فوراً لتداول الرأي في طريق يكسب به هذا الفتى ليكون من جند النصارى -وحقاً إنه كسب- وبعد المداولة استقر الرأي على أن الشهوة طريق مجرب ناجح صُرِفَ به الكثير عن دينه ومبادئه وثوابته، فلكم رأوا، ولكم رأينا، ولكم نرى من أناس يعبدون الشهوة، فينفقون أموالهم في الشهوة المحرَّمة؛ لتكون عليهم حسرة وبئس الإنفاق، يسافرون وراء الشهوة المحرمة وبئس السفر والركب، يبيعون دينهم في سبيل الشهوة المحرمة وخسر البيع، والنار حفت بالشهوات، وهم يتهافتون إليها وساء التهافت، عبَّاد شهوة وبئس العبيد.

    قال قيصرهم: ائتوني بأجمل فتاة في بلادي، فجيء بملكة جمال البلاد -كما يقولون- وأغراها بالأموال العظيمة إن استطاعت أن توقعه في الفاحشة؛ لأن الفاحشة طريق إلى ترك دينه، ولك أن تتصور -أخي الحبيب- ما حال هذا الرجل، شاب في كامل فتوته ورجولته وشبابه وقوته وفوق ذلك غائب عن أهله منذ شهور، وهذا عامل يجعلهم يتفاءلون، فأدخلوها عليه، فتجردت من ملابسها بعد تجردها من الحياء المترتب على التجرد من الإيمان، ولا ذنب بعد كفر، فقامت تعرض نفسها أمامه، ثم ترتمي في أحضانه، فيهرب منها قائلا: معاذ الله، معاذ الله، فتطارده ويتجنبها، ويغمض عينيه؛ خشية أن يُفتن بها، ويقرأ القرآن، ويستعيذ بالرحمن، ولسان حاله ومقاله: رب القتل أحب إليَّ مما تدعوني إليه، وإلا تصرف عني كيدها أصْبُ إليها وأكن من الجاهلين، تتابعه من جهة إلى جهة، وهو يستعيذ بالله الذي ما امتلأ قلبه إلا بعبوديته، حتى يئست منه، نَقَلَة الأخبار على الباب من شياطين الإنس ينتظرون خبر فتنة ذلك الصحابي، ووقوعه في الفاحشة، لينقلوه إلى الآفاق، شماتة في الإسلام وأهله، وإعلاناً لانتصارهم في صرفه عن دينه، ولعل غيره يتبعه في ذلك: {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُم إِنْ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، وإذا بها تصيح: أخرجوني أخرجوني، فأخرجوها قد تغير لونها، إذ قد فشلت مهمتها، كرتها خاسرة، عاهرة، فاجرة، سألها مَن عند الباب من نقلة الأخبار: ما الذي حدث؟ هاتِ البشرى، يريدون أن يطيروا بالخبر.
    قالت: والله ما يدري أأنثى أنا أم ذكر، ووالله ما أدري أأدخلتموني على بشر، أم على حجر.
    الله أكبر! الإغراء بالشهوة يفشل أمام عبودية الله التي ما تركت متسعاً لغيرها في قلبه، كيف يرضى طالب الحور العين بعاهرة فاجرة، ولذة قد يعقبها الهاوية؟! كيف يرضى وقد وُعِدَ بمن لو اطلعت إحداهن إلى أهل الأرض لملأت ما بين السماء والأرض ريحاً ولأضاءت ما بينهما؟! كيف ونصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها؟! كيف وقد وعد بمن ينظر إلى وجهه في خدها أصفى من المرآة؟! كيف وقد وعد بمن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب؟!
    كيف وقد وعد بمن يكون عليها سبعون ثوباً ينفذ البصر حتى يرى مخَّ ساقها من وراء اللحم، والدم، والعصب، والعظم؟! كيف وقد وعد بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟! خاب من باع باقياً بفانٍ، خاب من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة.

    هنا يقول قيصرهم: إذاً أقتلك. انتقل الأمر إلى التهديد، وأنى لمؤمن امتلأ قلبه بعبودية الله أن يخشى تهديداً دون نار جهنم؟! إنه هارب من النار، وما هناك تهديد بما هو أعظم من النار؛ فكل تهديد دونها ولا شك.
    قال رضي الله عنه: أنت وما تريد. افعل ما بدا لك، فأمر بصلبه، ثم أمر برميه بالسهام قرب يديه، ورجليه، وهو يعرض عليه أثناء ذلك أن يرتد عن دينه فيأبى. فيطلب منهم قيصرهم أن ينزلوه عن خشبة الصلب لينوع التهديد عليه؛ علّه أن يلين، فيدعو بقِدْرٍ عظيم، ويصب فيه الزيت، ويوقد تحته النار حتى أصبح الزيت يغلي، ثم يأتي بأسيرين من أسرى المسلمين فيلقيهما في القدر أمام عينيه، فإذا بلحمهما يتفتت، وعظامهما تبدو عارية، منظر فظيع، بشع، وحشي، ظنوا أنهم به وصلوا إلى قلب هذا الصحابي، وإلى بغيتهم منه. التفت القيصر إلى الصحابي وعرض عليه النصرانية؛ فكان أشد إباء من ذي قبل، فلما يئس منه أمر به أن يلقى في القدر مع صاحبيه، فلما ذهب به دمعت عيناه، فظنوا أنه قد جزع، وسيرتد عن دينه، فعرضوا عليه النصرانية مرة أخرى فأبى، قال: ويحك فما أبكاك؟ قال: أبكاني أن قلت في نفسي، إنما هي نفس تلقى الآن في هذا القدر فتذهب، وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنفس تلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله.
    لا إله إلا الله! والله أكبر! ويا لها من قلوب امتلأت بخشية الله! وعبودية الله! لم يترك فيها فراغاً لوعد أو وعيد دون الجنة أو الجحيم.
    عندها ردوه إلى الأسر، ووضعوا معه خمراً ولحم خنزير، ومنعوا عنه الطعام، والشراب، وبقي ثلاثة أيام يُراقَب علَّه أن يأكل لحم الخنزير، أو يشرب من الخمر فلم يفعل، وانثنت عنقه رضي الله عنه وأرضاه -مالت عنقه- من شدة الجوع، والعطش، وأشرف على الهلاك، فأخرجوه وقالوا له: ما منعك أن تأكل أو تشرب؟ فقال: أما إن الضرورة قد أحلت لي ذلك، ولكن -والذي لا إله إلا هو- لقد كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله.

    لسان حاله:
    فَيَا أيُّها الكونُ منِّي اسْتَمِعْ ... ويا أُذُنَ الدَّهرِ عنِّي افهمِي
    فَإِنِّي صريحٌ كَمَا تَعْلَمِين ... حريصٌ عَلَى مَبدأ قِيِّم
    ومَهْما تعدَدَتِ الواجهاتُ ... فَلَستُ إلَى وِجْهَةٍ أنْتَمِي
    سِوَى قِبلة المُصطَفَى والمَقامِ ... لأَرْوِى الحُشَاشَةَ مِنْ زَمْزَمِ
    وأُشهدُ مَنْ دبَّ فوقَ الثَرَى ... وتحتَ السَّمَا عزةَ المُسْلِمِ

    يا لها من كلمة! كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله. هذه الكلمة أهديها إلى أحبتنا الذين يخجلون من مواجهة الناس بالتزامهم، تجده يوم تلاحقه أعين السفهاء بالهمز، والغمز، واللمز، يمشي على خجل، وعلى استحياء، يتوارى من القوم ليشمت غيره به، إن حامل الحق يجبر غيره على أن يخجل منه أو يموت بغيظه، فلينتبه لذلك وليكن لسان الحال:
    أنَا مُسْلمٌ وأقولُها مِلءَ الوَرَى ... وعقيدَتِي نورُ الحيَاةِ وَسُؤْدُدِي

    كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله، فقال له القيصر معجباً بثباته، ورشده، وقوة عقله، ولبِّه: هل لك أن تقبل رأسي فأخلي عنك -وكانوا لا يعيشون لأنفسهم- فقال: وعن جميع أسرى المسلمين؟ قال: وعن جميعهم.
    فقال يُسائل نفسه: عدو من أعداء الله أقبل رأسه ليخلي عن أسرى المسلمين لئلا يقتلوا، لا ضير في ذلك، فقبله فأطلق له الأسرى، وأجازه بثلاثين ألف دينار، وثلاثين وصيفاً، وثلاثين وصيفة، كما روى ابن عائذ في السير للذهبي، وقدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه بأسرى المسلمين ثابتاً كالطود الشامخ، يطأ بأخمصه الثرى، وهامه توازي الثريَّا، وأخبر عمر الخبر، فسُرَّ أعظم سرور، ثم قام فقبَّل رأسه وقال: «حق على كل مسلم أن يقبل رأسك»، رأس مَنْ؟ لا أظن أحداً يجهل مثل هذا الرجل إنه عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه وأرضاه، شامة في جبين التاريخ، وغرة في جبين الزمن.

    الدروس المستفادة:
    أحبتي في الله: لا يملك الإنسان أمام هذه المواقف التي تقف لها الهام إلا أن يقول: إنها النفوس المؤمنة يوم تجاهد في سبيل الله، لا في سبيل قول، ولا في سبيل نفس، ولا في سبيل وطن، بل في سبيل الله؛ لتحقيق منهج الله، في أرض الله، في سبيل الله؛ لتنفيذ شرع الله، على عباد الله، ليس لها لنفسها حظ، بل كلها لله الواحد القهار، لا يخافون لومة لائم، وفيم الخوف من لوم الناس، وقد ضمنوا حب وعبودية رب الناس؟ إنما يخشى الناس ولومهم من يستمد حركاته وسكناته ومقاييسه من أهواء الناس، فهو أرضيٌّ طينيٌّ دونيٌّ.

    أما من يعود إلى موازين الله ليجعلها فوق كل الموازين فما يبالي بأهواء البشر وشهواتهم وقيمهم، ولا يبالي بما يقولون، ولا بما يفعلون، ولا بما يتوعدون، إنها سمة المؤمنين المحبين لله ورسوله، الاطمئنان إلى الله يملأ قلوبهم، فهلا أعددت نفسك لتكون من أمثال هؤلاء؟! فإن الينبوع واحد، وإن المورد واحد، وإن النهر واحد، ما أخذوا منه أنت تأخذ منه، ثبات على المبادئ، وصدق مع الباري، وإخلاص في الظاهر والخافي، سماويون لا أرضيون، لا دونيون، لا طينيون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

    فيا ضعيف العزم! ويا دنيء الهمَّة! أين أنت؟ لا تستطل الطريق، الطريق طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، وأفجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد بكاء داود، وعالج الأذى محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنكم تستعجلون.

    إنما يقطع الطريق، ويصل المسافر بلزوم الجادة وسير الليل، فإذا حاد السائر عن الطريق أو استطاله، ونام الليل فمتى يصل إلى المقصود؟ متى؟ أفيقوا استيقظوا.

    وخُذُوا منَ الأَسْلافِ مِمَنْ قبلكُم ... عظةٌ تُنِيرُ قلوبكم وتبصروا
    رُومانَ في جَبروتِها وغُرورِهَا ... رضخت لمنْ حَمَلوا الضياءَ وحرَّرُوا
    دُحر البغاةَ بظلمِهِم وشُرُورِهِم ... فخذوا دروساً منهم واستعبروا([1])



    صفحتي على الفيس بوك
    كتب خانة


  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    المشاركات
    1,571

    Lightbulb القاضي أبو بكر الأنصاري البزاز

    القاضي أبو بكر الأنصاري البزاز
    في ذيل طبقات الحنابلة ذكر ابن رجب في ترجمة القاضي أبي بكر الأنصاري البزاز أنه قال: كنت مجاوراً في مكة -حرسها الله- فأصابني يوماً من الأيام جوع شديد، ولم أجد شيئاً أدفع به عني ذلك الجوع، وخرجت أبحث عن طعام فلم أجد، فوجدت كيساً من حرير، مشدوداً برباط من حرير أيضاً، قال: فأخذته، وجئت به إلى بيتي، وحللته، فوجدت فيه عقداً من لؤلؤ، لم أرَ مثله قط، قال: فربطته، وأعدته كما كان، ثم خرجت أبحث عن طعام، فوجدت شيخاً ينادي ويقول: من وجد لنا كيساً صفته كذا وكذا، فله خمسمائة دينار من الذهب.

    قال: فقلت في نفسي، إني محتاج، وجائع، أفآخذ هذه الدنانير لأنتفع بها، وأرد عليه كيسه؟ لا ضير، فقلت له: تعال إليَّ فأخذته، وذهبت به إلى بيتي، وسألته عن علامة الكيس، وعلامة اللؤلؤ، وعدد اللؤلؤ، والخيط المشدود به، فإذا هو كما قال، قال: فأخرجته، ودفعته إليه، فسلم إليَّ خمسمائة دينار -الجائزة التي ذكرها- قال: فقلت له: يجب علي أن أعيده لك، ولا آخذ له جزاءً، قال: لابد أن تأخذ، وألحَّ عليَّ كثيراً، وأنا أحوج ما أكون، قال: فقلت: والذي لا إله إلا هو! ما آخذ عليه جزاءً من أحد سوى الله، فلم يقبل الدنانير، قال: فتركني ومضى.

    ورجع الشيخ بعد موسم الحج إلى بلده، وأما أنا -الإمام البزاز الكلام له- فإني خرجت من مكة، وركبت البحر في وسط أمواجه المتلاطمة وأهواله، فانكسر المركب، وغرق الناس، وهلكت الأموال.

    قال: وسلمني الله إذ بقيت على قطعة من المركب تذهب بي يمنة ويسرة لا أدري إلى أين تذهب بي، وبقيت مدة في البحر تتقاذفني الأمواج من مكان إلى مكان حتى لفظتني إلى جزيرة فيها قوم أميون لا يقرءون ولا يكتبون.

    قال: فجلست في مسجدهم، وكنت أقرأ، قال: فما أن رآني أهل المسجد حتى اجتمعوا عليَّ، فلم يبقَ في الجزيرة أحد إلا قال: علمني القرآن. قال: فعلمتهم القرآن، وحصل لي خير كثير من جراء ذلك، قال: ثم إني رأيت في ذلك المسجد مصحفاً ممزقاً، فأخذت أوراقه لأقرأ فيها، فقالوا: أتحسن الكتابة؟ قلت: نعم، قالوا: علمنا الخط، قال: قلت: لا بأس، فجاءوا بصبيانهم وشبابهم فكنت أعلمهم، وحصل لي من ذلك خير عظيم. ثم رغبوا فيه فقالوا له بعد ذلك، وهم يريدون أن يبقى معهم: عندنا صبية يتيمة، ومعها شيء من الدنيا، ونريد أن نزوجك بها، وتبقى معنا في هذه الجزيرة.

    قال: فامتنعت، فألحوا عليَّ، وألزموني، فلم أملك أمام إلحاحهم وإصرارهم إلا أن أجبت لطلبهم، فجهَّزوها لي، وزفُّوها إليَّ -زفها محارمها- وجلست معهم، وإذا بي أنظر إليها، وإذا ذلك العقد الذي رأيته بـ مكة بعينه معلق في عنقها فدهشت، وما كان لي حينئذ من شغل إلا النظر لهذا العقد، فقال محارمها: يا شيخ! كسرت قلب هذه اليتيمة، لم تنظر إليها، وإنما تنظر إلى العقد، قلت لهم: إن لهذا العقد قصة، قالوا: وما هي؟ فقصصتها عليهم، فصاحوا، وضجوا بالتهليل والتكبير، وصرخوا بالتسبيح، حتى بلغ صوتهم أنحاء الجزيرة.

    فقلت: سبحان الله! ما بكم؟ قالوا: إن الشيخ الذي أخذ منك العقد في مكة هو أبو هذه الصبية، وكان يقول عند عودته من الحج، ويردد دائماً: والله! ما وجدت على وجه الأرض مسلماً كهذا الذي ردَّ عليَّ العقد في مكة، اللهم اجمع بيني وبينه، حتى أزوجه ابنتي، وتوفى ذلك الرجل، وحقق الله دعوته وزوَّجك بابنته. فيقول: فبقيت معها مدة من الزمن، فكانت خير امرأة، رزقت منها بولدين، ثم توفيت فعليها رحمة الله، فورثت العقد المعهود أنا وولدي، قال: ثم توفي الولدان، واحداً تلو الآخر، فورثت العقد منهما، فبعته بمائة ألف دينار.

    ويحدث بعد مدة ويقول: هذا من بقايا ثمن ذلك العقد، فرحمة الله على الجميع. من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء: {وَمَن يَتَّقِِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4]([1]).



    صفحتي على الفيس بوك
    كتب خانة


  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    المشاركات
    1,571

    Lightbulb رد: من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه

    شكوى أهل سمرقند من قتيبة بن مسلم
    كان قتيبة بن مسلم الباهلي عليه رحمة الله([1]) في شرق الكرة الأرضية يفتح المدن والقرى، ينشر دين الله في الأرض، ويفتح الله على يديه مدينة سمرقند، افتتحها بدون أن يدعو أهلها للإسلام أو الجزية، ثم يمهلهم ثلاثاً؛ كعادة المسلمين، ثم يبدأ القتال.

    فلما علم أهل سمرقند بأن هذا الأمر في دين الإسلام كتب كهنتها رسالة إلى سلطان المسلمين في ذلك الوقت؛ وهو عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله، وأرسلوا بهذه الرسالة أحد أهل سمرقند، فاسمع إلى هذا الرسول.

    يقول: أخذت أتنقل من بلد إلى بلد شهراً حتى وصلت إلى دمشق دار الخلافة، فلما وصلت أخذت أتنقل في أحيائها، وأحدث نفسي بأن أسأل عن دار السلطان، ثم أخشى على نفسي إن نطقت باسم السلطان أن أؤخذ أخذاً، فلما رأيت أعظم بناء في المدينة دخلت إليه، وإذا بالناس يدخلون، ويخرجون، وإذا بحلقات في هذا البناء، وأناس يركعون، ويسجدون، يقول: فقلت لأحدهم: أهذه دار الوالي؟ قال: لا. بل هذا هو المسجد.

    قال: هل صليت؟ قلت: وما صليت؟ قال: فما دينك؟ قلت: على دين أهل سمرقند، فجعل يحدثني عن الإسلام حتى اعتنقته، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قلت له: أنا رجل غريب، أريد السلطان، دلني عليه -يرحمك الله- قال: تعني أمير المؤمنين، قلت: نعم، قال: اسلك هذا الطريق حتى تصل إلى تلك الدار، وأشار إلى دار من طين، فقلت: أتهزأ بي؟ قال: لا.

    ولكن اسلك هذا الطريق، فتلك دار أمير المؤمنين إن كنت تريده، قال: فذهبت، واقتربت، وإذا برجل يأخذ طيناً، ويسد به ثلمة في الدار، وامرأة تناوله الطين. قال: فرجعت إلى الذي دلَّني، وقلت: أسألك عن دار أمير المؤمنين، فتدلني على دار رجل طيَّان؟! قال: هو ذاك أمير المؤمنين.

    قال: فطرقت الباب، وذهبت المرأة، ونزل الرجل، ورحب بي، وغسل يديه، وخرج، وقال: ما تريد؟ قلت: هذه رسالة من كهنة سمرقند، فقرأها، ثم قلبها، فكتب على ظهرها، من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى عامله بـ سمرقند: أن نصِّب قاضياً، ينظر فيما ذكروا، ثم ختمها، وناولني، وانطلقت يقول: فلولا أني خشيت أن يكذبني أهل سمرقند لألقيتها في الطريق، ماذا تفعل هذه الورقة، وهذه الكلمات في إخراج الجيوش الجرارة، وذلك القائد الذي دوَّخ شرق الكرة الأرضية برمتها؛ يعني قتيبة بن مسلم؟

    قال: وعدت بفضل الله مسلماً، كلما دخلت بلداً صليت في مسجده، واجتمعت بإخوتي وأنست بهم، فأكرموني وأنسوا بي، فلما وصلت إلى سمرقند، وقرأ الكهنة الرسالة أظلمت عليهم الأرض، وضاقت بما رحبت، وقالوا: ما تنفع هذه الرسالة، وماذا تغني عنا؟! ذهبوا بها إلى عامل عمر على سمرقند، فنصَّب لهم الوالي جميع بن حاضر الباجي قاضياً لهم لينظر في شكواهم. وحدد القاضي لهم يوماً اجتمعوا فيه، ثم قال القاضي: ما دعواك يا سمرقندي؟ قال: اجتاحنا قتيبة ولم يدعُنَا إلى الإسلام، ويمهلنا لينظر في أمرنا، فقال القاضي لخليفة قتيبة، وقد مات قتيبة عليه رحمة الله قال: أنت ما تقول؟ قال: لقد كانت أرضهم خصبة، وأرضهم واسعة، وخشي قتيبة إن هو آذنهم، وأمهلهم، أن يتحصنوا عليه، والحرب خدعة.

    قال: لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله، وما خرجنا فاتحين للأرض، أشراً، وبطراً، ثم قضى القاضي بإخراج المسلمين على أن ينذرهم قائد الجيش الإسلامي بعد ذلك، وينابذهم، وفقاً للمبادئ الإسلامية.

    ما ظن أهل سمرقند أن تلك الكلمات ستفعل فعلها، وما غربت شمس ذلك اليوم ورجل من الجيش الإسلامي في أرض سمرقند، فخرج الجيش كله، وبدأ لينذرهم، ويدعوهم إلى الإسلام، أو الجزية، أو القتال، فلما رأى أهل سمرقند ما لا مثيل له في تاريخ البشرية؛ من عدالة تنفذها الدولة على جيشها، وقائدها، قالوا: هذه أمة حكمها رحمة ونعمة، فدخل أغلبهم في دين الله، وفرضت الجزية على الباقين.
    فيا لله! أرأيتم جيشاً يفتح مدينة، ويدخلها، ويشتكي أهل المدينة للدولة المنتصرة، فيحكم قضاؤها على الجيش الظافر بالخروج، بل هل رأيتم في التاريخ قديماً وحديثاً حرباً يتقيد أصحابها بمبادئ الأخلاق والحق كما تقيد به الجيش الإسلامي؟ والله لا نعلم في الدنيا كلها موقفاً مثل هذا لأمة من أمم الأرض.
    والليلُ يشهدُ والكواكبُ والثَّرى ... وكفى بهم شهداء يومَ الدِّينِ
    جمال ذي الأرض كانُوا فِي الحياةِ وهم بعد الممات جمال الكُتْب والسير([2]).



    [1] ـ قتيبة بن مسلم بن عمرو بن الحصين الباهلي، أبوه أبو صالح مسلم، قتل فيمن قتل مع مصعب بن الزبير، أحد قادة الفتوح في عهد بني أميه، نشأ قتيبة في الدولة الأموية المروانية، وولاه عبد الملك بن مروان إقليم خوارزم، وسجستان وسمرقند، وغزا أطراف الصين، وضرب عليها الجزية، ودانت له بلاد ما وراء النهر جميعًا، واشتهرت فتوحاته خلال ولايته التي استمرت ثلاث عشرة سنة، وهدى الله على يديه خلقًا كثيرًا، مات سنة 96 هـ.

    صفحتي على الفيس بوك
    كتب خانة


  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    المشاركات
    1,571

    Lightbulb أبو عثمان المازني

    أبو عثمان المازني
    وقد روي عن المبرد أن يهوديّا بذل للمازني مائة دينار ليقرئه "كتاب سيبويه" فامتنع من ذلك، فقيل له: لم امتنعت مع حاجتك وعائلتك؟ فقال: إن في "كتاب سيبويه" كذا وكذا آية من كتاب الله، فكرهت أن أقرىء كتاب الله للذمّة، فلم يمض على ذلك إلا مديدة حتى أرسل الواثق في طلبه وأخلف الله عليه أضعاف ما تركه لله.
    كما حدث أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في "كتاب الأغاني" بإسناد رفعه إلى أبي عثمان المازني قال: كان سبب طلب الواثق لي أن مخارقا غناه في شعر الحارث بن خالد المخزومي:
    أظليم أن مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحية ظلم

    فلحّنه قوم، وصوّبه آخرون، فسأل الواثق عمن بقي من رؤساء النحويين فَذُكِرتُ له، فأمر بحملي، وإزاحة عللي، فلما وصلت إليه قال لي: ممن الرجل؟ قلت: من بني مازن، قال: من مازن تميم، أم مازن قيس، أم مازن ربيعة، أم مازن اليمن؟ قلت: من مازن ربيعة، قال لي: با اسمك- يريد ما اسمك، وهي لغة كثيرة في قومنا، فقلت على القياس: اسمي مكر- وفي رواية فقلت: اسمي بكر- فضحك، وأعجبه ذلك، وفطن لما قصدت أنني لم استجرىء أن أواجهه بالمكر وضحك، وقال: اجلس فاطبئن أي فاطمئن، فجلست فسألني عن البيت؟
    فقلت: صوابه إنّ مصابكم رجلا، قال: فأين خبر إنّ؟ قلت: ظلم، وهو الحرف في آخر البيت، والبيت كله متعلق به لا معنى له حتى يتمّ بقوله ظلم، ألا ترى أنه لو قال أظليم إنّ مصابكم رجلا أهدى السلام تحية فكأنّه لم يفد شيئا حتى يقول ظلم، ولو قال أظليم إن مصابكم رجل أهدى السلام تحية لما احتاج إلى ظلم، ولا كان له معنى، إلا أن تجعل التحية بالسلام ظلما، وذلك محال، ويجب حينئذ أظليم إن مصابكم رجل أهدى السلام تحية ظلما، ولا معنى لذلك، ولا هو لو كان له وجه مراد الشاعر فقال: صدقت، ألك ولد؟ قلت: بنية لا غير، قال: فما قالت لك حين ودّعتها؟ قلت: أنشدتني قول الأعشى:
    تقول ابنتي حين جدّ الرحيل ... أرانا سواء ومن قد يتم
    أبانا فلا رمت من عندنا ... فانا بخير إذا لم ترم
    أرانا إذا أضمرتك البلاد ... نجفى وتقطع منا الرّحم

    فقال الواثق: كأني بك وقد قلت لها قول الأعشى أيضا:
    تقول بنتي وقد قرّبت مرتحلا ... يا ربّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا
    عليك مثل الذي صلّيت فاعتصمي ... يوما فإن لجنب المرء مضطجعا

    فقلت: صدق أمير المؤمنين، قلت لها ذلك وزدتها قول جرير:
    ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح

    فقال: ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى، إن ها هنا قوما يختلفون إلى أولادنا فامتحنهم، فمن كان عالما ينتفع به ألزمناهم إياه، ومن كان بغير هذه الصفة قطعناه عنهم، قال: فامتحنتهم فما وجدت فيهم طائلا، وحذروا ناحيتي، فقلت: لا بأس على أحد منكم، فلما رجعت إليه قال: كيف رأيتهم؟ فقلت: يفضل بعضهم بعضا في علوم ويفضل الباقون في غيرها، وكلّ يحتاج إليه، فقال الواثق: إني خاطبت منهم رجلا فكان في نهاية الجهل في خطابه ونظره، فقلت: يا أمير المؤمنين أكثر من تقدم فهم بهذه الصفة، وقد أنشدت فيهم:
    إن المعلم لا يزال مضعّفا ... ولو ابتنى فوق السماء سماء
    من علّم الصبيان أصبوا عقله ... مما يلاقي بكرة وعشاء

    قال فقال لي: لله درّك كيف لي بك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إن الغنم لفي قربك، والأمن والفوز لديك، والنظر إليك، ولكني ألفت الوحدة، وأنست بالانفراد، ولي أهل يوحشني البعد عنهم، ويضرّ بهم ذلك، ومطالبة العادة أشدّ من مطالبة الطباع، فقال لي: فلا تقطعنا وان لم نطلبك، فقلت: السمع والطاعة، وأمر لي بألف دينار، (وفي رواية بخمسمائة دينار)، وأجرى عليّ في كلّ شهر مائة دينار.([1]).

    الدروس المستفادة:
    ترك مئة دينارا لله، فعوضه الله عشر أمثالها.


    [1] ـ ابن الجوزي في المنتظم (12/13)، والحموي في "معجم الأدباء" (2/759)، والذهبي في "تاريخ الإسلام" (5/1093/بشار).
    صفحتي على الفيس بوك
    كتب خانة


  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Oct 2010
    المشاركات
    10,732

    افتراضي

    لا إله إلا الله
    اللهم اغفر لي وارحمني ووالديّ وأهلي والمؤمنين والمؤمنات وآتنا الفردوس الأعلى

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    نفع الله بكم .

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •