وهي مسألة التوفي في حق عيسى عليه السلام في قوله تعالى: "إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ

فاستدل النصارى بهذه الآية على أن عيسى قُتل وصُلب، ثم بعد ثلاثة أيام قام ورُفع إلى السماء، قالوا: فالآية فيها الوفاة أولا وهو الموت، ثم الرفع بعد ذلك.
والمراد بالتوفي في الآية معناه العرفي أو معناه اللغوي.
فالصواب الذي لا مِرية فيه: أن المراد بالتوفي قبْضُه وأخْذُه بروحه وجسده ورفعه إلى السماء، وهذا هو المعنى اللغوي للتوفي، وليس المراد بالتوفي معناه العرفي، وهو قبض الروح من الجسد، وإنما قدّم المعنى اللغوي على المعنى العرفي هنا على خلاف الأصل عند جمهور الأصوليين؛ لأنه دلت عليه السنة المتواترة.
وظاهر القرآن على أن عيسى عليه السلام رُفع إلى السماء وهو حي؛ فإن الله -تعالى- قال:
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ إلى قوله: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ .
أما عطف الرفع على التوفي في الآية إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ فيجاب عنه بأجوبة:
أن
"الواو" لا تقتضي الترتيب ما لم يدل على الترتيب دليل خارجي، وإنما تقتضي الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، وقد يكون الثاني قبل الأول، كقوله تعالى: وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ ونبينا بعد نوح بدهور وأزمان، فكذلك هنا الرفع قبل التوفي الذي هو قبض الروح من الجسد، ثم التوفي بعد النزول إلى الأرض في آخر الزمان.
وهو لم يقل: إني متوفيك الآن، ويدل لذلك ظاهر القرآن أن عيسى لم يمت ولم يقتل ولم يصلب كما قال تعالى:
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وقوله: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وقوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أي: يؤمنن بعيسى قبل موت عيسى والله -تعالى- لم يقل: إني متوفيك الآن، بل أخبر أنه متوفيه وهو صادق.
فهذا الجواب الأول أن التوفي قبض الروح من الجسد، لكن الرفع إلى السماء قبل الوفاة، والوفاة بعد النزول من السماء، و
"الواو" لا تقتضي الترتيب.
أن المراد بالتوفي: قبضه بروحه وجسده ورفعه إلى السماء، وهذا هو المعنى اللغوي للتوفي: أن المراد بالتوفي في الآية: النوم، والمعنى: أن الله أنامه وألقى عليه النوم، ورفعه وهو نائم لئلا يستوحش من رفعه في حال اليقظة، فبالنوم تزول الوحشة.
والنوم يسمى وفاة، قال الله تعالى
: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا .
فهذه ثلاثة أجوبة معروفة لأهل العلم في الآية.