بسم الله الرحمن الرحيم
وجوب الإخلاص وأثره في صحة المناسك
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن ثمرة الأعمال الصالحة كلها -ظاهرها وباطنها-: صلاح القلب وتقواه وإخباته لرب العالمين، ولا يتحقق ذلك إلا بأن يكون الله جل جلاله غاية القصد والمنتهى ( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) النجم: 42.
والحج عبادة من جملة العبادات التي تثمر التقوى؛ قال تعالى في منسك من مناسكه -وهو النحر-: ( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)الحج: 37، قال العلامة السعدي رحمه الله: ((ففي هذا حث وترغيب على الإخلاص في النحر, وأن يكون القصد وجه الله وحده, لا فخراً ولا رياء ولا سمعة ولا مجرد عادة, وهكذا سائر العبادات إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله كانت كالقشور الذي لا لب فيه, والجسد الذي لا روح فيه))([1]).
إن قاعدة الشرع المحكمة التي توارد على إثباتها نصوص كثيرة من الكتاب والسنة: أن قبول العمل متوقف على الإخلاص لله تعالى فيها، مع اقتران ذلك بمتابعة الشرع؛ قال تعالى: ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)ا مائدة: 27، قال ابن القيم: ((وأحسن ما قيل في تفسير الآية: أنه إنما يتقبل عمل من اتقاه في ذلك العمل؛ وتقواه فيه أن يكون لوجهه, على موافقة أمره))([2]).
وبهذين الأصلين العظيمين -الإخلاص والمتابعة- تتحقق الشهادتان حقا وصدقا؛ فلا يُعبد إلا الله، ولا يُعبد إلا بما بلغه رسوله عليه الصلاة والسلام. وعلى هذين الأصلين مدار السعادة؛ قال تعالى: ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)النساء: 125، قال ابن القيم رحمه الله: ((فإسلام الوجه: إخلاص القصد والعمل لله, والإحسان فيه: متابعة رسولهe وسنته))([3]).
والإخلاص -موضوع هذه التذكرة- هو قصد المعبود وحده بالتعبد، وتصفيته عن ملاحظة المخلوقين، وتخليصه من الشرك الجلي والخفي، وهو فرض على المسلم بالإجماع، والأمر به كثير في كتاب الله: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) الزمر: 2-3، ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ )الزمر: 11.
وبفقده يُفتقد القبول وينتفي الثواب، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغى به وجهه)([4]). وقال: (بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض؛ فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب)([5]).
إن الإخلاص أساس الحج وقاعدته، ولا يبدأ الحاج مناسكه حتى يعلنه صريحا ويذكّر نفسه به: (لبيك لا شريك لك)، وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال في حجه: (اللهم حجة، لا رياء فيها ولا سمعة)([6]) وهذا هو الحج الخالص.
فليعلم من ابتدر المناسك أن الحاج قليل والركبان كثيرة؛ فإذا أراد أن لا يكون حظه من حجه إتعاب الجسد وإجهاد النفس فحسب فليحسن قصده، وليخلص نيته، وليحذر من نواقض الإخلاص وقوادحه.
وهذه النواقض والقوادح هي -في الجملة- متفرعة عن أمرين: الرياء، وإرادة الدنيا.
أما الرياء فهو إرادة العامل بعبادته غير وجه الله، وإظهارها بقصد رؤية الناس فيحمدوه عليها، وهو مراتب متفاوتة، وشعب شتى، منها الجلي ومنها الخفي، والمعصوم من عصمه الله.
وقد تظاهرت الأدلة على تحريمه، وجاء في النصوص تسميته بالشرك الأصغر، والشرك الخفي، وشرك السرائر؛ قال عليه الصلاة والسلام: (إن أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر. قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء, يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جُزيَ الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً)([7]). ويقول عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قال: قلنا بلى. فقال: الشرك الخفي؛ أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل)([8]). ويقول عليه الصلاة والسلام: (يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر. قالوا: يا رسول الله وما شرك السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه؛ فذلك شرك السرائر)([9]).
ومن أمثلة ما قد يعرض للحاج من هذا الداء الخطير: أن يحج ونيته مدخولة؛ أن يتباهى بحجه -أو عدد حجاته- إذا رجع إلى بلده، وأن يحرز لقب (الحاج) الذي ينال به منزلة بين قومه لم ينلها من قبل.
وقد يُخدش الإخلاص أثناء الحج بإظهار الاجتهاد في الطاعة، أو الخشوع في الصلاة، أو الضراعة في الدعاء، أو كثرة النوافل، أو النصح والتذكير؛ طلبا لمدح الناس وأن يكبر في أعينهم؛ وكل هذا قادح في الإخلاص، مؤثر في العمل وثوابه إما إحباطا وإما إنقاصا.
كما أنه قد يفوته أجر عظيم بخدمة الرفقة والسعي في حاجاتهم إذا كان القصد نيل ثنائهم.
وما من شك أن العبادة التي يراد بها وجوه الخلق والزلفى لديهم حابطةٌ لا ثواب فيها، وصاحبها مستحق لمقت الله وعقوبته؛ قال تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)([10]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((ولا يُثاب على عمل مشوب إجماعاً))([11]).
أما إرادة الدنيا بالحج: فأن يُجعل الحج وسيلة إلى اقتناص الدنيا ونيل شيء من حطامها ليس إلا، ومن أمثلة ما قد يقع من هذا الباب: أن يتكسب الحاج بحجه عن غيره؛ فهمته ليست منصرفة إلى نفع أخيه، والاستعانة بما يعطاه على بلوغ تلك البقاع الشريفة، ونيل ثواب الصلاة والذكر والدعاء ثَمة؛ وإنما نيل الدراهم التي يكسبها من المُنيب، ولربما ماكسه في الجُعل قائلا: زدني؛ فإني سأتعب في الحج كثيرا! والله المستعان.
وهذه الحال كسابقتها في استحقاق المقت والعقوبة وحبوط الثواب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وجماع هذا أن المستحب أن يأخذ ليحج لا أن يحج ليأخذ, وهذا في جميع الأرزاق المأخوذة على عمل صالح؛ فمن ارتزق ليتعلم أو ليُعلم أو ليُجاهد فحسن ... وأما من اشتغل بصورة العمل الصالح لأن يرتزق فهذا من أعمال الدنيا؛ ففرق بين من يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة, ومن تكون الدنيا مقصوده والدين وسيلة, والأشبه أن هذا ليس له في الآخرة من خلاق))([12]).
وقال رحمه الله: ((قال الإمام أحمد: ما أعلم أحداً كان يحج عن أحد بشيء، ولو كان هذا عملاً صالحاً لكانوا إليه مبادرين, والارتزاق بأعمال البر ليس من شأن الصالحين))([13]).
وقال ابن القيم رحمه الله: ((ونحن نمنع من أخذ الأجرة على كل قربة، ونحبطها بأخذ الأجرة عليها ... فلا يليق بمحاسن الشرع أن يجعل العبادات الخالصة له معاملات تقصد بها المعاوضات والأكساب الدنيوية))([14]).
وقد مضى ذكر الحديث: (... فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب)، والله عز ذكره يقول: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)هود: 15-16 ، وهذه الآية قيل إنها في الكفار, وقيل إنها في المسلمين, وأكثر المفسرين على أنها في جميع الخلق([15]).
وعلى القول بأنها في الكفار؛ فلا شك في أن من شاركهم في فعلهم فله نصيب منها([16]).
ويقرب من هذه الآية في الدلالة قوله سبحانه: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ )الشورى: 20، وقوله: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا )الإسراء: 18.
قال ابن القيم رحمه الله: ((فهذه ثلاثة مواضع من القرآن يشبه بعضها بعضاً, ويصدق بعضها بعضاً, وتجتمع على معنى واحد؛ وهو أن من كانت الدنيا مراده ولها يعمل في غاية سعيه لم يكن له في الآخرة نصيب, ومن كانت الآخرة مراده ولها عمل وهي غاية سعيه فهي له))([17]).
ولا يدخل في هذا الحكم: قصد الاتجار أثناء الحج؛ فهذا قد جاء الإذن فيه في قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ )البقرة:198، وعليه فلا حرج في هذا القصد إذا كان الباعث الأعظم الإرادة الدينية؛ لا سيما وأن التكسب ليس راجعاً إلى أعمال الحج ومناسكه, وإنما هو أمرٌ مصاحب لها؛ فهذا من باب تداخل نيتين: شرعية، ومأذون فيها.
أسأل الله تعالى أن يجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهه خالصة، وأن لا يجعل لأحد فيها شيئا.
وصلى الله على نبينا محمد وأزواجه وذريته وسلم تسليما كثيرا.

كتبه: صالح بن عبد العزيز بن عثمان سندي
عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة بالجامعة الإسلامية بالمدينة


( [1] ) تيسير الكريم الرحمن (539).
( [2] ) مفتاح دار السعادة (1/304).
( [3] ) مدارج السالكين (2/93). وانظر: النبوات (1/416).
( [4] ) أخرجه النسائي في السنن (6/25) من حديث أبي أمامة الباهلي t، وجوَّد إسناده ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/81).
( [5] ) أخرجه أحمد في مسنده (35/146) ، وابن حبان في صحيحه (2/132) من حديث أبيّ بن كعب t، وقال الهيثمي في المجمع (10/223): رجاله رجال الصحيح. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (16).
( [6] ) روي من حديث أنس وابن عباس وبشر بن قدامة رضي الله عنهم بألفاظ متقاربة وطرق متعددة، أخرجها الترمذي في الشمائل (191)، وابن ماجه (2890)، والبيهقي في السنن (4/332) وغيرهم، وفي إسناد كل منها ضعف، ومن أهل العلم من صححه بمجموع طرقه، انظر: السلسلة الصحيحة (2617).
( [7] ) أخرجه أحمد في مسنده (39/39) من حديث محمود بن لبيد t، وجوَّد إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (1/34).
( [8] ) أخرجه ابن ماجه (2/1406)، وأحمد (11/354-355) من حديث أبي سعيد الخدري t، وحسنه البوصيري في مصباح الزجاجة (3/296).
( [9] ) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (2/67) من حديث محمود بن لبيد t، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (17).
( [10] ) أخرجه مسلم ( 18/326) من حديث أبي هريرة t.
( [11] ) الاختيارات (90).
( [12] ) مجموع الفتاوى (26/19- 20)، ونحوه في الاختيارات (223). وانظر: مجموع الفتاوى (30/207).
( [13] ) مجموع الفتاوى (26/19).
( [14] ) الروح (325).
( [15] ) انظر: المحرر الوجيز (935)، وزاد المسير (649)، والجامع لأحكام القرآن (9/11)، وعدة الصابرين (163)، وروح المعاني (12/315).
( [16] ) انظر: القول المفيد (10/723).
( [17] ) عدة الصابرين (166).
بسم الله الرحمن الرحيم
وجوب الإخلاص وأثره في صحة المناسك
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن ثمرة الأعمال الصالحة كلها -ظاهرها وباطنها-: صلاح القلب وتقواه وإخباته لرب العالمين، ولا يتحقق ذلك إلا بأن يكون الله جل جلاله غاية القصد والمنتهى ( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) النجم: 42.
والحج عبادة من جملة العبادات التي تثمر التقوى؛ قال تعالى في منسك من مناسكه -وهو النحر-: ( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)الحج: 37، قال العلامة السعدي رحمه الله: ((ففي هذا حث وترغيب على الإخلاص في النحر, وأن يكون القصد وجه الله وحده, لا فخراً ولا رياء ولا سمعة ولا مجرد عادة, وهكذا سائر العبادات إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله كانت كالقشور الذي لا لب فيه, والجسد الذي لا روح فيه))([1]).
إن قاعدة الشرع المحكمة التي توارد على إثباتها نصوص كثيرة من الكتاب والسنة: أن قبول العمل متوقف على الإخلاص لله تعالى فيها، مع اقتران ذلك بمتابعة الشرع؛ قال تعالى: ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)ا مائدة: 27، قال ابن القيم: ((وأحسن ما قيل في تفسير الآية: أنه إنما يتقبل عمل من اتقاه في ذلك العمل؛ وتقواه فيه أن يكون لوجهه, على موافقة أمره))([2]).
وبهذين الأصلين العظيمين -الإخلاص والمتابعة- تتحقق الشهادتان حقا وصدقا؛ فلا يُعبد إلا الله، ولا يُعبد إلا بما بلغه رسوله عليه الصلاة والسلام. وعلى هذين الأصلين مدار السعادة؛ قال تعالى: ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)النساء: 125، قال ابن القيم رحمه الله: ((فإسلام الوجه: إخلاص القصد والعمل لله, والإحسان فيه: متابعة رسولهe وسنته))([3]).
والإخلاص -موضوع هذه التذكرة- هو قصد المعبود وحده بالتعبد، وتصفيته عن ملاحظة المخلوقين، وتخليصه من الشرك الجلي والخفي، وهو فرض على المسلم بالإجماع، والأمر به كثير في كتاب الله: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) الزمر: 2-3، ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ )الزمر: 11.
وبفقده يُفتقد القبول وينتفي الثواب، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغى به وجهه)([4]). وقال: (بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض؛ فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب)([5]).
إن الإخلاص أساس الحج وقاعدته، ولا يبدأ الحاج مناسكه حتى يعلنه صريحا ويذكّر نفسه به: (لبيك لا شريك لك)، وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال في حجه: (اللهم حجة، لا رياء فيها ولا سمعة)([6]) وهذا هو الحج الخالص.
فليعلم من ابتدر المناسك أن الحاج قليل والركبان كثيرة؛ فإذا أراد أن لا يكون حظه من حجه إتعاب الجسد وإجهاد النفس فحسب فليحسن قصده، وليخلص نيته، وليحذر من نواقض الإخلاص وقوادحه.
وهذه النواقض والقوادح هي -في الجملة- متفرعة عن أمرين: الرياء، وإرادة الدنيا.
أما الرياء فهو إرادة العامل بعبادته غير وجه الله، وإظهارها بقصد رؤية الناس فيحمدوه عليها، وهو مراتب متفاوتة، وشعب شتى، منها الجلي ومنها الخفي، والمعصوم من عصمه الله.
وقد تظاهرت الأدلة على تحريمه، وجاء في النصوص تسميته بالشرك الأصغر، والشرك الخفي، وشرك السرائر؛ قال عليه الصلاة والسلام: (إن أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر. قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء, يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جُزيَ الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً)([7]). ويقول عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قال: قلنا بلى. فقال: الشرك الخفي؛ أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل)([8]). ويقول عليه الصلاة والسلام: (يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر. قالوا: يا رسول الله وما شرك السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه؛ فذلك شرك السرائر)([9]).
ومن أمثلة ما قد يعرض للحاج من هذا الداء الخطير: أن يحج ونيته مدخولة؛ أن يتباهى بحجه -أو عدد حجاته- إذا رجع إلى بلده، وأن يحرز لقب (الحاج) الذي ينال به منزلة بين قومه لم ينلها من قبل.
وقد يُخدش الإخلاص أثناء الحج بإظهار الاجتهاد في الطاعة، أو الخشوع في الصلاة، أو الضراعة في الدعاء، أو كثرة النوافل، أو النصح والتذكير؛ طلبا لمدح الناس وأن يكبر في أعينهم؛ وكل هذا قادح في الإخلاص، مؤثر في العمل وثوابه إما إحباطا وإما إنقاصا.
كما أنه قد يفوته أجر عظيم بخدمة الرفقة والسعي في حاجاتهم إذا كان القصد نيل ثنائهم.
وما من شك أن العبادة التي يراد بها وجوه الخلق والزلفى لديهم حابطةٌ لا ثواب فيها، وصاحبها مستحق لمقت الله وعقوبته؛ قال تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)([10]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((ولا يُثاب على عمل مشوب إجماعاً))([11]).
أما إرادة الدنيا بالحج: فأن يُجعل الحج وسيلة إلى اقتناص الدنيا ونيل شيء من حطامها ليس إلا، ومن أمثلة ما قد يقع من هذا الباب: أن يتكسب الحاج بحجه عن غيره؛ فهمته ليست منصرفة إلى نفع أخيه، والاستعانة بما يعطاه على بلوغ تلك البقاع الشريفة، ونيل ثواب الصلاة والذكر والدعاء ثَمة؛ وإنما نيل الدراهم التي يكسبها من المُنيب، ولربما ماكسه في الجُعل قائلا: زدني؛ فإني سأتعب في الحج كثيرا! والله المستعان.
وهذه الحال كسابقتها في استحقاق المقت والعقوبة وحبوط الثواب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وجماع هذا أن المستحب أن يأخذ ليحج لا أن يحج ليأخذ, وهذا في جميع الأرزاق المأخوذة على عمل صالح؛ فمن ارتزق ليتعلم أو ليُعلم أو ليُجاهد فحسن ... وأما من اشتغل بصورة العمل الصالح لأن يرتزق فهذا من أعمال الدنيا؛ ففرق بين من يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة, ومن تكون الدنيا مقصوده والدين وسيلة, والأشبه أن هذا ليس له في الآخرة من خلاق))([12]).
وقال رحمه الله: ((قال الإمام أحمد: ما أعلم أحداً كان يحج عن أحد بشيء، ولو كان هذا عملاً صالحاً لكانوا إليه مبادرين, والارتزاق بأعمال البر ليس من شأن الصالحين))([13]).
وقال ابن القيم رحمه الله: ((ونحن نمنع من أخذ الأجرة على كل قربة، ونحبطها بأخذ الأجرة عليها ... فلا يليق بمحاسن الشرع أن يجعل العبادات الخالصة له معاملات تقصد بها المعاوضات والأكساب الدنيوية))([14]).
وقد مضى ذكر الحديث: (... فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب)، والله عز ذكره يقول: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)هود: 15-16 ، وهذه الآية قيل إنها في الكفار, وقيل إنها في المسلمين, وأكثر المفسرين على أنها في جميع الخلق([15]).
وعلى القول بأنها في الكفار؛ فلا شك في أن من شاركهم في فعلهم فله نصيب منها([16]).
ويقرب من هذه الآية في الدلالة قوله سبحانه: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ )الشورى: 20، وقوله: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا )الإسراء: 18.
قال ابن القيم رحمه الله: ((فهذه ثلاثة مواضع من القرآن يشبه بعضها بعضاً, ويصدق بعضها بعضاً, وتجتمع على معنى واحد؛ وهو أن من كانت الدنيا مراده ولها يعمل في غاية سعيه لم يكن له في الآخرة نصيب, ومن كانت الآخرة مراده ولها عمل وهي غاية سعيه فهي له))([17]).
ولا يدخل في هذا الحكم: قصد الاتجار أثناء الحج؛ فهذا قد جاء الإذن فيه في قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ )البقرة:198، وعليه فلا حرج في هذا القصد إذا كان الباعث الأعظم الإرادة الدينية؛ لا سيما وأن التكسب ليس راجعاً إلى أعمال الحج ومناسكه, وإنما هو أمرٌ مصاحب لها؛ فهذا من باب تداخل نيتين: شرعية، ومأذون فيها.
أسأل الله تعالى أن يجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهه خالصة، وأن لا يجعل لأحد فيها شيئا.
وصلى الله على نبينا محمد وأزواجه وذريته وسلم تسليما كثيرا.

كتبه: صالح بن عبد العزيز بن عثمان سندي
عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة بالجامعة الإسلامية بالمدينة


( [1] ) تيسير الكريم الرحمن (539).
( [2] ) مفتاح دار السعادة (1/304).
( [3] ) مدارج السالكين (2/93). وانظر: النبوات (1/416).
( [4] ) أخرجه النسائي في السنن (6/25) من حديث أبي أمامة الباهلي t، وجوَّد إسناده ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/81).
( [5] ) أخرجه أحمد في مسنده (35/146) ، وابن حبان في صحيحه (2/132) من حديث أبيّ بن كعب t، وقال الهيثمي في المجمع (10/223): رجاله رجال الصحيح. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (16).
( [6] ) روي من حديث أنس وابن عباس وبشر بن قدامة رضي الله عنهم بألفاظ متقاربة وطرق متعددة، أخرجها الترمذي في الشمائل (191)، وابن ماجه (2890)، والبيهقي في السنن (4/332) وغيرهم، وفي إسناد كل منها ضعف، ومن أهل العلم من صححه بمجموع طرقه، انظر: السلسلة الصحيحة (2617).
( [7] ) أخرجه أحمد في مسنده (39/39) من حديث محمود بن لبيد t، وجوَّد إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (1/34).
( [8] ) أخرجه ابن ماجه (2/1406)، وأحمد (11/354-355) من حديث أبي سعيد الخدري t، وحسنه البوصيري في مصباح الزجاجة (3/296).
( [9] ) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (2/67) من حديث محمود بن لبيد t، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (17).
( [10] ) أخرجه مسلم ( 18/326) من حديث أبي هريرة t.
( [11] ) الاختيارات (90).
( [12] ) مجموع الفتاوى (26/19- 20)، ونحوه في الاختيارات (223). وانظر: مجموع الفتاوى (30/207).
( [13] ) مجموع الفتاوى (26/19).
( [14] ) الروح (325).
( [15] ) انظر: المحرر الوجيز (935)، وزاد المسير (649)، والجامع لأحكام القرآن (9/11)، وعدة الصابرين (163)، وروح المعاني (12/315).
( [16] ) انظر: القول المفيد (10/723).
( [17] ) عدة الصابرين (166).