البيئة وأثرها في التربية


من العوامل المؤثرة في تربية الناشئة – أيضا – البيئة، ويقصد بها: جميع العوامل الخارجية التي تؤثر في الكائن الحي من بدء نموه، أي من اللحظة التي يتم فيها الحمل، وهذه البيئة - كما يعرفها الباحثون - تشمل كل العوامل المحيطة بالإنسان: من مظاهر مادية، وأنماط حياتية، وأوساط اجتماعية وثقافية... إلخ.

وعلى هذا؛ فإن البيئة لا تقتصر على البيئة الاجتماعية التي تشمل النظم الاجتماعية التي تحيط بالفرد من المنزل والمدرسة والمهنة والشعائر الدينية والمعتقدات والأفكار والأعراف والرأي العام واللغة والأدب والفن والعلم والأخلاق فحسب؛ بل يمتد الحديث عن البيئة ليشمل جميع ما يحيط بالطفل منذ كونه جنينا في بطن أمه.

فالطفل وهو جنين في بطن أمه يشكل رحمُ الأم بالنسبة له بيئةً يتفاعل معها هذا الجنين وتؤثر هذه البيئة في تكوينه، فإذا ولد الطفل واجه ظروفا طبيعية واجتماعية ونفسية، وهذه بيئة أخرى بالنسبة للطفل.

فيتأثر الطفل بالبيئة الجغرافية التي تتمثل في المناخ وما تشتمل عليه الأرض ظاهرها وباطنها، وموقع البلد بالنسبة للجبال والأنهار والبحار والبحيرات وما يتصل بهذه الأمور، فإن هذا يؤثر تأثيرا كبيرا في ألوان الناس وجسومهم وعقولهم وأخلاقهم وميولهم وعاداتهم؛ «فمثلا سواد البشرة في سكان المناطق الحارة لم يكن طبيعيا في أصولهم، وإنما اكتسبوه اكتسابا تحت تأثير البيئة الجغرافية، وأصبح مع تقادم الزمن صبغة وراثية تتناقلها الفروع عن الأصول، وكانت بعض القبائل البُدائية في البيرو يغيرون أشكال رءوس أولادهم بعد ولادتهم بعمليات تدليكية خاصة، ومع تقادم الزمن أصبحت هذه الصفة وراثية، وأصبح نسلهم يولد مشوه الرأس».

وكذلك البيئة الاجتماعية العامة التي تتمثل في حضارة الأمة وتقاليدها ونظمها وعرفها العام، تكتنف الإنسان منذ نشأته، فتتجه بتربيته وجهة معينة، وتشكل ميوله وجسمه وعقله وخلقه تشكيلا خاصا يلائم طبيعته.

وهكذا يمكن القول بأن محددات النمو والشخصية الإنسانية إنما ترجع إلى تفاعل «العوامل الوراثية المختلفة مع عوامل البيئة، وتختلف صفات الفرد اختلافا بينا في مدى تأثرها بتلك العوامل المختلفة:

فالصفات التي لا تكاد تتأثر بالبيئة تسمى: الصفات الوراثية الأصلية، وأهمها: لون العين، ولون ونوع الشعر... إلخ.

والصفات التي تعتمد في جوهرها على البيئة، ولا تكاد تتأثر بالموروثات تسمى: صفات مكتسبة، ومن أهمها: الخلق والمعايير الاجتماعية والقيم.

والصفات التي ترجع في جوهرها إلى الوراثة، وتتأثر بالبيئة تأثرا يتفاوت في مداه بين الضعف والشدة، تسمى: صفات وراثية بيئية».

وقد أكدت الدراسات النفسية أن البيئة تؤثر تأثيرا كبيرا في الفرد، وتحدث تغييرات عميقة في سلوكه؛ ومن ثم فإنك قد تجد طفلين متساويين في الإمكانيات الجسمية والخصائص الذاتية، ومع ذلك ينموان بطريقة مختلفة تماما؛ بسبب اختلاف طبيعة البيئة التي نشأ فيها كل منهما، وقد أُجريت في هذا الصدد تجربة على مجموعة كبيرة من الأطفال بلغ عددهم (1528) طفلا، جميعهم كانوا يتمتعون بنسبة ذكاء أعلى من (135)، فإنه قد ظهر من متابعة هؤلاء الأطفال عندما وصلوا إلى منتصف أعمارهم أنهم لم يكونوا جميعا على قدر سواء في حياتهم العملية: بل انتحر منهم خمسة عشر شخصا، وأصبح منهم ثلاثة عشر فردا من مدمني الخمور، ودخل منهم ستة السجن؛ لارتكابهم الجرائم، وأصبح لدى ثمانية وعشرين منهم ميول جنسية شاذة، وطلق مائتان وواحد وسبعون منهم زوجاتهم مرة أو أكثر من مرة؛ وهو ما يشير إلى تدخل عوامل بيئية أثرت على مجرى حياة هؤلاء الناس.

ومن هذا يظهر أن «هناك مجموعة كبيرة من العوامل يمكن الرجوع إليها في تفسير نمو وارتقاء شخصية الطفل، وهذه العوامل تجمع بين العوامل الوراثية والبيئية معا».

وهذا التأثير البيئي في الفرد وتفاعله مع العوامل الوراثية أمر تقره السنة النبوية، وقد نبهت على ما ينبغي اتخاذه لخلق بيئة صالحة للناشئة، بدءا من البيئة المحيطة بالجنين في بطن أمه ثم البيئة المحيطة به في طفولته وشبابه حتى وفاته؛ بحيث يمكن القول بأن السنة قد وضعت من التدابير ما يصلح جميع النواحي البيئية بمفهومها الواسع الذي ينظر إليه علماء النفس الآن؛ حيث يقصدون بكلمة البيئة: «النتاج الكلي لجميع المؤثرات التي تؤثر على الفرد من بداية الحمل حتى الوفاة»، وتوضيح ذلك فيما يلي:

التدابير الإسلامية لخلق بيئة صالحة للجنين أثناء الحمل:

تأثير البيئة في الكائن البشري يبدأ بمجرد إتمام عملية التخصيب، وقد أكدت ذلك الدراسات التي أجريت في مجال علم النفس التجريبي، كما ثبت أن الأمراض التي تصاب بها الأم أثناء الحمل تؤثر على نمو الطفل، «وتدلنا نتائج الدراسات المختلفة المعلنة من خلال الطب الوقائي العام على ما تحدثه الانفعالات الشديدة التي تتعرض لها الأم أثناء الحمل، أو ما يمكن أن تتعرض له الأم من أنواع الأشعة العلاجية، أو تتعاطاه من مخدرات، أو خمور، أو تدخين، أو أدوية هرمونية، أو مهدئات؛ فإن كل هذه المؤثرات وغيرها لها تأثيراتها على المحيط الكيميائي للجنين، وتتحكم في نموه وتكوينه داخل الرحم».

وفي حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – الذي رواه الشيخان في الرجل الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَرِّض بنفي ولده لأنه أسود، وقوله صلى الله عليه وسلم له: «لعل ابنك نزعه عرق»- ما يشير إلى تنبيه السنة النبوية إلى تأثير البيئة الداخلية (رحم الأم) في تكوين الجنين؛ بحيث يكتسب هذا الجنين داخل الرحم صفات مخالفة للصفات الوراثية.

ومن يرجع إلى تعاليم الإسلام يجدها قد شرعت من التدابير والإجراءات ما يحافظ على سلامة هذه البيئة الداخلية للجنين من أية أضرار؛ حيث حرمت على الأم تناول الخمور وغيرها مما يضر بها.

كما أباح الإسلام للمرأة الفطر في رمضان، إذا كان في صيامها إضرار بجنينها؛ فقد روي الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك – رجل من بني عبد الله بن كعب – قال: أغارت علينا خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يتغدى فقال: «ادْنُ فكُلْ». فقلت: إني صائم، فقـال: «ادن أحدثـك عن الصوم - أو الصيام -: «إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل أو المرضع الصوم أو الصيام».

وفي هذا تنبيه منه صلى الله عليه وسلم إلى أهمية مراعاة التغذية المناسبة للحامل؛ لأن ذلك يؤثر في جنينها.
كما كفل الإسلام للمرأة الحامل جوا أُسَرِيًّا يشع مودة ورحمة؛ ليحافظ على انفعالاتها متزنة هادئة؛ فلا تضر بالجنين، قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الروم: 21].

التدابير الإسلامية لخلق بيئة نفسية صالحة للطفل بعد ولادته:

جو المودة والرحمة الذي أشارت إليه الآية الكريمة السابقة، هو الأساس الذي تقوم عليه البيئة الصالحة التي يعدها الإسلام للطفل.

فالإنسان قد لا يملك أمر مجتمعه الكبير، ولا قدرة له على تغييره، ولكن يملك أمر نفسه وبيته، فإذا أقام أسرته على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يسمع الطفل إلا كل خير، ولا يصل إلى أذنه سباب أو شتائم، ويتربى في جو تشيع فيه المودة والرحمة وتوحيد الله جل وعلا - فإن هذا يكون له أكبر الأثر في تنشئة الطفل تنشئة سليمة.

فالإسلام يعمل على أن تكون البيئة النفسية للطفل بيئة مفعمة بالحب؛ لأنه لكي يشعر الطفل بالحب إزاء العالم؛ عليه أن يعيش ذلك الحب في أسرته؛ فهي مجتمعه الصغير. وللإسلام وسائله المتعددة في التعبير عن الحب للطفل، ومن ذلك: تقبيله، ومعانقته، وحمله، والدعاء له، وإبداء روح العطف والحنو عليه؛ فالإسلام يرى أن الطفل في حاجة إلى أن يكون محبوبا مقبولا من الوالدين والآخرين، بغض النظر عن جنسه (ذكر أو أنثى)، ويوجب أن تكون استجابة الوالدين نحو الطفل - أيا كان جنسه - استجابة طيبة.

فالوالدان في الإسلام عليهما أن يغمرا أولادهما بالحنان والشفقة؛ ليوفرا لهم بيئة نفسية سوية تترك تأثيرا إيجابيا في طبائعهم؛ ولهذا ذم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الصِّنف من الآباء الذين لا يشيعون جو الألفة والمحبة بينهم وبين أطفالهم بتقبيلهم ومداعبتهم ونحو ذلك؛ فقد روى البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قَبَّل النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما، فقال الأقرع بن حابس: إن لي عشرة من الولد، ما قبلت منهم أحدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لا يَرحم لا يُرحم».

وروى ابن عساكر عن أنس – رضي الله عنه – قال: «كان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالصبيان والعيال» (ذكره الهندي في كنز العمال (18490)، وأصله في صحيح مسلم (4/1808) كتاب الفضائل، باب: رحمته  بالصبيان والعيال)

وفي مقابل ذلك نجده صلى الله عليه وسلم يثني على امرأة رحمت صغارها، وبشرها برحمة الله تعالى لها؛ فعن أنس – رضي الله عنه – قال: جاءت امرأة إلى عائشة - رضي الله عنها – فأعطتها ثلاث تمرات، فأعطت كل صبي لها تمرة، وأمسكت لنفسها تمرة، فأكل الصبيان التمرتين، ونظرا إلى أمهما، فعمدت إلى التمرة فشقتها، فأعطت كل صبي نصف تمرة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته عائشة، فقال صلى الله عليه وسلم: «وما يعجبك من ذلك؟! لقد رحمها الله برحمتها صبييها» (رواه البخاري في الأدب المفرد ، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد).

وأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على القرشيات؛ لما تميزن به من الحنان على الأولاد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش: أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده» (رواه الشيخان).

وهكذا تَلقَى البيئة النفسية كل رعاية الإسلام واهتمامه؛ لتأثيرها القوي الدائم في الطبيعة الإنسانية، وفي تشكيل شخصية الفرد وتحديد أنماط سلوكه في مواقف الحياة المختلفة.

التدابير الإسلامية لخلق بيئة اجتماعية صالحة للطفل:

أكدت الدراسات النفسية على الآثار السلبية الجسمية للعزلة الاجتماعية للأطفال؛ حيث تتسبب تلك العزلة في تخلف هؤلاء الأطفال عقليا، وزيادة مستوى غبائهم كلما تقدمت بهم السن في ظل تلك العزلة الاجتماعية.

وفي هذا ما يوضح جانبا من جوانب الروعة في منهج التربية النبوية الذي عمل على توثيق علاقة الطفل بالمجتمع؛ فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يسمح للأطفال بحضور مجالس الكبار، فكان الصحابة يحرصون على اصطحاب أطفالهم إلى هذه المجالس؛ ليحصلوا الفائدة المعرفية والاجتماعية التي تعينهم على مواجهة المستقبل الحياتي الذي ينتظرهم، فهذا عمر – رضي الله عنه - يصطحب ابنه إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري عن ابن عمر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخبروني عن شجرة مَثَلُها مَثَلُ المسلم، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ولا تحت أوراقها؟»، فوقع في نفسي: النخلة، فكرهت أن أتكلم وثَمَّ أبو بكر وعمر، فلما لم يتكلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة».

وكما شجع الإسلام على مخالطة الصغار للكبار؛ ليتعلموا من خبراتهم، شجع أيضا على مخالطة الصغار للصغار، لكنه يضع ذلك كله في إطار يسيرُ بهذه الخلطة في طريقها الصحيح؛ من خلال التوجيه إلى اختيار الرفقة الصالحة، والالتزام بالعادات الإيجابية في مخالطة الآخرين، نحو: ملاقاة الآخرين بالبشاشة والابتسام، وعدم إفشاء أسرارهم، وعدم التطفل عليهم بالتدخل فيما لا يعني المرء، إضافة إلى ممارسة التناصح، والمشاركة في أعمال البر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتشاور، والأخذ على يد الظالم... إلى غير ذلك من الآداب الإسلامية المنظمة للاجتماع مع الآخرين.

وفي ضوء ذلك يجب على المربين أن يغرسوا في الناشئة الآداب الإسلامية التي بها يُدْرَك معنى الحق ومعنى الواجب ومعنى التعاون، ويدرك معنى مفاهيم الدين، ومفهوم العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان.

ويمكن للوالدين أن ينميا بعض الخصائص البناءة الإيجابية في نفس الطفل، مثل: الكرم، والشجاعة، والإيثار، ومساعدة الآخرين والتعاون معهم، وإعانة الضعفاء والمرضى والعجزة، وذلك بضرب الأمثلة العملية من حياة الوالدين.

كما يمكن لكافة الجهات التربوية بدءا من الأسرة ومرورا بالمدرسة وأجهزة الإعلام أن تتعاون فيما بينها على تدريب الناشئة وتربيتهم؛ كي تدفعهم باتجاه إيجاد العلاقات الاجتماعية السليمة التي تعود بالخير والتقدم على الأمة والإنسانية بكاملها بالخير والرفعة.

التدابير الإسلامية للحفاظ على كيان الأسرة التي تحتوي الطفل:

الأسرة هي الخلية الأولى التي يتكون منها نسيج المجتمع؛ فبناؤها بناء للمجتمع كله، وفي صيانتها ونجاحها صيانة المجتمع ونجاحه، وفي فسادها وانحلالها فساد المجتمع وانحلاله، والأسرة هي الوسط الطبيعي الذي يتعهد الإنسان منذ بداية حياته؛ وهي أساس الترابط والمشاعر والتعاون، ومنها تنشأ شبكة العلاقات والصلات في المجتمع، بل منها تنشأ شبكة العلاقات المتوالدة في البشرية كلها.

ولهذا اهتم الإسلام اهتماما كبيرا بالأسرة وتكوينها والحفاظ على كيانها، فوضع لها من التدابير ما يحافظ على هذا الكيان، ومن أهم هذه التدابير ما يلي:

أولا: جعل الإسلام أساس الأسرة هو الزواج؛ تمشيا مع الفطرة البشرية، وتنظيما لطبيعة الإنسان في شقيها المادي والروحي، وتحقيقا لوسطية الإسلام؛ حتى تكون الأسرة ميثاقا يُلزم كلاًّ من طرفي الأسرة بأداء واجبه تجاه الآخر وتجاه ما سينشأ عن هذه الأسرة من أطفال، ويَحُول دون تَحَوُّل العلاقة بينهما إلى مجرد متعة فقط، قال تعالى: {وأخذن منكم ميثاقا غليظا} [النساء: 21]. وإذا كانت العلاقة بين الزوجين هكذا موثقة مؤكدة، فإنه لا ينبغي الإخلال بها ولا التهوين من شأنها.

ثانيا: جعل الإسلام الزوج والزوجة سواء في الاعتبار البشري، وفي شئون الدنيا والدين، فكلا الزوجين راعٍ وكلاهما مسئول عن رعيته. واعتبار المساواة الصحيحة بين الزوج وزوجته في الحقوق والواجبات، إنما هو في حدود ما يحفظ للرجل كرامته ومكانته، وفي إطار ما تراعَى فيه قدرة المرأة وطاقاتها واستعدادها؛ ولذا يقول الله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} [البقرة: 228]. فلهن حسن المعاشرة، وكفالة الحق المادي والمعنوي، وتبادل الرأي والمشورة، مع مراعاة جانب الحب والإعزاز والتضحية والإيثار؛ وبذلك يصبح البيت المسلم جنة وارفة الظلال، قوامه العدل والرحمة والمنطق والتعقل، وجدرانه قوية التحصين في الداخل والخارج، آمنة من عوامل الزعزعة والأثرة والاضطراب، التي تسبب التلاشي والزوال.

ثالثا: جعل الإسلام كلا من الزوجين مسئولا عن قوام الأسرة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها» (رواه الشيخان).
وقد حدد الإسلام مسئولية كل من الزوجين تجاه الآخر وتجاه الأولاد:
فالأب مسئول عن السعي لجلب الرزق، والإنفاق على الزوجة والولد، وتأمين ما تحتاجه الأسرة من طعام وشراب... إلخ، مع الحرص على أن يكون سعيه مشروعا، بعيدا عن المحرمات والشبهات. ومن مسئولياته – أيضا – أن يُعِدَّ أسرته للحياة الإسلامية الواعية، وأن يصون بناءها عما يؤدي إلى تفككه وانحلاله.
وإذا كان الرجل هو المسئول الأول عن الأسرة، وهو الراعي والمرجع، فإن الجانب التنفيذي الأهم يكون من مسئولية المرأة؛ لأنها – من حيث الفطرة – مهيأة لهذه المسئولية، بل إن كل إمكاناتها وخصائصها تدل على أنها متخصصة في ذلك، وأن التربية ورعاية الأبناء والعناية بالأسرة هي مسئوليتها وواجبها واختصاصها الطبيعي.

رابعا: جعل الإسلام القوامة في الأسرة للأب أو الزوج؛ لأنه الأقدر على ذلك؛ قال تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} [النساء: 34]، وليست هذه القوامة تشريفا للرجل بقدر ما هي مسئولية ملقاة على عاتقه في تحمل قيادة الأسرة، والسير بها إلى بر الأمان؛ فإن مكان الأب على رأس الأسرة وقيامه بدور القيادة الحقيقية والتوجيه لكل أفرادها - إنما هو مسئولية خطيرة في استقرار الأسرة، وقيامها كخلية سليمة في بناء المجتمع المسلم؛ فالأب هو الذي يضع أسرته في المجتمع ويحدد موقف أفرادها ودورهم في البناء الاجتماعي، ويظل دور الأب في المنهج الإسلامي سليما لا تهزه التيارات الفاسدة؛ لأنه قائم على قيم ثابتة ومعايير سلوكية محددة، يؤصلها الإسلام بمنهجه التربوي حتى لا يفقد دوره في الضبط الاجتماعي وتوجيه الفكر والسلوك.

خامسا: أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرا؛ وذلك للحفاظ على كيان الأسرة، وتلافي ما قد ينشأ من خلافات بين الرجل والمرأة قد تؤدي إلى انحلال الأسرة وتفككها؛ حيث تشير أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما عليه طبيعة المرأة وتكوينها النفسي والجسمي، بما تحتاج بسببه إلى الرعاية والرفق، واحتمال الزوج منها ما لا يرضاه أحيانا، يقول صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء خيرا؛ فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا» (رواه الشيخان). وفي بعض الروايات: «المرأة كالضلع إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج»(رواه البخاري).

سادسًا: دعا الإسلام كلا الزوجين إلى خلق جو من المودة والألفة بينهما؛ قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم: 21]؛ ولا شك أن شيوع المودة والرحمة بين الزوجين من أكبر العوامل التي تساعد على استقرار الأسرة؛ والحفاظ على كيانها.

سابعا: بين الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق إلى إصلاح حال المرأة إذا بدا منها تقصير أو نشوز؛ بحيث يمكن تدارك الأمر قبل أن يؤدي إلى انفصام عُرا الأسرة؛ فيقول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «ألا واستوصوا بالنساء خيرا، فإنما هن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح، فإنْ أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا. ألا إن لكم على نسائكم حقًّا، ولنسائكم عليكم حقا: فأما حقكم على نسائكم: فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن»(رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح).

ثامنا: كره الإسلام الطلاق الذي يؤدي إلى تفكك الأسرة، وانفصام عُرا الحياة الزوجية التي يريد لها الإسلام الاستقرار، ويحرص على ذلك، ويجعله غاية من غاياته؛ حيث إن «عقد الزواج إنما يعقد للدوام والتأبيد إلى أن تنتهي الحياة؛ ليتسنى للزوجين أن يجعلا من البيت مهدا يأويان إليه، وينعمان في ظلاله الوارفة، وليتمكنا من تنشئة أولادهما تنشئة صالحة؛ ومن أجل هذا كانت الصلة بين الزوجين من أقدس الصلات وأوثقها... وكل أمر من شأنه أن يوهن من هذه الصلة، ويضعف من شأنها فهو بغيض إلى الإسلام؛ لفوات المنافع، وذهاب مصالح كل من الزوجين».

ومما يدل على كراهية الطلاق في الإسلام، ما روي عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبغض الحلال إلى الله - عز وجل - الطلاق»(أخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي)