بسم الله الرحمن الرحيم
* مِنْ أَحْكَامِ ( يَوْمِ الجُمُعَةِ ) ـ الفِقْهِيَّةِ المُخْتَصَرَةِ ـ ، مِمَّا ( قَدْ ) لَا يَعْرِفُهَا ( كَثِيْرٌ ! ) مِنْ المُسْلِمِيْنَ *
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، وبعد :
فـ ( للجُمُعَةِ ) أحكامها الخاصة ، وتختلف ـ في ( بعض المسائل ) ـ عن باقي الصلوات ،
وهذه بعض الأحكام الفقهية الهامة المختصرة ، والخاصة بـ ( يوم الجُمُعَةِ ) ،
وسأذكر ـ إبتداءً ـ بعض الأحاديث النبوية ـ في هذا الباب ـ ،
ثم نستخرج منها بعض الأحكام :
* أولاً : عن أوس بن أوس قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول :
( مَنْ غسَّل ـ يومَ الجمعة ـ واغتسل ، وبَكَّر وابتكر ، ومشى ولم يركب ، ودنا من الإِمام ، واستمع ولم يَلْغُ ؛
كان له بكلِّ خطوة أجر سنةٍ : صيامها وقيامها ) ( أخرجه أحمد ) ـ وغيره ـ ، وهو ( صحيح ) .
* ثانياً : عن أبي هريرة قال : قال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ :
( إذا كان يوم الجمعة ؛ وقفت الملائكة على باب المسجد ، يكتبون الأوَّل فالأوَّل ، وَمَثلَ المُهَجِّر كمثل الذي يُهدِي بدنه ، ثم كالذي يُهدِي بقرةً ، ثم كبشاً ، ثم دجاجةً ، ثم بيضةً ، فإذا خرج الإمام ؛ طَوَوْا صُحُفَهم ، يستمعون الذّكر ) ( أخرجه البخاري ومسلم ) ـ وغيرهما ـ .
* ثالثاً : عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ :
( من اغتسل يوم الجمعة ، وتطهَّر ـ بما استطاع من طُهْرٍ ـ ، ثم ادَّهن أو مسَّ من طيبٍ ، ثم راح ، فلم يفرِّق بين اثنين ، فصلَّى ما كُتِبَ له ، ثم إذا خرج الإِمام أنصت ؛ غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ) ( أخرجه البخاري ، وأحمد ، والدارمي ) ـ وغيرهم ـ .
ـ الأحكام الفقهية ( المختصرة ) :
1 ـ الإغتسال والتَّطيب : أما ( الإغتسال ) ؛ فهو ( واجبٌ ) للذاهب لصلاة ( الجمعة ) ؛
لقوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ :
( إذا جاء أحدكم الجمعة ؛ فَلْيَغْتَسِلْ ) ( أخرجه البخاري ومسلم ) ـ وغيرهما ـ ،
ولقوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ :
( الغُسُلُ يوم الجمعة واجب على كل مُحتلم ، وأنْ يَسْتَنَّ ، وأن يَمَسَّ من طيبٍ إن وَجَدَه ) ( أخرجه البخاري ومسلم ) ـ وغيرهما ـ ،
و ( مُحتلم ) أي : ( بالغ ) ،
وأما ( التَّطيب ) ؛ بقدر الإستطاعة ، وبما هو موجود ، ومن غير تكلف ولا إسراف ،
ويدخل ـ ضمن هذا ـ أمران ؛ وهما : ( السِّواك ) ، و ( لبس أحسن ما عنده من الثياب ) .
2 ـ التبكير : يُسنُّ الذهاب لصلاة ( الجمعة ) مُبَكِّراً ؛ لقوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ :
( احضروا الذِّكْرَ ، وادنوا من الإمام ؛ فإن الرجل لا يزال يتباعد ؛ حتى يُؤَخَّرَ في الجنة ، وإن دخلها ) !
( أخرجه أبو داوود ) ـ وغيره ـ ، وهو صحيح ، والمراد بـ ( الذِّكْرِ ) ـ هنا ـ ؛ هو : ( موعظة الخطيب ) .
3 ـ المشي : يُسنُّ الذهاب لصلاة ( الجمعة ) ماشياً ؛ إذ هو أفضل ؛ لما مرَّ من الحديث :
( ... كان له بكلِّ خطوة أجر سنةٍ : صيامها وقيامها ) ،
وإن لم يستطع ـ كمرضٍ أو طول طريقٍ ، أو نحوهما ـ ؛ فلا بأس بالركوب .
4 ـ الدُّنو : يُسنُّ للذاهب لصلاة ( الجمعة ) أن يدنو ، ويقترب ـ قدر استطاعته ـ من ( الإمام ) ،
ومن غير مزاحمة الناس ، والتضييق عليهم ،
والدُّنو إنما يحصل في ( التبكير ) ـ في الغالب ـ ،
ومن هذا نعلم خطأ من ينتقي مكان جلوسه ـ إنتقاءً ! ـ ، ويترك سنة ( الدُّنو ) ! .
5 ـ لا يُفَرِّقُ بين اثنين : فإذا دخل الرجل إلى المسجد ، ولم يجد فُسحة ؛ فليجلس حيث انتهى به المقام ،
ولا يتخطَّى الرقاب ، ولا يُفَرِّقَ بين اثنين ليدخل من بينهما ،
ولا يُفَرِّقْهُما ليجلس بينهما ،
ولا يُقيم أحدهما ليجلس مكانه ،
وجاز له أن يطلب منهما التوسعة إن أمكن ،
وإذا رأى أن في مُقدِّمةِ الصفوف فُرْجَةً ، وأراد سَدَّها ـ طلباً للأجر ـ ؛ فَلْيُبادر إليها ،
ولا حرج عليه من التَّخَطي ، والحرج ـ في ذلك ـ على من قَصَّرَ ولم يسُدَّها .
6 ـ من حَضَرَ مُبَكِّرَاً ؛ فإنه يَستَغَل هذا الوقت بالعبادة ـ كـ ( الصلاة ، وقراءة القرآن ، والذِّكْرِ ) ـ ،
وأفضلها ( الصلاة ) ؛ لاشتمالها على مجامع الخير ؛
فينشغل بالعبادة ؛ حتى يخرج الإمام .
7 ـ إذا دخل الرجل إلى المسجد ، ووجد الإمام على المنبر يخطب ؛ فلا يجلس ،
بل ؛ يُصلي ركعتين خفيفتين ـ ( تحية المسجد ) ـ ، ثم يجلس ؛
لقول النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : ( إذا جاءَ أحدُكم ـ والإمامُ يخطُب ـ ؛
فَليَركع ركعتينِ وليَتَجَوَّز فِيهِما ) ـ أي : لا يُطيل ـ ( رواه البخاري ومسلم ) ـ وغيرهما ـ ،
وإذا دخل ورأى الإمام جالساً على المنبر ، والمؤذِّنُ يُؤذِّنُ بين يديهِ ؛
فلا ينتظر حتى يُنهي المؤذِّنُ ويُردِّدُ معه ، بل ؛ يُصلي الركعتين الخفيفتين ؛ ليُدركَ سماع الخطبة ؛
فسماعها ( واجبٌ ) ، والترديد مع المؤذِّنِ ( مُستَحَبٌّ ) ؛
فيُتْركُ ( المُستَحَب ) لإدراك ( الواجبِ ) ؛ لأن ( الواجب ) مُقَدَّمٌ على ( المُستحب ) .
8 ـ ليسَ للجُمُعةِ ( سُنَّةٌ قَبليَّةٌ ) ! : والبحث في هذا الأمر يطول ـ كثيراً ـ ! ،
ولكن سأختصره ، بمُجْمَلٍ من القولِ ؛ فأقول :
( كان النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يخرج من حُجرته ـ مباشرةً ـ إلى منبره عند دخول وقت أذان الظهر ؛ فيرتقي المنبر ؛ ثم يؤذَّنُ ـ بين يديه ـ ، فإذا فَرَغَ المؤذِّنُ ؛ قام رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلى الخُطبةِ )
[ يُنظر التفصيل في ( فتح الباري ـ 2 / 426 ) ، و ( فتاوى ابن تيمية ـ 1 / 136 ) ، وغيرهما ] ؛
فأين ( السُّنَّةُ القبلية ) ـ في هذه الحالة ـ ؟! ،
واستمر هذا الحال ـ على أذانٍ واحدٍ ـ إلى وقت خلافة ( عثمان بن عفان ) ـ رضي الله عنه ـ ؛
فاستحدث ( أذاناً ثانياً ) ـ لمصلحةٍ رآها راجحةً في زمانهِ ـ ؛
( لكثرة الناس ، وتباعد منازلهم ، وليعلم الناس أن ( الجُمُعةَ ) قد حَضَرَتْ ، وليتأهب الناس لحضور الخُطبةِ ؛
عند اتساع المدينة ، وكثرة أهلها )
[ يُنظر كتاب ( الأم للشافعي ـ 1 / 224 ) ، و ( الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ـ 18 /100 ) ـ وغيرهما ـ ] ،
وأما الآن ؛ فأكثر العلماء قالوا بأن الأفضل الإقتصار على أذانٍ واحدٍ ـ ( الأذان المُحَمَّدي ) ـ ،
وترك سُنَّةِ ( عثمان ) ـ رضي الله عنه ـ ؛ لعدم وجود السبب له ،
مع العلم ؛ أن أذان ( عثمان ) ـ رضي الله عنه ـ كان قبل وقت أذان الظهر بفترة معينة في منطقة تسمى
بـ ( الزوراء ) ، وهي دارٌ مرتفعة في السوق ! ، وفي هذه الحالة ؛ لا توجد ( سُنَّةٌ قبليةٌ ) ! ،
وأما ما يحدث ـ اليوم ـ ؛ فإن المؤذِّن يُؤذِّن الأذان الأول عند دخول وقت الظهر ! ،
والثاني بعده بوقت يسير ؛ مما يجعل المصلين يُصلون ( السُّنَّةَ القبليةَ ! ) ـ كما يزعمون ـ ولا بُدَّ ـ ! ،
ولو ساروا على الهدي النبوي ؛ لما وقع ما وقع !! .
9 ـ الإستماع وعدم اللغو : و ( اللغو ) هو الكلام مع الناس والخطيب يخطب ،
أو الإنشغال بأي شي وتَرْك ( الإستماع للخطبة ) ؛
فلا يجوز الكلام ـ بأيِّ كلامٍ ـ مع أيِّ أحدٍ والخطيب يخطب ! ؛
لقول النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ :
( إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ ـ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ـ : أَنْصِتْ ـ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ـ ؛ فَقَدْ لَغَوْتَ ) ( أخرجه البخاري ومسلم ) ـ وغيرهما ـ ؛
فهذا الرجل لم يفعل شيئاً سوى أنه أمر بمعروفٍ ، ونهى عن منكرٍ ؛
بقوله لصاحبه ـ الذي يتكلم أثناء الخطبة ـ :
( أَنصِتْ ) ! ، ومع هذا عُدَّ ( لاغياً ) !! ؛
فكيف بغيره ـ من كلام الدنيا ـ ؟! ،
ومن ذلك ما جاء عن عبد الله بن عمرو ـ مرفوعاً ـ :
( ومن لغا ، أو تخطى ؛ كانت له ظُهراً ) ( أخرجه ابن خزيمة ، وأبو داوود ) ، وإسناده صحيح ،
قال ابن وهب : ( معناه : أَجزأَت عنهُ الصلاة ، وحُرِمَ فضيلةَ الجُمُعة ) ( فتح الباري / 2 / 414 ) .
ومن ذلك جُملة أمور ؛
منها : عدم جواز قول ( السلام عليكم ) ـ لمن دخل المسجد والخطيب يخطب ـ ، ومن أخطأ أو نسي ، وسلَّم ؛
فلا يجوزـ لمن سَمِعَهُ ـ أن يرُدَّ عليه السلام ،
ومنها ـ أيضاً ـ: عدم جواز قول ( الحمد لله ) ـ لمن عَطَسَ ـ ، ومن أخطأ أو نسي ، وحَمِدَ الله ـ تعالى ـ ؛
فلا يجوز ـ لمن سَمِعَهُ ـ أن يُشَمِّتَهُ ،
ومنها ـ أيضاً ـ : إذا ذكر الخطيب حديثاً للنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ؛ وقال :
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ( ... ) ؛ فلا يجوز أن ننطق بالصلاة عليه ،
ومنها ـ أيضاً ـ : إذا دعا الخطيب في وسط خطبته أو في آخرها ؛
فلا يجوز التأمين على دعاءه بقولنا ( آمين ) ، ولا نرفع الأيدي .
ومن ( اللغو ) ـ أيضاً ـ : بعض الأفعال الملهية ، كالإنشغال عن الخطبة بأشياء كثيرة ؛
منها : العبث بسجاد المسجد ، أو بأجهزة المسجدـ وغيرها ـ ،
ومنها: الإنشغال بآلة تصوير الخطبة ، أو آلة تسجيل الخطبة ،
ومنها : التسبيح بما يسمى بـ ( المسبحة ) ،
وغيرها من الأمور الملهية عن الإستماع للخطبة ، المُذهبةِ لحظور القلب وخشوعه ؛
ودليل ذلك ؛ هو قول النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ :
( مَنْ مَسَّ الحَصَا ؛ فَقَدْ لَغَا ) ( أخرجه مسلم ) ـ وغيره ـ؛
حيث كان المسجد ـ آنذاك ـ مفروشاً بـ ( الحَصا ) ،
والمقصود بـ ( المسِّ ) ـ هنا ـ ؛ هو ( العَبَثُ ) .
10 ـ إذا خرج الإمام ، وارتقى المنبر ليخطب ؛ إستقبل المصلون ـ بوجوههم ـ القبلة ؛
لِـما صحَّ عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه :
( كان إذا خطب قائماً في الجُمعةِ ؛ إستدار أصحابه إليه بوجوههم ،
وكان وجهه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قِبَلَهُم في وقت الخطبة )( أخرجه البخاري في كتاب الجمعة ) ،
وهذا الإقبال ـ بالجسد والقلب ـ أدعى لقبول الموعظة ، والإستفادة من الخطبة .
11 ـ يُستَحبُّ قراءة سورة الكهف في يوم ( الجُمُعَةِ ) ؛
لقوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ :
( مَن قَرأَ سُورةَ الكَهفِ ـ في يَومِ الجُمُعةِ ـ ؛ أَضاءَ لهُ ـ مِن النُّورِ ـ ما بَينَ الجُمُعتينِ )
( قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) ، انظر حديث رقم : 6470 في صحيح الجامع ) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين .
كتبها :
أبو عبد الرحمن الأثري العراقي
ظُهْرَ يوم ( الإثنين ) ، الموافق
( 2 / 9 / 2013 ) م