يقول الأخ السائل :
هناك موضوع أريد أن أسأل عنه يخص مسألة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الذي يكمن في كيفية التعامل مع من يقول لا أتدخل في شؤون الآخرين من منطلق أن الأمر لا يعنيني و يتحجج بقوله صلى الله عليه وسلم { مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ } , و كيف نجمع بين هذا الحديث و حديث إنكار المنكر قصد الرد على من يتحجج به ؟وبارك الله فيكم وجزاكم الله خيرا .

الجواب:
----------
وفيكم بارك الله، وجزاكم خيرًا، ووفقكم.

قبل الشروع في الجواب يحسن تقرير هذه المقدمة المهمة؛ وهي:
أن التعارض منفيٌّ بين نصوص القرآن والسنة، فلا تعارض بين الآيات، ولا بين الأحاديث الصحيحة، ولا بين الآيات والأحاديث الصحيحة، وكذلك لا تعارض بين هذه النصوص والعقل الصريح، ونفي التعارض عن ذلك كله هو مقتضى حكمة الله تعالى، وسعة علمه.
ولذا يقولُ الله سبحانه: ﴿وَلَو كانَ مِنْ عِندِ غَيرِ الله لَوَجَدُوا فيهِ اختِلافَاً كَثِيراً﴾(النساء – 82) ومفهومُ الآية يدلُّ على نفي الاختلاف عن النصوص الشرعية، من القرآن أو السنة الصحيحة، فإن التعارض من أمارات العجز، والله تعالى منزَّهٌ عن ذلك.
يقول الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: (أفلا يتدبر المبيِّتون غيرَ الذي تقول لهم يا محمد، كتابَ الله؛ فيعلموا حجة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي أتيتَهم به من التنزيل من عند ربهم، لاتساق معانيه، وائتلاف أحكامه، وتأييد بعضهم بعضاً بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبانَ بعضه عن فساد بعض)([1]).
وقال الخطيب البغدادي: (وليس في نص القرآن ولا نص الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعارض، قال الله تعالى: ﴿وَلَو كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ الله لَوَجَدُوا فِيه اختِلافَاً كَثِيرَاً﴾(النساء– 82) وقال مخبِراً عن نبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَن الهوَى إِنْ هُو إلا وَحْيٌ يُوحَى﴾(النجم- 3،4) فأخبر أنه لا اختلافَ في شيءٍ من القرآن، وأنَّ كلامَ نبيِّه وحيٌ من عنده، فدلَّ ذلك على أنَّ كلَّه متفق، وأن جميعَه مضافٌ بعضُه إلى بعض، ومبنيٌّ بعضُه على بعض؛ إما بعطف، أو استثناء، أو غير ذلك مما قدَّمنا...)([2]).
وذكر الشاطبي رحمه الله جملة من الأدلة على نفي التعارض عن نصوص الشريعة، فبدأ بأدلة القرآن؛ فقال: (من ذلك قوله تعالى: ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً﴾(النساء–82) فنفى أن يقع فيه الاختلاف البتَّةَ، ولو كان فيه ما يقتضي قولين مختلفين لم يَصْدُق عليه هذا الكلام على حال.
وفي القرآن: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول﴾(النساء-59) وهذه الآية صريحة في رفع التنازع والاختلاف، فإنه ردَّ المتنازعين إلى الشريعة، وليس ذلك إلا ليرتفع الاختلاف، ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلى شيء واحد، إذ لو كان فيه ما يقتضي الاختلاف لم يكن في الرجوع إليه رفعُ تنازع، وهذا باطل...)([3]).
وما قد يقع من تعارض؛ فهو تعارض في ذهن الناظر في النصوص، لا في نفس الأمر، وذلك أن أفهام الناس متفاوتة تفاوتًا عظيمًا، لتفاوت قدراتهم العقلية، والعلمية، واللغوية، ولا يلبث هذا التعارض المتوهَّم أن يزول؛ بعد التأمل والنظر.
واختلاف النصوص بالعموم والخصوص لا يعدُّ تعارضًا، وكذا اختلافها بالإطلاق والتقييد، والإجمال والتبيين، بل هذا من الكلام الواحد المتسق، يُجمَع بعضه إلى بعض، ويُفسَّر بعضه ببعض، بحيث لو وَرَدَ ذلك في سياقٍ واحد لكان مقبولاً.
ولعلي أضرب لذلك مثالاً يتضح به المراد:
ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث".
وثبت أيضًا في الصحيحين من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، في قصة الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهجره، وهجر هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، رضي الله عنهم.
فأما الحديث الأول فيدل على النهي عن هجر المسلم أخاه فوق ثلاث ليال، وأما الحديث الثاني ففيه الأمر بهجر الثلاثة الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك، وهَجَرَهم الناس نحو خمسين يومًا.
ولا تعارض بين الحديثين؛ فالأصل تحريم هجر المسلم لأخيه فوق ثلاث ليال، إلا أن يظهر منه ما يقتضي هجره؛ لمصلحة دينيَّة راجحة، كأن يظهر منه بدعة، أو فاحشة، أو نحو ذلك، فيُهجَر لتأديبه، وزجره.
وتأمل -أخي الفاضل- هذا المعنى، فإنه لو جاء في سياقٍ واحد لكان مقبولاً، فلو جاء في الحديث: (لا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال؛ إلا لمصلحة دينية راجحة)؛ لكان كلامًا سائغًا مقبولاً، لا تنافر فيه.
فهذا الضرب من التعارض لا يعدُّ تعارضًا حقيقيًّا، بل هو تعارض في ذهن الناظر ابتداء، ولا يلبث أن يزول بعد التأمل، والنظر في سياق النص، وغيره من النصوص التي في معناه.
والتفقه في هذا مما يتميَّز به أهل العلم بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وأنت تجد هذا الضرب من الاختلاف شائعًا في كلام الناس، كالاختلافَ بالعموم والخصوص، ولا يعدونه اختلافًا ولا تعارضًا، وتجده في القوانين والأنظمة، تُقَيَّد مادة بمادة أخرى، ويُخصَّص عمومُ مادة بخصوص مادة، وتُفسَّر مادة بمادة، وهكذا.

وأما ما تفضلتَ بالسؤال عنه؛ فيجاب عنه بما يلي:
الأول: أن حديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، مختلف في صحته، وأكثر أئمة الحديث على تضعيفه، وعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبناء عليه يندفع التعارض المتوهَّم ابتداءً.
الثاني: دلت نصوص القرآن والسنة الصحيحة على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما في القيام بهما من نشر للخير، وتخفيف للشر، وصيانة للمجتمع، فهو من الأصول المجمَع عليها.
يقول الله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).
وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
ويلزم من ذلك أن يكون الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مما يَعني المسلم، وليس تدخلاً منه فيما لا يعنيه، فإن الله تعالى لا يأمرنا إلا بما يعنينا، فلا يكون داخلاً في حديث: "من حسن إسلام المرء..".
وإنما المقصود بحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يَعنيه" -إن صح- أن يترك المسلم ما لا ينفعه في دينه ودنياه، من فضول المباحات؛ كفضول الكلام، والنظر، وما لا فائدة فيه من العلوم، سواء أكان ذلك في شأنه خاصة، أم في شئون الآخرين، وأن يُقبِل المسلم على ما يَعنيه، وما ينفعه في أمر دينه ودنياه، ومما ينفع المسلم في أمر دينه أن يأمر غيره بالمعروف، وينهاه عن المنكر.
والله أعلم.

كتبه أبو محمد، عبدالله بن جابر الحمادي.
26/ 10/ 1434هـ.


______________________________ __________
([1]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (7/251).
(2) الفقيه والمتفقه (1/535).
([3]) الموافقات (5/59-64).