الحياة كتاب مفتوح ، تخط سطوره الأيام ، ترسم احداثا وتمحو احداثا. والعاقل من يقرأ كلمات هذا الكتاب بتمعن وتدبر ،يستلهم منها العبر ويستنبط الحكم. والمتأمل في حركة الانسان والمجتمع البشري يرى البشر في مفاهيمهم وسلوكهم أنواعا شتى، منهم من يعيش لذاته وهو منغلق على أنانيته ،يريد ان يجمع العالم في زاويته الضيقة. أمثال هؤلاء يمرون على الدنيا لا يتركون فيها أثرا ولا يجنون منها ثمرة.
وآخرون يرون السعادة في العطاء ويعلمون علم اليقين أن سعادة المرء في لحظات البذل أعظم بكثير من لحظات الأخذ ويدركون تلك النشوة الروحية التي تملأ أفئدتهم عندما يرسمون على وجوه الآخرين ابتسامة السعادة والرضا .
هذا مما تعلمته من دنيا التربية التي امضيت فيها عمري معلما واداريا لقد علمتني الحياة أن التربية رسالة، وما أشقى من ظن أن التربية مهنة كسائر المهن ! لأنه سيمضي حياته متحسرا على نفسه وايامه كلما نظر إلى غيره ممن يمتهنون الأعمال المربحة أو يتعاطون التجارة المثرية .
أما من أيقن أن التربية رسالة حملها الأنبياء والمصلحون وتوارثها العظماء والحكماء، فسبيله الرضا ، وشعوره الرضا ، ولن ينال من الآخرين إلا المحبة والرضا ، وسينظر إلى نفسه وعمله نظرة إكبار لأنه في عمله التربوي يبني الإنسان ، أما الآخرون فيصنعون الجماد وهو يغذي العقول والأرواح أما الآخرون فيملئون الحسابات المصرفية ويكدسون الأموال وما أعظم الفرق بين مرب في رصيده أجيال ورجل في رصيده أموال .
لقد تعلمت من الحياة أن التربية تجدد ولا مكان فيها للجمود ، ولكني أدركت أيضا أن المتغيرات هي الأساليب والوسائل والتقنيات التي يدهشنا بها عصر التكنولوجيا الذي نعيشه وزمن الإنفتاح الذي صنعته وسائل الاتصالات الحديثه .
أما الثابت الذي لا يتغير فهو جوهر الإنسان وفطرته التي خلق عليها " فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ".
أما اللبيب فهو الذي يستثمر ما امكنه من تقنيات وابتكارات جاد بها عصر العلم فسلبت الأضواء وهفت إليها القلوب يستثمر كل هذا في بناء الإنسان واهدافه الكبرى ، يستثمر كل جديد ليرفع صرح الايمان والمثل العليا التي يحتاجها الانسان في زمن أرهقته المادية.لقد علمتني الحياة أن لا تريبة ولا تعليم بل لا انسنا ولا انسانية اذا سقطت المثل في هوة التفلت وفي براثن الاستهلاك . والغريب أن تكون التكنولوجيا بأشكالها المتعدة سلاحا يلهث ورائه كل مفسد في الأرض ثم يزهد بهذا السلاح المربون والمصلحون والمثقفون . وانا لا أغض الطرف عن المبادرات الطيبة التي توالت في الآونة الأخيرة في عالمنا العربي والتي استثمرت تقنيات الإتصالات سواء القنوات الفضائية أو الإنترنت - لتخاطب الشباب بروح تربوية مسؤولة وبأساليب متطورة ولكن كلنا يعلم أن الفرق يزداد اتساعا في عصرنا الراهن بين تقنيات الاصلاح وتقنيات الإفساد. لذلك نحن بحاجة لمزيد من الجهود التي تسعى لاستثمار العلم في تربية الإيمان .
لقد علمتني الحياة من خلال عملي الإداري أن روح التنافس تسري في الإنسان مسرى الدم في العروق و أن الإدارة الناجحة هي التي تجعل من هذه الروح طاقة اندفاع وحافزا يوجه العاملين نحو تنمية الذات وتطوير المؤسسة التي يعملون بها والشرط الأساس للوصول إلى هذه الغاية الترفع عن الأحقاد والتسامي عن العداوة والبغضاء ومنشأ هذه الأحقاد هو سحق الكفائات وطمس النجاحات وعدم إعطاء الفرصة لمن يستحقها .
يا حبذا لو علم لناس أن فسحة العمر أضيق من أن نمضيها بالخصام والأحقاد فلماذا لا نملئ صفحات أيامنا بالمحبة والتسامح ولو لا يكون تنافسنا في الخير والعطاء ، كما قا لسبحانه وتعالى " وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ".
لقد علمتني الحياة في صغري وكبري وفي عسري ويسري أن النجاح جهد انسناي يصونه توفيق الهي :
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده
وأول سبيل لنفوز بتوفيق الله وعونه بعد الإيمان هو رضا الوالدين . والله يعلم كم من الأزمات تجاوزت وكم من الصعاب تخطيت برضا والدتي ودعائها " وقضى ربك أن لا تعبدو إلا اياه وبالوالدين احسانا " فما استوصاني قريب ولا بعيد إلا واوصيته برضا الوالدين لأنها خير وصية علمتني اياها الحياة
المدير العام لثانوية روضة الفيحاء
محمد رشيد ميقاتي