الجزء ( 2)

أخواتي الكريمات ..
عندما يتحدث المتحدث عن الوالدين فلن تُحيط العباراتُ بما يريد قوله، ولن يجد لغةً تفي بالمعاني التي تعتلج في صدره، وسيظل البيانُ عاجزا عن وفائهما حقهَّما ..
ولعلي أقف مع حال سلفنا مع والديهم لنقبس من نورهم . فهذا أبوهريرة رضي الله عنه إذا أراد أن يخرج من دار أمه وقف على بابها فقال: السلام عليك يا أماه ورحمةُ الله وبركاته، فتقول: وعليك يا بنيَّ ورحمةُ الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً، فتقول: ورحمك الله كما سررتني كبيراً، ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك.
يالله !! ما هذا الخلق ؟! ما هذا الأدب ؟! ماهذا الرقي ؟!
عرفوا عظيم حقهم فكانوا بهذه المثابة .
وما قصةُ الثلاثةِ الذين أُطبق عليهم الغارُ فلم يستطيعوا الخروجَ منه عنا ببعيد .. فقد قال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعله يفرج عنا فقال أحدهم: ((اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى لهم، فإذا رجعت إليهم، فحلبت، بدأت بوالدي اسقيهما قبل ولدي، وإنه قد نأى بي الشجر (أي بعد علي المرعى) فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغَون عند قدمي (أي يبكون)، فلم يزل ذلك دَأْبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ففرّج الله لهم حتى رأوا السماء)).
وهل أتاكن - أخواتي الكريمات - نبأ أويسِ بن عامر القرني؟
ذاك رجل أنبأ النبي بظهوره، وكشف عن سناء منزلته عند الله ورسولِه، وأمر البررة الأخيار من آله وصحابته بالتماس دعوته وابتغاءَ القربى إلى الله بها، وما كانت آيته إلا بِرُّه بأمِّه، ففي الحديث الذي أخرجه مسلم: كان عمر إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم، أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس بن عامر فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد؟ قال: نعم، قال: كان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به أثر برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بارٌ بها، لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)). فاستغفر لي، فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي.
الله أكبر .. لم يرد الدنيا والرفعة!! وقد جاءته بين يديه ، فأبى واكتفى أن يكون في غبراء الناس بل واختفى .
هكذا البر .. هكذا الإخلاص ..
وعن أصبغَ بنِ زيد، قال: إنما منع أويساً أن يَقدم على النبي برُّه بأمه !
وهذا محمد بن سيرين إذا كلم أمه كأنه يتضرع !!
وقال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فقال: ما شأن محمد أيشتكي شيئاً؟ قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه.
وهذا أبو الحسن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة، فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها.
وهذا حيوة بن شريح، وهو أحد أئمة المسلمين والعلماء المشهورين، يقعد في حلقته يعلم الناس ويأتيه الطلاب من كل مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: قم يا حيوة فاعلف الدجاج، فيقوم ويترك التعليم.
هذه أخواتي في الله .. بعض نماذج بر السلف بآبائهم وأمهاتهم، فلنقتدي إخواتي في الله بهذه النماذج .
ألا ما أشدَّ خطيئة َ تلك الفتاة التي أبكت والدتها، وخالفت أمرها، وحرّقت فؤادها!
إذا أمرتها بعمل البيت ، أو أشارت عليها بما فيه مصلحتُها إذ بها لا تقيم لها وزنا ! وتتحجج بوجود الخادمة في البيت أو غير ذلك !
وعندما تأمرها صديقتها تجدها مقبلة بشوشة مطواعة ! !
ثم بعد أن تقرر في النفوس عظيمُ حق الوالدين ولزومُ طاعتهما بين الله تعالى أن طاعتما ليست مطلقة؛ ف(إن جاهداك على أن تُشرك بي ماليس لك به علم فلا تُطعهما) وهذا مبدأ مهم في الثبات على القيم رغم شدة التغيرات، فالواجب البر والإحسان للوالدين والطاعة إلا أن أمراكِ بالشرك والمعصية فحينئذ لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وهذا لا يمنع من القيام بحقهما ولو دعوكِ إلى الشرك ( وصاحبهما في الدنيا معروفا) ومثل هذا المبدأ :( مبدأ الممانعة أمام دعوات الضلال) نحتاجه اليوم أشد الحاجة ، حيث يواجه المسلمون اليوم حربا ضروسا على القيم والمبادئ والدين، عبر مختلف الوسائل، ويُصوَّر المتمسك بدينه على أنه متطرف ومتشدد، أو على أن الدين قيد وغِل يمنع من عِمارة الحياة والقيام بنهضة المجتمعات .
ولم يُكلِّف هؤلاء أنفسهم في البحث في التاريخ والواقع ليجدوا أن الإسلام الذي يطعنون فيه هو الذي رفع العرب يوم لم يكن لهم ذِكر ومجد في الجاهلية ، بل وأقام حضاراتٍ لا يُمكن للتاريخ أن ينساها، وهذا ماشهد به القوم أنفسهم ، كما قال آيزونهاور الرئيس الأمريكي الرابع الثلاثون للولايات المتحدة الأمريكية في خطابه الشهير الذي ألقاه على شعبه حينها واعترف بأن العرب (ويعني المسلمين طبعا) هم منطلق كثير من الكشوفات العلمية في شتى المجالات وهي التي بنت حضارة الغرب اليوم !
وإنني أوصي كلّ مهتم بهذا الشأن بمطالعة كتاب ( فضل العرب على الإنسانية ) الذي ألفه ( روبرت بريفال ) ، وسيبهركم في هذا الكتاب الصغير أن تجدوا أن العرب هم وحدَهم الأساتذة الذين علَّموا أوربا مالم تكن تعلم، حتى لتحسبوا أن ازدهار أوربا الآن هو التكملة الطبيعية والامتداد العادي لرقي العرب الأوائل، وطولِ باعهم في شؤون العُمران وأصول الحياة !
وإن انحطاط المسلمين الآن هو التكملة التبعية والامتداد العادي لجهالة أوربا القديمة وقصورها الفكري والاجتماعي !
ولاغروَ فإن المسلمين من قرون طوال لم يُقدِّروا النعمة التي حبتهم بها مقادير الله فعبِثوا بالإسلام ، وزاغوا عن هديه ، وناموا في ضحاه الغامر ؛ كأولاد الغني الذين ورثوا كنوزه دون كدح، ثم شرعوا يبعثرونها بسفه!
ولذا علينا أن نعود إلى اتّباع سلف الأمة الصالح كما أمر الله تعالى بقوله ( واتبع سبيل من أناب إلي )، وهذا أيضا هو معنى دعاء المؤمنين الذين امتدحهم الله حين دعوه ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) قال ابن عباس ومجاهد: واجعلنا متبعين لمن سبقنا، مهتدين بهديهم . وهذا يؤكد أن الاتباع لأئمة الهدى هو طريق الإمامة ، ولذا فهذا التفسير لابن عباس رضي الله عنه أعم من قول من فسر ( واجعلنا للمتقين إماما) أي : اجعلنا نحن أئمة للمتقين .
وفي وصايا لقمان لابنه ( يابني إنها إن تك مثقالَ حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير )
هذه الآية الكريمة تدل على سعة علم الله وقدرته، فلو أن حبةَ خردلٍ صغيرة جدا كانت داخل صخرة أو في السموات أو في الأرض لأتى بها اللهُ القدير جل وعلا ..
وهذه الإحاطة هي بمعنى ( وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء ومالكم من دون الله من ولي ولانصير )
فالأمور إلى الله مُفضية، والسر عنده علانية ، وقد نقل أن الإمام أحمد كان يحب أن يتمثل بهذه الأبيات :
إذا ما خلوتَ الدهر يوما فلا تقل
خلوتُ ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
ولا أن ماتخفيه عنه يغيب

ثم قال تعالى ( يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وأصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور )
هنا انتقل لقمان من تعليم ابنه أصول العقيدة إلى تعليمة أصول الأعمال الصالحة ، فابتدأ بـ :
1- إقامة الصلاة .
2- شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
3- الصبر على مايصيب المؤمن في طريق الحق.
ثم قال لقمان ( ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور )
هنا يعلمه الأدبَ والذوق فينهاه عن تصعير الخد للناس وهو كناية عن احتقارهم
وينهاه عن أن يمشي بينهم مَرحا أي : تكبرا وترفعا .
وهذا فيه درس لمن أنعم الله عليه أن لا يشمخ بأنفه على الناس، وأن يتواضع لهم، ويلين الجانب لهم، فهذه علامة التوفيق .
وخصوصا لمن له ولا ية على من تحته كاالمسؤولة والمعلمة ونحوهن .
ثم ختم هذه الوصايا بقول ( واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير )
القصد في المشي أن يكون بين طرف التبختر وطرف الدبيب .
وقد نقل عن عائشة أن رأت شبابا يمشون متماوتين ببطئ وتخشع متكلف فقالت: مابالهم . قال : هؤلاء نساك يعني هذا من أثر الصلاح .. فتعجبت وقالت: لو كان عمرا حيا لعلاهم بالدِّرة !!
والنبي كان إذا مشى فكأنه ينحدر من صبب .
وأيضا ( واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) وهذا من اهتمام القرآن الكريم بالذوق والأدب .
نفعني الله وإياكم بكتابه، والحمد لله أولا وآخرا.

أبو زياد التميمي
moabt1982@gmail.com