وتأخر النبي وحبس معه أبا بكر – كما تقدم- وعليًا أيضًا ليؤدي الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله ليس بمكة أحد عنده شيء يُخشىٰ عليه إلا وضعه عنده، لِمَا يَعلم من صدقه وأمانته ([1]).
ثم استعد النبي صلى الله عليه وسلم للهجرة ومعه الصديق أبو بكر رضي الله عنه.
وتعود بداية هذه الرحلة المباركة عندما كان أبو بكر جالسًا في بيته وقت الظَّهِيرَةِ، فقَالَ له قَائِلٌ: هَذَا رَسُولُ الله مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أبي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ، قَالَتْ عائشة: فَجَاءَ رَسُولُ الله فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ لِأبي بَكْرٍ: «أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ»، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأبي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ رسول الله : «فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ»، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ بِأبي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ رَسُولُ الله : «نَعَمْ»، قَالَ أبو بَكْرٍ: فَخُذْ بِأبي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله إِحْدَىٰ رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَ رَسُولُ الله : «بِالثَّمَنِ»، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُم َا أَحَثَّ الْجِهَازِ وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بنتُ أبي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَىٰ فَمِ الْجِرَابِ فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ، قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ الله وَأبو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عبد الله بن أبي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّىٰ يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَىٰ عَلَيْهِمَا عَامِرُ بن فُهَيْرَةَ مَوْلَىٰ أبي بَكْرٍ مِنْحَةً([2]) مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا[3] حَتَّىٰ يَنْعِقَ([4]) بِهَا عَامِرُ بن فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ([5]).
وفي تلك الأثناء تفطَّن المشركون أن رسول الله وأبا بكر قد خرجا فأخذوا يبحثون عنهما في كل مكان حتىٰ وصلوا إلىٰ الْغَارِ وهما فيه، ثم قربوا منه بشدة حتىٰ إن أبا بكر سمع صرير أقدامهم حول الغار فرفع رأسه فَإِذَا هو بِأَقْدَامِ الْقَوْمِ فقال: يَا رسول الله لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنَا، قَالَ: «اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ اثْنَانِ الله ثَالِثُهُمَا»([6]).
ثم اسْتَأْجَرَ رَسُولُ الله وَأبو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بني الدِّيلِ وَهُوَ مِنْ بني عبد بن عَدِيٍّ([7]) هَادِيَا خِرِّيتًا – وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ- قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بن وَائِلٍ السَّهْمِيِّ وَهُوَ عَلَىٰ دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَ ا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِ مَا صُبْحَ ثَلَاثٍ([8]).
ثم انتظروا حَتَّىٰ قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ وَخَلَا الطَّرِيقُ لَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ([9]).
فانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بن فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ([10]).
يقول أبو بكر : فأَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا كُلَّهَا حَتَّىٰ قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ وَخَلَا الطَّرِيقُ فَلَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ حَتَّىٰ رُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا ظِلٌّ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ بَعْدُ فَنَزَلْنَا عِنْدَهَا فَأَتَيْتُ الصَّخْرَةَ فَسَوَّيْتُ بِيَدِي مَكَانًا يَنَامُ فِيهِ النَّبِيُّ فِي ظِلِّهَا ثُمَّ بَسَطْتُ عَلَيْهِ فَرْوَةً، ثُمَّ قُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ الله! وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ مُقْبِلٍ بِغَنَمِهِ إِلَىٰ الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا الَّذِي أَرَدْنَا فَلَقِيتُهُ فَقُلْتُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ؟ فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قُلْتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَفَتَحْلُبُ لِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَخَذَ شَاةً، فَقُلْتُ لَهُ: انْفُضْ الضَّرْعَ مِنْ الشَّعَرِ وَالتُّرَابِ وَالْقَذَىٰ فَحَلَبَ لِي فِي قَعْبٍ مَعَهُ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، قَالَ: وَمَعِي إِدَاوَةٌ أَرْتَوِي فِيهَا لِلنَّبِيِّ لِيَشْرَبَ مِنْهَا وَيَتَوَضَّأَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ وَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ مِنْ نَوْمِهِ فَوَافَقْتُهُ اسْتَيْقَظَ فَصَبَبْتُ عَلَىٰ اللَّبَنِ مِنْ الْمَاءِ حَتَّىٰ بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله اشْرَبْ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ فَشَرِبَ حَتَّىٰ رَضِيتُ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ؟»، قُلْتُ: بَلَىٰ، قَالَ: فَارْتَحَلْنَا بَعْدَمَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بن مَالِكٍ، قَالَ: وَنَحْنُ فِي جَلَدٍ مِنْ الْأَرْضِ([11])، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أُتِينَا فَقَالَ: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا»، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ الله فَارْتَطَمَتْ – ساخت- فَرَسُهُ إِلَىٰ بَطْنِهَا فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ، أَنَّكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ فَادْعُوَا لِي فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ فَدَعَا الله فَنَجَا([12]).
فلما نجا سراقة قصَّ علىٰ رسول الله أخبار قريش وأنهم جعلوا فيه الدِّيَةَ، وَأَخْبَرَهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ منهِمْ ثم عَرَضْ علىٰ النبي الزَّادَ وَالْمَتَاعَ يقول سراقة: فَلَمْ يَرْزَآنِي، وَلَمْ يَسْأَلَانِي إِلَّا أَنْ قَالَ: أَخْفِ عَنَّا، فَسَأَل سراقة النبي أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ فَأَمَرَ عَامِرَ بن فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ([13]).
ثم وفىٰ سراقة بما وعد به رسول الله - حيث وعده أن يرد عنهما الطلب- فكان لَا يَلْقَىٰ أَحَدًا إِلَّا قَالَ: قَدْ كَفَيْتُكُمْ مَا ههُنَا فَلَا يَلْقَىٰ أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ([14]).
وكان من شأن سراقة أنه كان جالسا فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمه بني مُدْلِجٍ يقول سراقة: فأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّىٰ قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ([15]) الْأَرْضَ وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ([16]) حَتَّىٰ أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حَتَّىٰ دَنَوْتُ مِنْهُمْ فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَىٰ كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ تُقَرِّبُ بِي حَتَّىٰ إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ الله وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ وَأبو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ حَتَّىٰ بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ فَخَرَرْتُ عَنْهَا ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ([17]) سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ فَوَقَفُوا فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّىٰ جِئْتُهُمْ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنْ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ الله ([18]).
ثم ذكر سراقة الحوار الذي دار بينه وبين النبي .
ثم مضىٰ رسول الله فلقي في الطريق الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارًا قافلين من الشام فكسا الزبيرُ رسولَ الله وأبا بكر ثياب بياض.
ومرَّ النبيُ وأبو بكر ومولىٰ أبي بكر عامر بن فهيرة ودليلهما الليثي عبد الله بن أريقط علىٰ خيمتي أم معبد الخزاعية وكانت امرأة برزة([19]) جلدة تحتبي بفناء الخيمة ثم تسقي وتطعم فسألوها لحمًا وتمرًا ليشتروا منها فلم يصيبوا عندها شيئًا من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين فنظر رسول الله إلىٰ شاة في كسر الخيمة فقال: «ما هذه الشاة يا أم معبد» قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم قال: «هل بها من لبن» قالت: هي أجهد من ذلك، قال: «أتأذنين لي أن أحلبها» قالت: بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها، فدعا بها رسول الله فمسح بيده ضرعها وسمىٰ الله تعالىٰ ودعا لها في شاتها فتفاجت عليه ودرت فاجترت فدعا بإناء يَرْبِضُ الرهطَ([20]) فحلب فيه ثجًا([21]) حتىٰ علاه البهاء، ثم سقاها حتىٰ رويت وسقىٰ أصحابه حتىٰ رووا وشرب آخرهم حتىٰ أراضوا ثم حلب فيه الثانية علىٰ هدة حتىٰ ملأ الإناء، ثم غادره عندها ثم بايعها وارتحلوا عنها، فقل ما لبثت حتىٰ جاءها زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا عجافًا يتساوكن هزالاً مخهن قليل، فلما رأىٰ أبو معبد اللبن أعجبه، قال: من أين لك هذا يا أم معبد والشاء عازب([22]) حائل([23]) ولا حلوب في البيت؟ قالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا قال: صفيه لي يا أم معبد ، قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة أبلج الوجه([24]) حسن الخلق لم تَعِبْهُ ثَجْلَةُ([25]) ولم تزريه صعلة([26]) وسيم قسيم([27])، في عينيه دعج([28]) وفي أشفاره وطف([29]) وفي صوته صهل([30]) وفي عنقه سَطَع([31])، وفي لحيته كثاثة([32])، أزج([33]) أقرن([34]) إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحسنه وأجمله من قريب، حلو المنطق فصلاً لا نَزْرٌ ولا هَذَرٌ([35])، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة([36]) لا تشنأه من طول ولا تقتحمه عين من قصر غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرًا وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفون به إن قال سمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلىٰ أمره، محفود محشود([37])، لا عابس ولا مفند([38])، قال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر، ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلىٰ ذلك سبيلاً، وأصبح صوت بمكة عاليًا يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه وهو يقول:
جزىٰ اللهُ ربُّ الناسِ خيرَ جزائهِ
رَفيقينِ حَلَّا خيمتي أمِّ مَعبد
هما نزلاها بالهدىٰ واهتدت به
فقد فاز من أمسىٰ رفيق محمد
فيا لـقصي ما زوىٰ الله عنكم
به من فعال لا تجازىٰ وسؤدد
لِيَهْنِ أبا بكر سعادةُ جدِّهِ
بصحبته من يُسْعِدُ اللهُ يسعد
ولْيهَنِ بني كعب مقام فتاتهم
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
ودعاها بشاة حائل فتحلبت
عليه صريًا ضرة الشاة مزبد
فغادره رهنًا لديها لحالب
يرددها في مصدر بعد مورد([39])
ثم مضىٰ النبي هو وأبو بكر فَالْتَفَتَ أبو بَكْرٍ فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ قَدْ لَحِقَهُمْ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله هَذَا فَارِسٌ قَدْ لَحِقَ بنا فَالْتَفَتَ نَبِيُّ الله فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ» فَصَرَعَهُ الْفَرَسُ ثُمَّ قَامَتْ تُحَمْحِمُ([40])، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ الله مُرْنِي بِمَا شِئْتَ قَالَ: «فَقِفْ مَكَانَكَ لَا تَتْرُكَنَّ أَحَدًا يَلْحَقُ بنا» قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَىٰ نَبِيِّ الله وَكَانَ آخِرَ النَّهَارِ مَسْلَحَةً لَهُ([41]).
وكان النبي قد أشرف علىٰ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ، وَأبو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ وَنَبِيُّ الله شَابٌّ لَا يُعْرَفُ([42]) قَالَ: فَيَلْقَىٰ الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ، فَيَقُولُ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ، قَالَ: فَيَحْسِبُ الْحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الْخَيْرِ([43]).
وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ الله مِنْ مَكَّةَ فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَىٰ الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَ هُ حَتَّىٰ يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ فَلَمَّا أَوَوْا إِلَىٰ بُيُوتِهِمْ أَوْفَىٰ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَىٰ أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ([44]) لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَبَصُرَ بِرَسُولِ الله وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ([45]) يَزُولُ بِهِمْ السَّرَابُ([46]) فَلَمْ يَمْلِكْ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَىٰ صَوْتِهِ: يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمْ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ([47]) فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَىٰ السِّلَاحِ فَتَلَقَّوْا رَسُولَ الله بِظَهْرِ الْحَرَّةِ([48]).
([1]) السابق.
([2]) تطلق على الشاة، أو الناقة، وأصلها الهبة.
([3]) رضيف: على وزن: رغيف، أي: اللبن المرضوف، وهو الذي وضعت فيه الحجارة المحماة بالشمس أو النار؛ لينعقد وتزول رخاوته.
([4]) ينعق: أي: يصيح بغنمه كي تنزجر وتسير.
([5]) صحيح: أخرجه البخاري (3905)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي وأصحابه إلىٰ المدينة، وأحمد 6/198.
لقنٌ ثقِف: أي حسن الاستماع لما يقال، سريع الفهم، الدلجة: السير أول الليل، المنيحة: الناقة، رسْل: اللبن الطري، خريتًا: دليلاً.
([6]) متفق عليه: أخرجه البخاري (3922)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي وأصحابه إلىٰ المدينة، مسلم (2381)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر.
([7]) هو عبد الله بن أُريقط.
([8]) صحيح: أخرجه البخاري (3905)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي وأصحابه إلىٰ المدينة، أحمد 6/198.
([9]) متفق عليه: أخرجه البخاري (3917)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي وأصحابه إلىٰ المدينة، مسلم (2009)، كتاب: الزهد، باب: في حديث الهجرة ويقال له حديث الرحل.
([10]) صحيح: أخرجه البخاري (3905)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي وأصحابه إلىٰ المدينة، أحمد 6/198.
([11]) أرض جلْدة: أي أرض صُلبة. (النهاية).
([12]) متفق عليه: أخرجه البخاري (3917)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي وأصحابه إلىٰ المدينة، مسلم (2009)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: في حديث الهجرة ويقال له حديث الرحل.
([13]) صحيح: أخرجه البخاري (3906)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي وأصحابه إلىٰ المدينة.
([14]) متفق عليه: انظر: التخريج قبل السابق.
([15]) الزُّج: الحديدة التي في أسفل الرمح.
([16]) أي: خفض أعلى الرمح، وإنما فعل ذلك لئلا يظهر بريقُ الرمح، فيتبعه أحد فيشاركه في الجعالة؛ وقد صَرح بذلك كما في رواية الحسن عند ابن أبي شيبة: وجعلت أجر الرمح مخافة أن يشركني أهلُ الماء فيه.
([17]) دخان.
([18]) صحيح: أخرجه البخاري (3906)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي وأصحابه إلىٰ المدينة.
([19]) يقال: امرأة بَرْزَةَ؛ إذا كانت كهلة لا تحتجب احتجاب الشواب؛ من البروز وهو الظهور والخروج.
[20]) فدَعا بإناءٍ يُرْبِضُ الرَّهْطَ: أَيْ يُرْوِيهِمْ وَيُثْقِلُهُمْ حَتَّى يَنَامُوا وَيَمْتَدُّوا عَلَى الْأَرْضِ. مِن رَبَضَ فِي الْمَكَانِ يَرْبِضُ إِذَا لَصِقَ بِهِ وَأَقَامَ مُلازِماً لَهُ. (نهاية).
([21]) ثَجّاً: أَيْ: لَبناً سَائِلًا كَثِيرًا. (نهاية).
([22]) عازب: بعيدة المرعى.
([23]) حائل: لم تلد.
([24]) مستنير الوجه.
([25]) لم تَعِبْهُ ثَجْلَةُ: ليس بكبير البطن.
([26]) ولم تزريه صعلة: ليس بصغير الرأس.
[27]) قَسِيمٌ وسِيمٌ: أي: جميل حسن الوجه، والقَسامة: الحُسْن. ورَجلٌ مُقَسَّم الوَجْه:
أَيْ جميلٌ كلُّه، كَأَنَّ كلَّ مَوْضِعٍ مِنْهُ أخَذَ قِسْماً مِنَ الجَمال. (نهاية).
([28]) الدعج: شدَّة سَواد الحدقة، وَسمي اللَّيْل أدعج لسواده. (جمهرة اللغة).
([29]) وَفِي أشْفارِه وَطَفٌ: أى فى شفر أَجْفَانه طُولٌ. (نهاية).
([30]) وَفِي صَوْته صَهَل أو: صَحَلٌ: هُوَ بِالتَّحْرِيكِ كالبُحَّة، وَأَلَّا يَكُونَ حَادَّ الصَّوْت. (نهاية).
([31]) وَفِي عُنُقه سَطَعَ: أَي طول. (غريب الحديث) لابن قتيبة.
([32]) كَثُّ اللِّحْيَة: الكثاثَة فِي اللِّحْيَة: أن تكون غير رقيقة وَلَا طَوِيلَةٍ، وَ لكن فِيهَا كَثَافة. (نهاية).
([33]) أَزَجُّ: يقال: أزج الحَواجب؛ والزَّجَجُ: تَقَوُّس فِي الْحَاجِبِ مَعَ طُول فِي طَرَفه وامْتدَاد. (نهاية).
([34]) أَقْرَن: أَيْ: مَقْرُون الحاجبَيْن، القَرَن- بِالتَّحْرِيكِ- الْتِقاء الحاجِبَين. (نهاية).
وقد ورد عند الطبراني في ((الكبير)) 22/155، والبيهقي في ((الشعب)) (1362)، عن هند بن أبي هالة: (سَوابغَ فِي غَيْرِ قَرَن)، قال ابن قتيبة (غريب الحديث): ((سوابغ فِي غير قرن: والقرن أَن يطول الحاجبان حَتَّى يلتقي طرفاهما وَهَذَا خلاف مَا وَصفته بِهِ أم معبد لِأَنَّهَا قَالَت فِي وَصفه: أَزجّ أقرن، وَلَا أرَاهُ إِلَّا كَمَا ذكر ابْن أبي هَالة
وَقَالَ الْأَصْمَعِي كَانَت الْعَرَب تكره الْقرن وتستحب البلج والبلج أَن يَنْقَطِع الحاجبان فَيكون مَا بَينهمَا نقيا))، وقال ابن الأثير (نهاية): ((وَهَذَا خِلَافُ مَا رَوَت أُمُّ مَعْبَد، فَإِنَّهَا قَالَتْ فِي صِفَته: «أزَجّ أَقْرَن» أَيْ: مَقْرُون الحاجبَيْن، وَالْأَوَّلُ الصَّحِيحُ فِي صِفته)).
([35]) فَصْلٌ لَا نزْرٌ وَلَا هَذَرٌ: النَّزْرُ: الْقَلِيلُ. أَيْ لَيْسَ بقليلٍ فيدُلَّ عَلَى عِيّ، وَلَا كثيرٍ فَاسِدٍ. (نهاية).
([36]) رِبْعَةٌ: أي: بين القصير والطويل.
([37]) المَحْفُود: الَّذِي: يَخْدِمُه أَصْحَابُهُ ويُعَظِّمُونه ويُسْرِعون فِي طاعَتِه.
مَحْشُودٌ: أَيْ: أنَّ أَصْحَابَهُ يَخْدِمونه ويَجْتَمِعُون إِلَيْهِ. (نهاية).
([38]) العَابِس: الكَرِيهُ المَلْقَى، والمفند: الذي لا فائدة في كلامه. (نهاية).
([39]) حسن: الحاكم 3/9، 10، وحسنه الألباني، تخريج «فقه السيرة» (179).
([40]) الحمحمة: صوت الفرس دون الصهيل (نهاية).
([41]) صحيح: أخرجه البخاري (3911)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي وأصحابه إلىٰ المدينة، وقيل: هذا الفارس هو سراقة بن مالك فالقصة واحدة. والله أعلم.
([42]) أي من حيث الشيب، فالشيب كان قد دخل علىٰ أبي بكر دون رسول الله ، فكان رسول الله - وهو الأكبر سنًا- يظهر كأنه شاب.
([43]) الحديث السابق.
([44]) الأطم: الحصن.
([45]) أي عليهم الثياب البيض.
([46]) قيل معناه ظهرت حركتهم للعين «فتح الباري».
([47]) جدكم: بفتح الجيم أي حظكم وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه (فتح).
([48]) صحيح: أخرجه البخاري (3906)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي وأصحابه إلىٰ المدينة.