د. محمود محمد الطناحي:
ليس بين أيدي الأمم الآن من تراثها الفكري المسجل الموثق، ما للأمة العربية ؟ كثرةً وتنوعاً، فقد عَمَرت دور الكتب، وامتلأت مكتبات المساجد بألوف الألوف من المصنفات التي حملت قرائح الكُتَّاب العرب في مختلف الفنون والعلوم والآداب. فما كادت الرواية الشفوية تنحسر، ويحل محلها التسجيل والتدوين حتى امتلأت حلقات المساجد بالشيوخ والتلاميذ، الشيوخ بمحفوظهم ومروياتهم يملون، والتلاميذ بأقلامهم وقراطيسهم يستملون ويسجلون.
ولا يخرج هذا المكتوب من بين يدي التلاميذ حتى يستكمل أسباب التوثيق والقبول، من سماع على الشيخ المُملي، أو إذن منه بإجازة رواية الذي كُتب، وتوقيعه بخطه بصحة ذلك كله، مقروناً ذلك كله بتاريخ الإملاء - النسخ - والسماع والإجازة باليوم والشهر والسنة، وأحيانا بالوقت من اليوم، كأن يقال: ضحوة يوم كذا، أو ظهره أو عصره، وقد يضاف إلى ذلك كله تسجيل أسماء حضور طبقة السماع، وهم الذين حضروا مجلس الإملاء - ويكثر هذا في كتب الحديث - ثم تخرج تلك النسخة المحرَّرة الموثقة من الكتاب، ليتلقفها الورّاقون - وهم الناسخون في ذلك الزمان - يستنسخون منها نُسخاً، تتناسل من الأصل الأول، كما يتناسل الحيُّ من الحيّ.
وهكذا وصل إلينا معظم تراثنا على هذا الوجه الذي لا يدخل عليه الشك من أي باب تدخل منه الشكوك ؟ لا على وجوه الاجتهاد والتخمين والحدس والاستنتاج، ومعاناة فك الرموز واستنطاق الطلاسم، وإذا ما أراد كذاب أو مدلس أن يخترق هذه الحدود الحصينة من التوثيق والاطمئنان أمكن كشفه وفضح أمره من أيسر سبيل، بأسباب وعلامات يعرفها المشتغلون بعلم المخطوطات.
ومما ينبغي التنبّه له، أو التذكير به أن هذه الحركة العلمية القائمة على الإملاء والاستملاء والتسجيل، لم ينفرد بها بلد عربي أو إسلامي دون بلد، ولم يختص بها زمن دون زمن، بل قام الكل في وقت واحد، وكأنهم جميعهم على موعد واحد، لا يحل تأخيره، لأداء واجب واحد، لا يقوم أحد منهم مقام أحد فيه، فالذي حدث في مكة والمدينة والبصرة والكوفة وبغداد، من مجالس العلم والاستملاء حدث مثله في الوقت نفسه في دمشق وحلب والقاهرة وقرطبة وغرناطة وإشبيلية والمغرب الأقصى كله وبلاد فارس، وأصغر بلد طالته يد العربية.
كثرت التآليف إذن، وامتلأت خزائن الكتب ودور العلم بالمخطوطات، وأسلمها جيل إلى جيل، وفي أول الأمر حفظ الجيل الثاني ما أسلمه إياه الجيل الأول، وصانه كما يصون كرام الأبناء ودائع الآباء، ثم كان ما كان مما شاءه ربك، من تعرض الأمة العربية لنوازل وغواشٍ، أطبقت عليها كقطع الليل المظلم، وسلبتها أشياء عزيزة كثيرة، كان منها هذا القدر الضخم من مستودعات الفكر وقرائح العقول، المتمثلة في المخطوطات التي تعرضت لعوادي الناس والأيام، وتقرأ في جريدة مصنفات عالم من العلماء، في أثناء ترجمته، أن له عشرين مصنفاً في كذا وكذا من العلوم والفنون، ثم تنظر فيما بين يديك من فهارس المكتبات، أو رصيد المطبوعات، فلا تجد له إلا مصنفاً أو مصنفين اثنين، بل ربما لا تجد له شيئاً البتة، ومثل ذلك يقال فيما تراه من نقل أو إحالة في كتاب قديم، على كتاب لفلان، تم لا تجد لذلك الكتاب أثراً الآن.
ويكثر الدارسون الآن من ذكر أسباب ضياع المخطوطات العربية، ويردون ذلك إلى أسباب كثيرة، بعضها مقصود متعمد، كالإتلاف والإحراق - مع ما يصاحب ذلك من المبالغات أحياناً - والنهب. والإتلاف والإحراق لا حيلة لنا فيهما الآن، أما النهب - وهو ما يعبر عنه أحياناً بالسرقة - فيجب النظر فيه ومناقشته. أن حقيقة الشيء الذي ينهب أو يسرق أنه يذوب في ذمة الناهب والسارق، ويدخل في ملكيته الخاصة، ويختلط بماله العام، فلا يرى له أثر بعد ذلك، ولا يستطاع تمييزه، ولا يتصور هذا فيما يسرق وينهب من المخطوطات! لأنها تظل باقية العين، ولا يمكن إذابتها في ملكية خاصة، وغاية ما يصنعه سارق المخطوطات أنه يستفيد منها بالبيع، وهذا في رأيي تصرف لا بأس به، على أن يكون البيع لهيئة علمية، أو مكتبة عامة تتيح المخطوطات لسائر الناس، والمحظور أن يحبس السارق المخطوط، ويضعه في ملكيته الخاصة: تحفة من التحف، يسر برؤيتها وحده، أو يريها الناس من خلف زجاج ويمضون، فلا يستفيد منها أحد بالقراءة أو الاطلاع، فهذا فوق أنه سرقة حبس للعلم.
ويهمل الدارسون سبباً خطيراً جداً في ضياع المخطوطات، وهو الإهمال، وترك المخطوطات تعبث بها وتفنيها عوامل البلى، مثل الرطوبة والأرضة - هذه الحشرة الآكلة اللعينة - وذكر أمثلة ذلك مما يطول به الكلام، لكنى أكتفي بمقال واحد، رأيته بعيني بمدينة زبيد باليمن، فقد كنت عضواً في بعثة معهد المخطوطات إلى اليمن في صيف عام 1974م، وكان معي الزميلان عصام محمد الشنطي ونبيل عبد الفتاح إبراهيم، وفي مكتبة خاصة للسيد عبد القادر الأنباري رأينا مجموعة من المخطوطات، في غرفة مغلقة منذ زمن طويل، وقد وضعت المخطوطات بعضها فوق بعض، مما جعل كثيراً من هذه المخطوطات يلتصق ورقه بعضه ببعض، بحيث يتعذر فصل الأوراق، فإذا حاولت لها فصلاً هوى بعضها تراباً ناعماً دقيقاً، وتمزق بعضها الآخر. ومن الغريب أن هذه المكتبة تضم نفائس من المخطوطات، بعضها نسخ سنة (549هـ) ، وقد استنقذنا من هذه المجموعة المتهالكة ثمانية مخطوطات، وأظن أن ما تركناه بهذه المكتبة قد أصبح الآن هشيماً تذروه الرياح.
ويقدّر العلماء العارفون بالمخطوطات العربية عددها الموجود الآن بما يزيد على ثلاثة ملايين، لا يخشى عليها من وجهة نظري إلا الإهمال وعوامل البلى، أما سرقة المخطوطات فهو حديث خرافة، ونترك أمره إلى حين.
وهذا العدد الوفير من المخطوطات العربية موزع الآن في أقطار الأرض، في مكتبات عامة، وفي ملكيات خاصة، فالذي في المكتبات العامة بعضه غير مفهرس، أو مفهرس فهرسة ناقصة، قد تهمل المجاميع التي تحتوى أحيانا في داخلها على نفائس، وقد تهمل المخطوطات المنزوعة الأغلفة، وبعض هذه مما يبحث عنها الدارسون بحثا.
والذي في الملكيات الخاصة كثير منه من المضنون به على أهله، يحتجزه أصحاب تلك المكتبات، ويحجبونه عن الناس، لأنهم يرونه إرث آبائهم وأجدادهم، وأنهم أحق به وأهله. وفي جعبتى من ذلك كثير.
لهذا كله فكرت جامعة الدول العربية غداة قيامها سنة 1945م في إنشاء معهد المخطوطات ؟ ليجمع أكبر عدد ممكن من صور المخطوطات القيمة النادرة المبعثرة في العالم، ويضع هذه المصوّرات تحت تصرف العلماء في مختلف أقطار العالم للاطلاع عليها، في مقر المعهد، بقراءتها، أو بتقديم نسخ ميكروفيلمية أو ورقية منها بأسعار زهيدة، أو بإعادتها للمؤسسات العلمية، وليفهرس المكتبات العامة والخاصة التي تحوي مخطوطات غير مفهرسة، حيثما كانت، وينشر هذه القوائم، ثم ليقوم بنشر المخطوطات ذات الشأن الكبير، وليكون بعد ذلك مركزاً علمياً للتعاون العلمي بين العلماء، والمؤسسات العلمية في العالم، في سبيل خدمة المخطوطات العربية والتعريف بها، وتبادل المعلومات عنها.
تلك كانت أهداف المعهد التي حددها قرار مجلس جامعة الدول العربية المؤرخ في 4/4/1946م وواضح من هذه الأهداف التي تغيَّاها قرار مجلس الجامعة أن تصوير المخطوطات المبعثرة في أنحاء العالم، هو على رأس تلك الأهداف التي أنشئ المعهد من أجلها.
وفي سبيل تحقيق هذه الغاية العظمى اختطّ القائمون على المعهد آنئذ خطة محكمة، وسلكوا سبيلاً راشداً، فتألفت لجنة عكفت على موسوعة المستشرق الألماني الكبير كارل بروكلمان "تاريخ الأدب العربي" فاستخرجت منه نفائس المخطوطات وأسماء المكتبات التي تحتفظ بها، وكان من أعضاء هذه اللجنة الأساتذة: عبد العزيز الأهواني وخليل عساكر وعبد الحليم النجار، وكان ذلك حافزا للإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية - وكان معهد المخطوطات قسماً منها - لترجمة كتاب بروكلمان هذا، وعهدت بذلك إلى الدكتور عبد الحليم النجار، الذي ترجم منه ثلاثة أجزاء، ثم أعجلته الميتة عن إتمامه.
وحين اتضحت الصورة أمام القاتمين على شئون المعهد، بدأ العمل، وكان عمود الصورة هو النفاسة بمعاييرها المعروفة عند أهل العلم، فإن كثرة المخطوطات وامتلاء الخزائن بها توجب الانتقاء. فوضعت البطاقات للمخطوطات التي ينبغى أن تصور، اعتماداً على موسوعة بروكلمان، وأحسن ما ذكرته، والاستشراف إلى مظان المخطوطات في المكتبات الخاصة والعامة ذات السمعة العالية التي لم تفهرس فتدخل في دائرة بروكلمان.
ويمكن تقسيم نشاط معهد المخطوطات في استنفاذ المخطوطات بإرسال البعثات لتصويرها إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: منذ إنشائه سنة 1946م إلى سنة 1960م. والمرحلة الثانية: من سنة 1970م إلى سنة 1978م. والمرحلة الثالثة: من سنة 1981 م إلى سنة 1990م.