الاستشراق الجديد: مقدمة في التاريخ والمفهوم(*)


إعداد: عبد الله بن عبد الرحمن الوهيبي


صفر، 1434هـ


ــــــــــــــ


بمناسبة مرور مائة عام على بداية عقد المستشرقين لمؤتمراتهم العالمية، والتي كانت تعقد كل ثلاث إلى خمس سنوات، عقد في العاصمة الفرنسية باريس عام 1973م/1393هـ مؤتمرا كبيرا، واللافت في هذا المؤتمر أنه شهد تصويتاً على مدى رغبة المشاركين في الإبقاء على مصطلح "مستشرق"، وكانت النتيجة لصالح إلغاء التسمية، والتوافق على تغيير اسم المؤتمر إلى "المؤتمر العالمي للدراسات الإنسانية حول آسيا وشمال أفريقيا".


ويرى كثير من الباحثين أن إلغاء لقب مستشرق عائد لأسباب عديدة أقواها راجع إلى أن كلمة استشراق أصبح لها حمولات سيئة، وقد كثرت الكتابات الإسلامية التي تنتقد الاستشراق، غير أن الاستشراق مازال يحتفظ بدعم فكري ومؤسساتي، وهو يملك مقومات ذاتية تدعم وجوده، وقد جرت محاولات عديدة لإعادة بناء مجاله العلمي، بما يضمن استمرار فاعليته، وتحقيقه لأهدافه.


وفي هذه الورقة يسعى الباحث لاستنطاق المصادر المتاحة لتكوين صورة واضحة المعالم عن هذه المحاولة التي تهدف لإعادة بناء المجال العلمي، والمنهجي في الحقل الاستشراقي، وقد تناول الباحث مفردات هذا الموضوع من خلال أربعة مباحث كما يلي:


المبحث الأول: السياق التاريخي والفكري لنشوء وتطور الاستشراق، وملابسات ظهور الاستشراق الجديد:


وفيه استعرض الباحث أبرز المحطات المهمة في السياق التاريخي والفكري للاستشراق منذ نشأته حتى تبلوره في صيغة جديدة اُصطلح على تسميتها بـ"الاستشراق الجديد" أو المتجدد، مع الإشارة للتطورات التي حدثت حتى أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001م، وقد ارتكّز البحث في ما يخص المرحلة التي نشأ فيها الاستشراق الجديد (ما بعد النصف الثاني من القرن العشرين)، على الحقل الاستشراقي الأمريكي.


المبحث الثاني: في مفهوم الاستشراق الجديد:


ويتضمن هذا المبحث مقاربة في مفهوم الاستشراق الجديد، وفيه بين الباحث أن موضوع الاستشراق- على المستوى المنهجي- فقد دلالته بتحول هذا الحقل إلى تخصصات علمية محددة، في موضوعها، وإشكاليتها الخاصة، كعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد السياسي، وعلم الألسنيات، وعلم الإناسة (الأنثربولوجيا)، وعلم الأعراق (الأثنولوجيا)، ومختلف فروع التاريخ العام.


وبعبارة أخرى فإن الاستشراق أصبح نتيجةً، أو هدفاً لمجموعة مناهج علمية مختلفة، حتى مؤتمرات المستشرقين، والتي تنعقد كل 3سنوات أخذت تميل لعقد مؤتمرات ضيقة أكثر تخصصاً بشؤون العالم العربي والإسلامي، والهندي والصيني.


وبين الباحث أن الاستشراق بوصفه مفهوماً يشير إلى مجمل الاهتمام العلمي بشؤون الشرق، والعرب والإسلام، فهو قطعاً لم يتوقف، بل مازال في نشاط وفاعلية، وأن هذا القدر الإجرائي من المفهوم لا يصح الاختلاف عليه.


واختار الباحث تعريف أوليفييه مووس- أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة فريبورغ في سويسرا- كأفضل تعريف للاستشراق الحديث، والذي ينص فيه على أن الاستشراق الحديث: "مذهب ثقافوي جديد يقوم على تجديد وإعادة تأهيل الأطروحات الاستشراقية الكلاسيكية، ومتطلبات الدفاع عن قيم الحداثة والديموقراطية، في سياق يتميز بأدلجة متنامية للعلاقات بين الشرق الأوسط والدول الغربية، تعمل على تشجيع العودة إلى قراءة ماهوية للمجال الإسلامي.


ونبه الباحث في نهاية المبحث على أن مما يلتحق بمفهوم الاستشراق الجديد - إلى جوار الدراسات العلمية المتخصصة-؛ مجمل الرؤى والتصورات والتفسيرات المتصلة بشؤون الإسلام، والشرق، والعرب، والمسلمين؛ باختلاف أشكالها، وتمظهراتها، وتنوع الأوعية التي تقدم هذه الرؤى من خلالها؛ سواء كانت في المجالات الأدبية، كالرواية والقصيدة، أو البرامج الإعلامية المرئية والمسموعة، أو المقالات والتقارير الصحفية، أو الأعمال السينمائية، أو غير ذلك.


المبحث الثالث: نماذج من مناهج الاستشراق الجديد:


في هذا المبحث قدم الباحث لفتات موجزة عن نماذج من مناهج الاستشراق الجديد، ومن هذه المناهج:


1- المنهج الأنثروبولوجي.


والأنثروبولجيا بشكل عام تخصص علمي يبحث في أصول الشعوب المختلفة، وخصائصها، وتوزّعها وعلاقاتها بعضها ببعض، ويدرس ثقافاتها دراسةً تحليلية مقارنة


2- المنهج اللغوي (الفيلولوجي) المطوّر.


وفيه أشار الباحث أنه بتأثير من المدارس الألسنية الحديثة في نقد النصوص، وتطويراً للتراث النقدي الذي اشتهر تطبيقه منذ القرن التاسع عشر على نصوص العهدين القديم والجديد؛ قدم العديد من المستشرقين الجدد أطروحات تنتمي إلى حقول علم اللغة المقارن (الفيلولوجيا)، والتي تدرس النص القرآني، وتاريخ الإسلام المبكر -كما يسمونه-، أو تاريخ الحقبة التي نشأ فيها الإسلام، وظروف تلك النشأة وتداعياتها.


المبحث الرابع: في نقد الاستشراق الجديد:


وفي هذا االمبحث تناول الباحث بالدراسة أبرز أوجه النقد التي يمكن توجيهها للاستشراق الجديد، وذلك من خلال عنوانين كبيرين:


1- شدة الارتباط بالإرث السلبي في الاستشراق القديم.


تحت هذا العنوان أشار الباحث إلى أن الاستشراق المعاصر-وبرغم بعض التغييرات الإيجابية التي دخلت عليه- لا يمثل حالة قطيعة مع الاستشراق القديم/الكلاسيكي، وإنما هو استمرار ومحاولة لاستثمار الأدوات العلمية الحديثة، أو بعبارة أخرى "تجديد افتراضات الاستشراق الكلاسيكي"، وإعادة تأهيل لأطروحاته القديمة، ولذلك يفضل بعض الباحثين وصف الظاهرة الاستشراقية الحديثة بـ"الاستشراق المتجدد" بدلاً عن "الاستشراق الجديد"، وقد عرض الباحث خلال ذلك تلخيصا لأبرز جوانب الارتباط بين "الاستشراق الكلاسيكي"، و"الاستشراق الجديد"، مع تقديم نماذج توضيحية لذلك.


2- الإشكاليات المنهجية في العلوم الإنسانية:


خلص الباحث من هذه الجزئية ببيان أن العلوم الإنسانية الحديثة تعاني من مآزق منهجية متعددة، فهي علوم مادية، قامت على أسس وضعية ملحدة، ترفض الغيب/الميتافيزيقيا، وتأنسن الأديان أي: تجعل الدين مجرد ظاهرة اجتماعية، أنتجها الإنسان كهروب نفسي لمواجهة بالأخطار. بالإضافة إلى تأثرها العميق بظروف نشأتها، والتي ساهمت العوامل الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، في التأسيس لها، ومع ذلك تدّعي العالمية، والشمول، وترفض -في معظم الأحيان- الوصف بالتحيز، والخصوصية.


الخاتمة:


ختم الباحث ورقته بنتيجة مفادها أنه: مهما بالغ المرء في موقفه الإيجابي من الاستشراق، أو تلك المعرفة التي ينتجها الغرب عن الشرق العربي خاصة، ومهما أسرف في تقديره لإنجازاته المعرفية في الجانب الأكاديمي، والبحثي منه، فإن الاستشراق القديم والحديث يظل منتجاً إنسانياً محكوماً بظروف المواجهة بين منتجها (الغرب)، وموضوعها (الشرق)، وبأهواء أصحابها، وأفكارهم المسبقة، وبمصالحهم الدنيوية، في عالم تحفزه المصالح والمادية المتوحشة. "إنها معرفة دنيوية منغمسة تماماً في الظروف، والشروط المادية، والمناخات السياسية والأيدلوجية". إنها استمرار لـ"قصة الصراع التاريخي بين أثينا ومكة.. بأبطالها وخونتها!" هكذا يختم أوليفييه مووس كتابه "تيار الاستشراق الجديد والإسلام".


قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ).


فنسأل الله أن يجزي الباحث خير الجزاء على هذا البحث الجاد الذي خاض فيه غمار موضوع "الاستشراق الجديد"، وأماط اللثام فيه عن مناهجه وغاياته.


ــــــــــــــ


(*) أصل هذه الورقة بحث تكميلي لمرحلة الماجستير بقسم الثقافة الإسلامية-كلية الشريعة بجامعة الإمام، تم مناقشته بتاريخ 14/4/1434هـ، وقد قمت بإجراء تعديلات كثيرة عليها، وتهذيبها بما يناسب النشر، بعد التخلص من القيود الأكاديمية البغيضة.


لتحميل الدراسة انقر هنا: