بين العلم واللاعلم : قابلية الخطأ ووهم الحقيقة العلمية المطلقة(1).د/خالد صقر.
حارَ الفلاسفة منذ قرون طويلة إلي يومنا هذا في إيجاد منهجية للتفرقة بين الأفكار العلمية واللاعلمية من حيث الحجية المعرفية لكل منهما ومدي دلالاتها علي الحقيقة(1)، وبقدر ما تنوعت مدارس فلسفة العلوم علي مدار تلك القرون بقدر ما تعددت تلك المعايير وتباينت مع ذلك الفجوة التي تفصل العلم عن اللاعلم(2)، وفي أثناء ذلك السعي الحثيث نحو صقل وتهذيب فلسفة العلوم الطبيعية كان المشرق العربي الإسلامي غائباً عن هذا المشهد تماماً لعوامل يضيق المقام هنا عن حصرها ، لكن النتيجة التاريخية هي أننا لم نشارك طوال تلك المدة في الرحلة الإنسانية نحو نسق متكامل لفلسفة العلوم ، والتي لازالت لم تبلغ هدفها إلي يومنا هذا.
إنّ عدم التفاعل الإسلامي العربي مع حركة العلوم الطبيعية ومدارسها الفلسفية في الغرب في العصر الحديث جعل الشعوب الإسلامية والعربية بشكل خاص تتلقي كل مفاهيمها عن العلم من خلال عقل ذو معايير مختلفة تماماً عن معايير العقل المسلم ذو الثقافة العربية هو العقل الأوروبي الذي كان قد خرج آنذاك من حرب ضروس مع السلطة الكنسية الطاغية التي قيدته وسلبته حريته لقرون طويلة، وهذا ما جعل هناك نوعاً من التنافر أو الإستنكار لدي الشعوب العربية تجاه المفاهيم الفلسفية والعلمية الجديدة الآتية من أوروبا. صنع هذا التنافر قدراً لا يمكن إهماله من الصعوبة في فهم هذه المفاهيم واستيعابها ومن ثم الشغف بها والمشاركة في تطويرها ، بحيث أن صارت فلسفة العلوم فرعاً يكاد يكون منقرضاً من الجامعات العربية ، أما القدر اليسير من الترجمات والكتابات التي حاولت صهر هذه الصعوبات وتذليلها بقيت حبيسة الأرفف مع غياب الشغف الجماهيري بالعلوم الطبيعية واقتصار الاهتمامات الثقافية للشعوب العربية علي الفنون كالموسيقي والشعر والمسرح والسينما وغير ذلك من فروع الثقافة الممزوجة بعناصر الإبهار التي تحقق لدي الجماهير نوعاً من المتعة المادية التي يستحيل أن يجدونها في الاهتمام بفلسفة العلوم.
بَيْد أنّ الأنظمة السياسية التي تناوبت علي حكم البلاد العربية خلال القرن العشرين –وهو القرن الذي شهد أكبر وأهم ثورة في فلسفة العلوم في الغرب- كان عليها أنْ تقدم إلي شعوبها قدراً من المعرفة العلمية تذر به الرماد في عيون النظام العالمي الذي أخذ يستقر يوماً بعد يوم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ، وكان علي الأنظمة العربية أن تسعي لأخذ مكانة ما في ذلك النظام العالمي في كل المجالات الحضارية ، ونتيجة لعدة عوامل اجتماعية وسياسية اختارت القومية العربية الانحياز إلي المعسكر السوفيتي الاشتراكي ، وبالتوازي مع ذلك بدأت حركة التعريب والترجمة في نقل مكتسبات العلوم الطبيعية الجديدة إلي الشعوب العربية وكانت هذه هي الطامة الكبري !
أدّي تطور فلسفة العلوم في أوروبا وأمريكا في القرن العشرين إلي ظهور الوضعية المنطقية(3) التي هدمت بشكل أو بآخر مبدأ الحتمية(4) الذي كان يعطي العلوم الطبيعية قداسة أكبر من قداسة الدين في القرن التاسع عشر ، ومع انهيار مبدأ الحتمية علي يد كارناب وفتنجشتاين وزملائهما في دائرة فيينا بدا من الواضح أن العلوم الطبيعية قد وصلت إلي قدر من النضوج لن تشكل معه تهديداً للاعتقاد الديني من هذه الجهة مع بقاء التهديد النابع من رفض الميتافيزيقا كعنصر من عناصر المعرفة العلمية ، أما في الاتحاد السوفيتي فإن الحال كان مختلفاً تماماً.
تتضمن الماركسية(5) في أصولها الفلسفية قدراً كبيراً من للداروينية(6)، وتعتبر أن حتمية القوانين الطبيعية هي أحد ركائز نظرية الانتخاب الطبيعي التي تصنع تطوراً اجتماعياً يحاكي التطور الفكري في قانون الأحوال الثلاث لكونت(7)، ومن ثم فإن مبدأ الحتمية ظل أحد الأسس الرئيسية لفلسفة العلوم في الاتحاد السوفيتي ، يقول البروفيسور أوسكار باندلين في كتابه "العودة إلي السياسة الاقتصادية الجديدة : وعود اللينينية الزائفة وانهيار البروسترويكا"(8) : " كانت المادية الديالكتيكية(9) والنموذج اللينيني الحتمي للطبيعة(10) هما النسقين الفلسفيين المعترف بهما رسمياً تحت حكم ستالين وقد ساعد نشر هذين النسقين في الجامعات والمعاهد ستالين سياسياً ، بالرغم أنه من المؤكد أن الفيزيائيين السوفيتيين قد نجحوا في التعامل مع تأثير الأيدولوجيا علي العلوم حتي إن لم يكن ذلك بشكل فعال فقد كان عليهم استخدام لغة صارمة وإطارات أيدولوجية شيوعية لعرض ومناقشة أفكارهم واكتشافاتهم ، أما بالنسبة إلي علماء البيولوجيا علي سبيل المثال فقد كان من السهل عليهم مقارنة بالفيزيائيين أن يخضعوا لهذين النسقين الفلسفيين بدون معاناة كبيرة للعوامل الكثيرة المشتركة بين الداروينية كنظرية حيوية وبين الأيدولوجيا السوفيتية. إنّ سعْي ستالين خلال عام 1948 للتحكم في الطبيعة وقضية ليسينكو(11) يعتبران من أهم الأدلة علي استمرار تأثير الحتمية علي فلسفة العلوم في الاتحاد السوفيتي لفترة طويلة بعد موت لينين. في الواقع ليس هناك أي شك أن قيادات الاتحاد السوفيتي المتتالية ظلت تثق في النموذج اللينيني للطبيعة حتي السنوات الأخيرة في العهد السوفيتي" أ.هـ ويمكن القول أن من نتائج هذا الجمود الفلسفي في الاتحاد السوفيتي رفض تفسير كوبنهاجن لميكانيكا الكم وإصرار الفيزيائيين السوفيت علي تفسير حتمي للظواهر الكمية ، كما يمكن القول أن الإصرار علي النموذج اللينيني للطبيعة الذي يرتكز بشكل محوري علي الحتمية كان له دور كبير في صياغة المادية التاريخية(12) كأيدولوجيا تربط بين الظواهر الطبيعية في إطارها الحتمي اللينيني والتغيرات الاجتماعية في شكلها الماركسي والتي تجسدت في كتابات بوخارين ولينين ذاته وقادت الاتحاد السوفيتي فيما بعد لتجارب مهلكة أدت لوفاة الملايين أثناء حكم ستالين.
لذلك كان التقارب بين أنظمة القومية العربية والاتحاد السوفيتي سبباً في حدوث كارثة معرفية هائلة في الوطن العربي هي استمرار تدريس المناهج العلمية المستقاة من حتمية القوانين الطبيعية وتبعاتها المعرفية في المدارس والمعاهد والجامعات ، فالعسكريين الذين قفزوا علي أنظمة الحكم في البلاد العربية خلال النصف الأول من القرن العشرين ولوا وجوههم شطر موسكو وسان بطرسبرج واستغرقوا في صلاة طويلة طلباً للخبراء والمستشارين لكي يقوموا بتطوير مناهج التعليم وإمدادهم بالحديث من المراجع والنصوص العلمية ، وكان ذلك محل ترحيب واستجابة فورية من الماركسيين الذي رأوا في التقارب مع الدول العربية الغنية بالنفط والثروات تقدماً كبيراً في حربهم الباردة ضد الغرب ، ومن ثم أصبح الطلاب في البلاد العربية يتلقون العلوم الطبيعية تحت مظلة الحتمية التي تنصب المنهج التجريبي للعلوم الطبيعية في أعلي منزلة معرفية يمكن أن يتصورها الإنسان وبذلك انضم الكثير من أبناء الوطن العربي النابهين لاإرادياً إلي معسكر الإلحاد العلمي بفعل أنظمة التعليم التي لم تواكب التطور الفلسفي للعلوم الطبيعية في الغرب رضوخاً لرغبة العسكر المنبهرين بالماركسية والاشتراكية.
في الوقت الذي استغرقت فيه الأنظمة القومية العربية في استيراد عناصر الفلسفة المادية من الاتحاد السوفيتي ونشرها في المجتمعات العربية من خلال مناهج وأنظمة التعليم ، استمر الغرب في تطوير فلسفة العلوم بعد انهيار مبدأ الحتمية واستمر السعي للبحث عن معايير للحكم علي الأفكار والأطروحات من حيث كونها علمية أو لاعلمية وتوج ذلك السعي بظهور مبدأ "قابلية الخطأ"(13) علي يد كارل بوبر مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين ، فظهرت آثاره بشكل مباشر علي مسيرة البحث العلمي في الغرب وعلي مسيرة الثقافة الغربية بشكل عام بينما غابت تلك الآثار بالكلية عن العقل العربي الذي كان قد تجمد في قالب المادية السوفيتية آنذاك...نترك ذلك للجزء الثاني من المقال إن شاء الله.

-----------------------------------------
1. Truth
2. Non-science
3. Logical positivism
4. Determinism
5. Marxism
6. Darwinism
7. ينص قانون الأحوال الثلاث كونت أن أي مجتمع يمر بثلاث مراحل في تطوره المعرفي ، المرحلة الأولي هي مرحلة الإيمان الشهيرة ، كان ليسينكو مسئولاً عن كل ما يختص بالبحوث الحيوية والزراعية في الاتحاد السوفيتي في عهد ستالين ، وهو يعتبر مسئولاً مسئولية مباشرة عن الكارثة الزراعية التي حلت بالاتحاد السوفيتي وتسببت في مجاعة عام 1932 في أوكرانيا والتي راح ضحيتها حوالي سبعة ملايين إنسان ، كما يعتبر مسئولاً بشكل مباشر عن إعدام عدد كبير من العلماء والأساتذة الجامعيين السوفييت الذين خالفوه برفض آرائه الغريبة حول الوراثة .
8. Oscar J. Bandelin (2002) Return to the NEP: The False Promise of Leninism and the Failure of Perestroika, Greenwood Publishing Group, pages 19-20
9. Dialectical materialism
10. Deterministic Leninist model of nature نسبة إلي لينين
11. هو تروفيم ليسينكو Trofim Lysenko، عالم أحياء سوفيتي اشتهر رفضه لكل نظريات الوراثة بما فيها نظرية مندل الشهيرة ، كان ليسينكو مسئولاً عن كل ما يختص بالبحوث الحيوية والزراعية في الاتحاد السوفيتي في عهد ستالين ، وهو يعتبر مسئولاً مسئولية مباشرة عن الكارثة الزراعية التي حلت بالاتحاد السوفيتي وتسببت في مجاعة عام 1932 في أوكرانيا والتي راح ضحيتها حوالي سبعة ملايين إنسان ، كما يعتبر مسئولاً بشكل مباشر عن إعدام عدد كبير من العلماء والأساتذة الجامعيين السوفييت الذين خالفوه برفض آرائه الغريبة حول الوراثة.
12. Historical Materialism