قال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي – رحمه الله – [الفتاوى السعدية - باب: حكم المرتد. (ص: 443-447)
قال أحد المذكورين:

قد دل الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، أن من دعا غير الله تعالى، ملكا أو نبيا أو صالحا أو صنما أو غير ذلك، أنه كافر بالله، مشرك مخلد في نار جهنم، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة لا يمكن إنكاره، فمتى فعله أحد من الناس فهو مشرك كافر لا فرق بين كونه معاندا أو جاهلا أو متأولا أو مقلدا، ولهذا جعل الله في كتابه الكفار كلهم كفارا، لم يفرق بين التابع والمتبوع، ولا بين المعاند والجاهل، بل أخبر أنهم يقولون: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} [الزخرف: 22].
وهذا أمر لا يُشك فيه أن كثيرا منهم يظن أنه على حق كما قال تعالى: {الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم} [الكهف: 104، 105]. فلم يمنعهم تكفيرهم اعتقادهم أن ما فعلوه إحسان، فهكذا من دعا غير الله، أو استغاث بما لا يقدر عليه إلا الله، فهو مشرك كافر، عاند أو لم يعاند، عرف الدليل أو لم يعرف، وأي فرق بين تكفير جهلة اليهود والنصارى وغيرهم وجهلة من يشرك ولو انتسب الى دين الاسلام؟! بل أي فرق بين تكفير من ينكر البعث ولو جهلا، وبين من يدعو غير الله ويلوذ به ويطلب منه الحوائج التي لا يقدر عليها إلا الله؟! فالكل كفار، والرسول بلغ البلاغ المبين، ومن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، سواء فهمها أو لم يفهمها.
قال الآخر:
ما ذكرت من دلالة الكتاب والسنة والإجماع، على أن دعاء غير الله والاستغاثة به شرك وكفر مخلد في النار، فهذا لا شك فيه، ولا ريب، وما ذكرته من مساواة جهلة اليهود والنصارى وجميع الكفار الذين لا يؤمنون بالرسول ولا يصدقونه بجهلة من يؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، ويعتقد صدق كل ما قاله في كل شيء ويلتزم طاعته، ثم يقع منه دعاء لغير الله وشرك به، وهو لا يدري ولا يشعر أنه من الشرك، بل يحسبه تعظيما لذلك المدعو، مأمور به.
وما ذكرته من مساواة بين هذا وبين ذاك، فانه خطأ واضح، دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم باحسان على التفريق بين الأمرين، فإنه من المعلوم من الدين بالضرورة كفر جهال اليهود والنصارى وجميع أصناف الكفار، وهذا أمر لا يمكن انكاره.
وأما من كان مؤمنا بالرسول، ومصدقا له في كل ما قاله، وملتزما لدينه، ثم وقع منه خطأ في الاعتقاد أو القول والعمل، جهلا أو تقليدا أو تأويلا، فإن الله يقول: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]. عفي عن أمته الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، في المقالة والاعتقاد وإن كان كفرا.
ويقال: من اعتقدها أو عمل بها، فهو كافر، لكن قد يقع ويوجد مانع في بعض الأشخاص يمنع من تكفيره لعدم علمه أنه كفر وشرك فيوجب لنا التوقف في إطلاق الكفر على عينه، وإن كنا لا نشك أن المقالة كفر لوجود ذلك المانع المذكور، وعلى هذا عمل الصحابة والتابعين في البدع، فإن البدع التي ظهرت في زمانهم كبدعة الخوارج والمعتزلة والقدرية ونحوهم مشتملة على رد النصوص من الكتاب والسنة وتكذيبها وتحريفها، وذلك كفر، لكن امتنعوا من تكفيرهم بأعيانهم، لوجود التأويل فلا فرق بين تكذيب الخوارج لنصوص الشفاعة وتكذيبهم للنصوص الدالة على إسلام وإيمان أهل الكبائر، واستحلالهم لدماء الصحابة والمسلمين، وتكذيب المعتزلة بالشفاعة لأهل الكبائر، ونفي القدر والتعطيل لصفات الله، وغير ذلك من مقالاتهم، وبين تأويل من أجاز دعاء غير الله والاستغاثة به.
وقد صرح شيخ الاسلام في كثير من كتبه، كرده على البكري والإخنائي وغيرهما حين ذكر وقوع مثل هذه الأمور من بعض المشايخ المشار اليهم، فذكر أنه لا يمكن تكفيرهم لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة، حتى تبين لهم الحجة التي يكفر منكرها، وكلامه معروف مشهور، فاتضح لنا من ذلك ان من وقعت منه مثل هذه الأمور جهلا وتقليدا، أو تأويلا من غير عناد، أنه لا يحكم بتكفيره بعينه وإن كانت هذه الأمور الواقعة منه كفرا، للمانع المذكور.
فقال الأول:
أما قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]. ورفع الشارع المؤاخذة عن هذه الأمة بالخطأ، فإنما ذلك في الخطأ في المسائل الفرعية والاجتهادية، أما أصول الدين، بل أصل الدين على الإطلاق الذي هو التوحيد، فالخطأ فيه والعمد الكل على حد سواء كما ذكرنا في تكفير مقلدة الكفار.

وأما قولكم: إن هذا مصدق للرسول ملتزم لطاعته، فهو ممنوع، فكيف يصدقه من كان مكذبا له في وجوب توحيد الله، ووجوب إفراد الله في الدعاء والاستغاثة وغيرهما من أنواع العبادات؟! وكيف يكون ملتزما لطاعة الرسول من عصاه في أصل الطاعات وأساس الدين، والتوحيد؟! فجعل يدعو غير الله ويستغيث به ناسيا ربه، مقبلا بقلبه على المخلوقين، معرضا عن رب العالمين، فأين الالتزام؟! وأين التصديق؟!
وأما الدعوة المجردة، فإنها غير مقبولة حتى يقام عليها الدليل والبرهان، وأما تشبيهكم هنا ببدع الخوارج والمعتزلة الى آخر ما قلتم، فما أبعد الفرق بين الأمرين! بين التوحيد الذي هو أصل دين الرسل وأساس دعوتهم، وهو الذي جاهد عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكاد القرآن من أوله الى آخره أن يكون في بيان هذا تأصيلا وتفصيلا وتبيانا وتقريرا، وبين البدع التي ضل أهلها وأخطئوا في عقائدهم وأعمالهم مع توحيدهم وإيمانهم بالله ورسوله، فالفرق بين الأمرين فرق واضح، والجامع بينهما مخطئ لم يهتد إلى الصواب.

فقال الثاني:
إن القول بأن الخطأ المذكور في الآية وغيرها من نصوص الشرع إنما هو الخطأ في الفروع لا في الأصول، قول بلا برهان، فلم يفرق الله ورسوله بين مسائل الأصول والفروع في العفو عن هذه الأمة، وما ذكرناه من عدم تكفير السلف لأهل البدع حيث كانوا متأولين إلا مسائل أصول الدين، خصوصا من عطل صفات الباري من المعتزلة ونحوهم، فإن التوحيد مداره على إثبات صفات الكمال لله تعالى وعبادته وحده لا شريك له، فكما امتنعنا من التكفير للمعين الذي لم تقم عليه الحجة في القسم الأول إذا أنكر بعض الصفات جهلا وتأويلا وتقليدا، فكذلك نمتنع من تكفير من صرف بعض العبادات لبعض المخلوقات جهلا وتأويلا وتقليدا، والمانع في هذا كالمانع في هذا، وكلا الأمرين قد أتى به الرسول وبلغه لأمته.
لكن الضّلال من أمته ضلوا في البابين أو فيهما، وسلكوا ما علم بالضرورة من دينه، أنه جاء بإنكاره والنهي عنه والتحذير لأمته عن هذا المسلك، فمن علم ما جاء به في البابين، وعانده وشاقه من بعد ما تبين له الحق، فهو كافر حقا، ومن كان مؤمنا به ظاهرا وباطنا، لكنه ضل في ذلك وجهل الحق فيه، فإنا لا نجزم بكفره في هذه الحال مع وجود هذا المانع حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر معاندها.
وبهذا المعنى امتنعنا نحن وأنتم من إطلاق الكفر على من جرت منه مثل هذه الأمور، كالصرصري ونحوه، ممن في كلامهم من الاستغاثة بالرسول ودعائه، وطلب الحوائج منه لهذه العلة المذكورة، وهو وأمثاله ممن يدخل في كلام شيخ الاسلام السابق.
وأما قولك: إن إنكار البعث ممن أنكره لا تتوقفون في تكفيره كما كفره الله ورسوله من غير تفريق بين المعاند وغير المعاند.
فنحن نقول: الباب واحد، ولكن حصل التأويل وراج الأمر في مسائل الصفات والتوحيد على كثير ممن هو مصدق للرسول في كل شيء، بخلاف مسألة إنكار البعث، فإن هذا لا يكاد يوجد، ومع ذلك لو فرض وجوده ممن نشأ في بلد بعيدة، أو حديث عهد بإسلام، فإنه يعرف حكمه، وبعد ذلك يحكم بكفره.
فكل من كان مؤمنا بالله ورسوله، مصدقا لهما ملتزما طاعتهما، وأنكر بعض ما جاء به الرسول جهلا أو عدم علم أن الرسول جاء به، فإنه وإن كان ذلك كفرا، ومن فعله فهو كافر، إلا أن الجهل بما جاء به الرسول يمنع من تكفير ذلك الشخص المعين من غير فرق بين المسائل الأصولية والفرعية، لأن الكفر جحد ما جاء به الرسول أو جحد بعضه مع العلم بذلك، وبهذا عرفت الفرق بين المقلدين من الكفار بالرسول وبين المؤمن الجاحد لبعض ما جاء به جهلا وضلالا لا علما وعنادا. ا.هـ.