تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: الإمام الطوفي ورؤيته في قصة الغرانيق

  1. #1

    افتراضي الإمام الطوفي ورؤيته في قصة الغرانيق



    الإمام الطوفي ورؤيته في قصة الغرانيق
    نبذة من ترجمته:
    الطوفي:
    هو الإمام نجم الدين، سليمان بن عبد القوي الصرصري البغدادي، ولد في بغداد 657هـ وتوفي بالخليل في فلسطين 716
    هـ (رحمه الله).


    وكان من كبار علماء الحنابلة في بغداد، وسافر إلى دمشق والتقى به شيخ الإسلام ابن تيمية
    ودرس على الطوفي النحو والعربية، وتتلمذ الطوفي على شيخ الإسلام وله به تعلق شديد.


    كما التقى الطوفي بكبار العلماء وأخذ عنهم، مثل الحافظ المؤرخ علم الدين البرزالي، والحافظ أبو الحجاج المزي، والحافظ شرف الدين الدمياطي، والمحدث أبو بكر القلانسي، والقاضي الفقيه تقي الدين سليمان بن حمزة، ومجد الدين الحراني شيخ الحنابلة في وقته، والحافظ القاضي سعد الدين الحارثي، وأبو حيان النحوي، وجمع ممن عاصرهم.

    وسافر إلى مصر والحجاز والشام فالتقى بعدد غير قليل من العلماء وقرأ عليهم.
    ودرس في الصالحية والمنصورية، ونفي إلى قوص بمصر، لفتنة وقعت بينه وبين شيخه الحارثي، وأفادته هذه بلقاء بعض العلماء أيضا في مصر، وألف فيها مؤلفات عدة.

    ثم رحل إلى الحجاز فحج وجاور في الحرمين سنة 714 هـ وقرأ بها كثيرا من الكتب ثم رحل إلى القدس فبقي فيها حتى توفي، ولم ينقطع عن العلم والتحصيل والتأليف وكان آخر مؤلف ألفه في بيت المقدس هو كتابه" الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية".

    وله مشاركات في علم التفسير والعربية والحديث والأصول والأدب والشعر وله نظم كثير رائق وقصائد في مدح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقصيدة طويلة في مدح الإمام أحمد.
    ومؤلفاته كثيرة: منها في تفسير بعض السور المفردة، وله كتاب الإكسير في قواعد التفسير.

    وفي الحديث: مختصر جامع الترمذي، وشرح الأربعون النووية، ودفع التعارض عما يوهم التناقص في الكتاب والسنة.
    وله في علم مقارنة الأديان: تعاليق في الرد على جماعة من النصارى، والانتصارات الإسلامية في دفع الشبه النصرانية، وتعاليق على الأناجيل الأربعة وكتب الإثني عشر.
    وله مصنفات كثيرة في الأصول وفي الجدل والمنطق والأدب والشعر، وله شرح روضة الناظر وكتب كثيرة تدل على علمه وتوسعه وسبقه.

    واتهم بالرفض ظلما، وله كتب ترد على الرافضة كالصعقة الغضبية وغيرها.

    واتهمه البعض بأنه قال عن نفسه : حنبلي رافضي أشعري ... هذه إحدى العبر!.

    ولم يبين لنا قائله في أي كتاب قاله الطوفي..
    وعندي أنه لو قالها، فإنه قالها متعجبا ممن اتهموه بالرفض أو أنه أشعري، فكيف لحنبلي مشهور بذلك مقدم فيه وله في المذهب مؤلفات أن يكون رافضيا أو أشعريا؟ هذا من العجب.
    وللطوفي اتفاق في الجملة مع منهج السلف في التوحيد والقدر وسائر مسائل الأسماء والصفات، فهو في الغالب أثري، وقد يشذ في بعض الصفات فيؤول، ولكن الغالب عليه منهج السلف.
    وله شذوذ عرف به في مسألة المصلحة المرسلة، وليس هذا بيانها والتعليق عليها.


    وهذا المقال أفردناه لبيان رأي الإمام الطوفي في قصة الغرانيق التي رويت في كتب السير والمغازي، وفي كتب التفسير عند قوله تعالى ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِك َمِن رَّسُولٍ وَلانَبِيٍّ إِلاّ َإِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ ) إلى قوله ( عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ).


    فأحببت أن أشير أولاً إلى شيء من ترجمته، حتى لا يقول أحدٌ : ومن هو الطوفي؟

    وللتعريف بكتاب " الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية " وما له من أهمية، يراجع مقدمة المحقق الدكتور: سالم بن محمد القرني، فقد ترجم للطوفي وتكلم عن عصره وشيوخه وتلاميذه ومعتقده ومنهجه ومؤلفاته بما لا مزيد عليه، وما نقلناه أعلاه مختصرا من تحقيقه جزاه الله خيراً.



  2. #2

    افتراضي رد: الإمام الطوفي ورؤيته في قصة الغرانيق

    موقفه من قصة الغرانيق

    فأما موقفه من قصة الغرانيق، فقد جاء في كتابه " الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية" وقد ألفه ردا على كاتب نصراني ألف كتاباً أسماه " السيف المرهق في الرد على المصحف " هكذا وجد اسمه على مخطوطة السليمانية بتركيا، وكاتبها مجهول الاسم ..

    وقد عرض بالقصة وشنع عليها، هذا النصراني فقال [1/393]:
    " وفي سورة الحج ( وما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ).
    وذكر [ أي النصراني ] ما حكاه ابن عطية وغيره في التفسير من أن النبي- عليه السلام- كان يتمنى أن يتبعه قومه ويؤثر هدايتهم، فلكثرة تمنيه ذلك ألقى الشيطان على لسانه في تلاوة سورة النجم حين قال:" ومناة الثالثة الأخرى: تلك الغرانيق العلى إن شفاعتهم لترتجى" ففرح المشركون وقالوا: قد ذكر آلهتنا بخير فلانوا له وكفوا عن أذاه وأذى أصحابه، فاتصل بمهاجرة الحبشة- الهجرة الأولى- إن قريشا أسلمت، فجاءوا فوجدوا ما ألقاه الشيطان قد نسخ وعادت قريش إلى غلظها وشقاقها، فعاد الذين جاءوا من الحبشة إليها. وذلك سبب الهجرة الثانية.
    ولما علم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ما كان قاله من مدح الأصنام من إلقاء الشيطان اغتم لذلك فأنزل الله- سبحانه- تسلية له: ( وما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ...) الآية.
    قال [ أي النصراني ]: فتضمنت هذه القصة باطلين:
    أحدهما: الافتراء على الرسل في وصفهم بهذه المثلبة من أن الشيطان تلبس عليهم في وحي الله- سبحانه- بما يقع به الغواية والإضلال للناس وحاشا الأنبياء من أن يكون للشيطان عليهم سلطان، خصوصا في تخليط الوحي عليهم.
    والثاني: إخباره بأن للأصنام شفاعة، ومدحها بذلك.اهـ
    ثم ذكر [ أي النصراني ] حديثا زعم أن البخاري ذكره في باب العيدين ولم أجده فيه- فلعله قلد في نقله غيره، لكن الحديث صحيح في الشريعة. عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الشيطان عرض لي في الصلاة ليقطعها عليّ، فأمكنني الله منه، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه». فذكرت قول سليمان: ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ...).
    قال [ أي النصراني ]:" فمن له هذا السلطان على الشيطان، كيف يتسلط عليه الشيطان فيعبث به هذا العبث، ويخلط عليه الوحي؟
    قال[ أي النصراني ]:" وقد تضمن هذا الحديث أن الشيطان متجسم. لقوله:" هممت أن أربطه إلى سارية" وهذا باطل لأن الشياطين بسائط مجردة عن المادة كالملائكة والنفوس، وهذا قول الأنبياء والفلاسفة". اهـ
    هذا ما ذكره [ أي النصراني ] في هذا السؤال.
    والجواب عنه: أما قصة إلقاء الشيطان على لسانه، وما ذكر في سورة النجم، فقد استفاض نقلها بين الأمة، ورواها الثقات، ويدل على صحتها ما رواه البخاري والترمذي وصححه عن عكرمة عن ابن عباس قال:" سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سورة النجم فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس".
    قلت: فسجود المشركين كان السبب المذكور لأنهم ظنوا أنه قد وافقهم بمدحه آلهتهم وصار الدين واحدا، أو أنهم سجدوا لآلهتهم إعظاما لما سمعوا من مدحها.
    وأما الجن فلعلهم جاءوا يستمعون القرآن كما حكى عنهم فيه.
    ولا محذور في هذه القضية بوجه من الوجوه:
    لأن الأنبياء في الحقيقة بشر يجري عليهم الخطأ والنسيان ويتطرق عليهم الشيطان.
    وقد اختلف العلماء في أنهم معصومون من المعاصي مطلقا أو من الكبائر فقط أو منها عمدا أو من الصغائر كذلك؟ وجوز بعض الناس عليهم الكفر بناء على أن مطلق المعصية جائز عليهم وهو كفر في خلاف كبير، لكن اتفقوا على: أنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله من الوحي بحيث لا يلحقهم فيه خطأ، وإن لحقهم فيه خطأ بسهو منهم أو تلبيس من شيطان إنسي أو جني نبهوا عليه، ولم يقروا عليه، وهكذا جرى في هذه القصة وأخبر الله أنه يحكم آياته وينسخ ما يلقي الشيطان.
    وأما تشنيعه بقوله:" حاشى لله ومعاذ الله أن يتسلط الشيطان على الأنبياء بمثل هذا"
    فلعمري أن هذا ليس غيرة منه على الأنبياء ولا تعظيما لهم. فإن اضطرابه في هذا الكتاب بين الفلسفة والشرع يدل على أنه محلول الرابطة بالكلية، أو مذبذب لا إلى هذا ولا إلى هذا.
    ولكن عنادا للإسلام كما قيل: وما من حبه يحنو عليه * ولكن بغض قوم آخرينا.
    ولعمري إن منصب الأنبياء محفوظ، ولكن هذا أمر جائز عليهم عقلا وشرعا، ولسنا نعطيهم ما ليس لهم، ولا هم يرضون بذلك.
    ولهذا قال نبينا صلّى الله عليه وسلّم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم» يعني حيث اتخذوه إلها، ولكل أحد رتبة لا يتجاوزها، فرفعه عنها إفراط، ووضعه عنها تفريط.
    أما جواز ذلك عليهم عقلا فلأنه لا يلزم منه محال لذاته ولا لغيره.
    وأما جوازه شرعا فثبت في شرعنا: أن إبليس سلط على آدم فأخرجه من الجنة وما ذكر في التوراة من أن الحية أغوته لا ينافي ذلك. لأن إبليس دخل في فم الحية إلى الجنة فأغواه.
    وورد في الآثار: أن موسى لما ذهب لمناجاة ربه على الجبل كان إبليس يدور حوله، فقال له بعض ملائكة الرب: ويحك يا إبليس بم تطمع من موسى وهو في هذا المقام؟ قال بما طمعت به من أبيه حين أخرجته من الجنة.
    وسلط على أيوب حتى أتلف جسده وماله امتحانا من الله له بالصبر. وسلط بعض الشياطين على سليمان فأخذ خاتمه وألقاه في البحر بعد أن ألقى عليه شبه سليمان فجلس على كرسيه أياما. وذلك تأويل قوله تعالى: ( ولَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ ) وكان سليمان مسلطا على أصناف العالم.
    وبهذا يحصل الجواب عما ذكره في سياق حديث البخاري.
    وقوله فيما سيأتي من كلامه:" هذا من الخرافات التي جاء بها القرآن"
    دعوى مجردة، غاية مستنده فيها سكوت التوراة وكتب الأوائل عنها، وذلك في الحقيقة استدلال على نفي العلم الوجودي بالجهل العدمي، وهو قلة معرفة بالمناظرة.
    وقد صح عندكم في الإنجيل: أن المسيح لما اعتمد من يوحنا المعمداني سلط عليه الشيطان امتحانا له. فقال له:" إن كنت محفوظا فألق نفسك من أعلى هذا الهيكل. فقال له: مكتوب لا تمتحن ربك. وقال له: اسجد لي وأعطيك ممالك العالم كلها- وكانت قد رفعت له- فقال له يسوع: مكتوب اعبد ربك وحده". معنى القصة هذا.
    وإذا جاز أن يتعرض الشيطان للأنبياء ويسلمون منه فما المانع من أن يتعرض لهم، وينال منهم. بل هذا ألزم عليكم. لأن المسيح عندكم هو الله أو ابن الله، وقد عارضه الشيطان حتى لقي منه شدة على ما أشار إليه الإنجيل أو صرح به، فالأنبياء لا يبعد أن ينال منهم ثم يتداركهم الله بعصمته.
    وقد سحر نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم بعض شياطين اليهود حتى أثر ذلك في أفعاله، ثم شفاه الله تعالى من ذلك، وأنزل عليه المعوذات.
    وبالجملة. الأنبياء بشر، والبشر عرضة لهذه الآفات وغيرها. ثم يتدارك الله بعصمته من شاء.
    وإذا كان إلهكم المسيح سلط عليه شياطين اليهود، الذين كيدهم دون كيد الشيطان الحقيقي بكثير فصلبوه وأهانوه ودفن ثم بعث ثلاثة أيام- على زعمكم- فكيف لا يتطرق على الأنبياء- الذين هم دون رتبة الإلهية بكثير- شيطان الجن الذي هو أقوى كيدا من شياطين الإنس بكثير؟ هذا مما لا يحيله عاقل ولا عادل.
    ثم نقول لهذا الخصم: ما نرى مثلك في تنزيهك للأنبياء عما ذكرت إلا ما حكي عن بعض النساء الخفرات أنها مرت على رجال فاستحيت منهم فكشفت ثوبها عن إستها حتى غطت وجهها، وكرجل قال لرسوله: إذا وصلت إلى فلان فسلم لي عليه وصك لي قفاه.
    فإنك تنزه الأنبياء عن أن يتعرض لهم الشيطان تعرضا مأمون العاقبة متداركا بالعصمة الإلهية.
    ثم إنك تصدق ما في التوراة من أن روبيل بن يعقوب وطئ سرية أبيه، ونجس فراشه.
    وأن يهوذا وجد كنته- زوجة ابنه- على الطريق في صورة زانية فزنى بها بجدي ثم رهنها به خاتمه وعمامته وقضيبا كان في يده، ثم إنه لما ظهر حملها أمر برجمها فلما عرّفته أن الحمل منه وأرته العلامة أمر بتركها.
    وأن عظيم ساليم قرية سجيم زنا ببنت يعقوب ثم خطبها، وأن ذلك أغضب إخوتها حتى خدعوهم باقتراح الختان عليهم، ثم دخلوا وهم مرضى من ألم الختان فقتلوهم، وأخذوا أموالهم.
    وأن لوطا لما نجا من عذاب قومه أسقته ابنتاه الخمر، ثم ضاجعتاه فوطئهما فأحبلهما.
    وهذا منصوص مصرح به في التوراة التي بأيديكم وأنتم مع ذلك تحتجون علينا بما فيها.
    وهذه حكايات- والله- يتنزه سوقة الناس ورعاعهم وأراذلهم عنها. بل عما هو دونها.
    وأنتم تنسبونها إلى الأنبياء، فلعن الله من قال ذلك، ومن يصدقه، فما أسرع ما نسيتم العدل والإنصاف الذي أمركم به المسيح في الإنجيل.
    لقد أطعتموه في ذلك كما أطاعته اليهود حيث فعلوا به ما فعلوه من الإهانة والصلب فعليكم جميعا من الله ما تستحقونه.
    فإن صدّقت بما في التوراة من هذا الهذيان فيكفيك ذلك جهلا وحمقا وقلة عقل، وسخافة رأي وزندقة؛ حيث تنسبون الأنبياء المعصومين المعظمين إلى المكر والخداع والزنا بالأجانب وبالبنات وسراري الآباء، وإن لم تصدقوه فكيف تحتجون علينا بكتب فيها مثل هذا الفشار؟.
    قوله:" تضمنت هذه القصة باطلين. أحدهما: نسبة الرسل إلى هذه المثلبة والافتراء عليهم بذلك".
    قلنا: قد بينا أن هذا لا غضاضة عليهم فيه، وليس هذا افتراء عليهم لأنه نبي معصوم مثلهم. وقد أخبر عنهم بما أوحي إليه.
    وأما الباطل الثاني وهو إخباره بأن للأصنام شفاعة فليس ذلك من إخباره، وإنما الشيطان أخبر به على لسانه. وقد بينا أن لا محذور في ذلك ثم نسخه الله.
    وإنما كان يتجه القدح أن لو لم ينسخ واستمر، لكنه لم يستمر بحمد الله.
    وفسر بعض العلماء إلقاء الشيطان في أمنيته وعلى لسانه، بأنه نطق بما نطق به، مقارنا لنطقه، فاشتبه صوته بصوته. وهو أولى ما يقال. وبهذا يلتغي المحذور بالأصالة جداً.
    ثم ننبه هاهنا لدقيقة وهي: أن قوله تعالى: ( وما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) لا يقتضي أن كل رسول ونبي تمنى وألقى الشيطان في أمنيته، بل يقتضي أن من وجد منه التمني كما وجد منك" ألقى الشيطان في أمنيته" كما ألقى في أمنيتك وذلك لأن الإلقاء وقع في جواب إذا الشرطية التي ينتفي مشروطها لانتفاء شرطه، فحينئذ نقول: قد يوجد التمني من بعض الأنبياء فيوجد الإلقاء من الشيطان وقد لا يوجد التمني فلا يوجد الإلقاء. هذا مقتضى الآية لفظا.
    أما عقلا فيقتضي أن كلهم تمنوا وكلهم ألقي في أمنيته لأن الله سبحانه بعثهم رحمة للخلق، فمن المحال عادة أن نبيا يبعث إلى أمة، ولا يتمنى رشادها وهداها وإتباع ما جاء به من الحق، وترك هواها.
    وأما قوله في حديث البخاري:" من له هذا السلطان على الشيطان؟ كيف يعبث به الشيطان هذا العبث؟ " فقد سبق جوابه عند ذكر عبث الشيطان بسليمان.
    ونزيد هاهنا بأن نقول:
    هو وإن كان له على الشيطان هذا السلطان لكن يجوز أن يسلط عليه الشيطان بإذن الله لحكمة.
    وقد بين الله سبحانه الحكمة في ذلك حيث يقول: ( لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) . يعني الكفار والمنافقين كانوا قد أيسوا من محمد أن يعبد آلهتهم، أو يسكت عن ذمها، وقد ضجر بعضهم وهمّ أن يدخل في الإسلام فألقى الشيطان على لسانه مدح الأصنام ليظنوا أنهم منها على شيء فيتمسكوا بعبادتها، وأن لها قدرا عند محمد، فيطمعون في إجابته إلى عبادتها أو الكف عنها، فأمسك من كان أراد الدخول في الإسلام عنه بهذا السبب حتى مات كافرا، وظنوا أن رجوع محمد عن مدحها بعد إلقائه على لسانه عناد لها ورجوع عن الحق في أمرها.
    وهذه الآية من أكبر الأدلة على إثبات القدر. وسيأتي عند ذكر هذا الخصم له.
    وأما قوله:" تضمن هذا الحديث أن الشيطان متجسم": قلنا: نعم.
    قوله: "هذا باطل لأن الشياطين بسائط مجردة عن المادة".
    قلنا: عن المادة العنصرية الكثيفة التي هي كمواد الآدميين؟ أو عن المادة مطلقا؟.
    الثاني: ممنوع. والأول: مسلم فإن لهم مادة لطيفة، وكذا الملائكة فإن الشياطين خلقوا من نار، والملائكة من نور، كما صح في السنة النبوية. ثم كيف تصح دعوى تجردهم عن المادة مطلقا.
    وقد ذكر في الأناجيل في نحو عشرين موضعا. منها: أن المسيح كان يخرج الشياطين من الناس وأن بعض الشياطين استغاث منه وقال:" ما لنا ولك يا مسيح ابن الله" وأنه أخرج الشياطين في بعض المرات إلى قطيع خنازير فأخذوها حتى رموها في البحر فغرقت، وأنه أخرج من" مريم المجدلية" سبع شياطين، ولذلك لازمت خدمته حتى مات [على زعمهم]، وكانت أول من رآه بعد قيامه من الأموات، وبشرت به التلاميذ.
    فهل يصح عند عاقل أن يدخل في الحيوان ويخرج منه ويستغيث ويصوت إلا جسم؟.
    وأما قوله: "إن هذا هو قول الأنبياء والفلاسفة".
    فهو كذب وافتراء على الطائفتين، أما على الأنبياء فلأن إبراهيم وإسحاق ويعقوب كانوا يرون الملائكة أجساما. وقد صرح في التوراة أن" يعقوب" لما عاد من" حوران" إلى" كنعان" عرض له عند قرية" بالق" رجل فصارعه إلى أن أسفر الصبح وقال له في آخر القصة:" أنت إسرائيل لأنك قاومت الملك والرجل".
    فنقول: هذا: إما ملك أو شيطان، وأيهما كان بطلت دعوى هذا في أن ما ذكره مذهب الأنبياء.
    لكن رأيت بعض النصارى قد تدمّغ وزعم أن المصارع ليعقوب هنا كان هو الله وهذا رأي المجانين، وهو نظير قولهم إن المسيح هو الله، وبذلك استدل على هذا.
    يعني: أن الله سبحانه لا يظهر للناس حتى يتأنس بهم ويظهر في مظاهرهم. وأما على الفلاسفة فلأنهم يزعمون: أن الملائكة قوى الأفلاك، والشياطين قوى النفوس الأمارة. والله أعلم.

    انتهى، ويراجع كتاب الطوفي "الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية" (1/392-411).

  3. #3

    افتراضي رد: الإمام الطوفي ورؤيته في قصة الغرانيق

    خلاصة رأي الطوفي:

    وخلصنا من هذا النقل، أن الإمام الطوفي –رحمه الله- يرى صحة القصة، وعلل ذلك بأمور:
    الأول في قوله:
    أن قصة الغرانيق استفاض نقلها بين الأمة، ورواها الثقات. اهـ
    قلت: أما قوله بالاستفاضة، فلأنها رويت في أكثر الكتب التي هي مظان ذكرها، وهي كتب التفسير وأسباب النزول والسير والمغازي وبعض كتب الحديث كمسند البزار، ومعجم الطبراني، والبيهقي، ومختارة الضياء المقدسي، وغيرها.
    وأما قوله " رواها الثقات " فقد يريد بها الرواة المصنفين كابن إسحاق، وموسى بن عقبة، وعبد بن حميد، وابن مردويه، وابن جرير الطبري، والواحدي النيسابوري، والبزار، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن سعد، والبيهقي،،، وغيرهم من الأئمة الذين رووها في مصنفاتهم.
    وقد يريد رواتها الثقات الذين رووها عن التابعين، وقد صحت مرسلة عن أربعة من التابعين الأجلاء وهم: سعيد بن جبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وأبو العالية رُفَيِّع بن مهران الرياحي، وقتادة بن دعامة السدوسى.
    ورويت بأسانيد أخرى عن جمع من التابعين، مثل: محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس المدني، وأبي عبد الله عروة بن الزبير بن العوام، والزهري محمد بن شهاب، ومجاهد بن جبر المكي، والمطلب بن عبد الله بن حنطب، وعكرمة القرشي مولى ابن عباس، وأبو صالح باذام مولى أم هانيء بنت أبي طالب، والضحاك بن مزاحم، والسدي الكبير، ومقاتل بن سليمان، ومحمد بن إسحاق بن يسار صاحب السيرة، وموسى بن عقبة الإمام الثقة.
    وقد رويت هذه القصة موصولة عن صحابيين:
    فرويت عن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما، وقد جاءت من طريقين عنه:
    طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عنه، وصلها الثقة أمية بن خالد بن هدبة، مخالفا الثقات الذين رووها موقوفة على سعيد بن جبير.
    وطريق عثمان بن الأسود عن سعيد بن جبير عنه، وصلها أبو بكر بن المقريء وفيه جهالة.
    وصحح الجمهور إرسالها عن سعيد بن جبير.
    وكذلك رويت موصولة عن محمد بن أنس بن فضالة رضي الله عنهم، وثلاثتهم صحابة، الإبن والأب، والجد، رواها موصولة محمد بن عمر الواقدي عن يونس بن محمد بن فضالة الظفري عن أبيه به، والمتهم برفعه الواقدي.

    الثاني: أنه استدل على صحتها، بأن لها أصلا في الصحيح فقال:
    ويدل على صحتها ما رواه البخاري والترمذي وصححه عن عكرمة عن ابن عباس قال:" سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سورة النجم فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس".
    قلت: فسجود المشركين كان السبب المذكور لأنهم ظنوا أنه قد وافقهم بمدحه آلهتهم وصار الدين واحدا، أو أنهم سجدوا لآلهتهم إعظاما لما سمعوا من مدحها. اهـ
    يريد أن رواية الصحيح أبهمت السجود، وذكرت أصل القصة، فإذا جاء بيان سببها في رواية أئمة ثقات عن التابعين، فهي صحيحة بذلك عنده.

    الثالث: من تعليل قبوله للقصة قوله:
    ولا محذور في هذه القضية بوجه من الوجوه لأن الأنبياء في الحقيقة بشر يجري عليهم الخطأ والنسيان ويتطرق عليهم الشيطان. اهـ
    وذكر ما يعضد ذلك مما جرى للأنبياء قبله، عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.

    الرابع: من تعليله لتصحيح القصة قوله:
    اتفقوا [ أي: العلماء] على أنهم [ أي الأنبياء] معصومون فيما يبلغونه عن الله من الوحي بحيث لا يلحقهم فيه خطأ، وإن لحقهم فيه خطأ بسهو منهم أو تلبيس من شيطان إنسي أو جني نبهوا عليه، ولم يقروا عليه، وهكذا جرى في هذه القصة وأخبر الله أنه يحكم آياته وينسخ ما يلقي الشيطان. اهـ
    أي أنهم ليسوا بمعصومين من الخطأ غير المقصود أو النسيان والسهو، فإن جرى ذلك في الوحي فإنهم ينبهوا ولا يقروا عليه، وفي هذه القصة قد نسخ الله ما ألقى الشيطان ورفع الخطأ، وجرت به الفتنة التي أرادها الله لحكمته، لكلا الفريقين: فريق مؤمن ليزادوا إيمانا وتخبت له قلوبهم، وفريق آخر قلوبهم قاسية مريضة ظالمة في شقاق بعيد ..
    كما قال تعالى ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الحج

    الخامس من تعليله لصحة القصة، قوله:
    وإذا جاز أن يتعرض الشيطان للأنبياء ويسلمون منه فما المانع من أن يتعرض لهم، وينال منهم... فالأنبياء لا يبعد أن ينال منهم ثم يتداركهم الله بعصمته. وقد سحر نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم بعض شياطين اليهود حتى أثر ذلك في أفعاله، ثم شفاه الله تعالى من ذلك، وأنزل عليه المعوذات. وبالجملة. الأنبياء بشر، والبشر عرضة لهذه الآفات وغيرها. ثم يتدارك الله بعصمته من شاء. اهـ
    يريد أن تعرض الشيطان للأنبياء، مهما كان نوع التعرض، إنما هو تعرضا مأمون العاقبة متداركا بالعصمة الإلهية.

    السادس من تعليله في تصحيح القصة:
    قوله: وأما الباطل الثاني وهو إخباره بأن للأصنام شفاعة!! فليس ذلك من إخباره، وإنما الشيطان أخبر به على لسانه. وقد بينا أن لا محذور في ذلك ثم نسخه الله. وإنما كان يتجه القدح أن لو لم ينسخ واستمر لكنه لم يستمر بحمد الله.
    وفسر بعض العلماء إلقاء الشيطان في أمنيته وعلى لسانه بأنه نطق بما نطق به مقارنا لنطقه فاشتبه صوته بصوته. وهو أولى ما يقال. وبهذا يلتغي المحذور بالأصالة جدا. اهـ
    وهو هنا جرى على تأويل القصة كما جرى عليها قبله القاضي عياض وأبو بكر بن العربي وابن عطية الأندلسي على فرض صحتها، وكذلك أولها ابن حجر وغيره من العلماء على أن الملقي هو الشيطان محاكيا صوت النبي صلى الله عليه وسلم في سكتة من سكتات قراءته.
    وقد رويت القصة على الوجهين:
    الأول: جاء في رواية ابن عباس من طريق العوفي، ورواية عروة بن الزبير، والزهري، وموسى بن عقبة، أن الشيطان هو الذي تكلم بها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتلفظ بها.
    بينما عند الجمهور كرواية ابن عباس من طريقي أبي بشر وعثمان بن الأسود، ومن رواية أبي صالح عنه، وفي رواية محمد بن أنس بن فضالة، ورواية سعيد بن جبير، ورواية أبو العالية، ورواية المطلب بن عبد الله بن حنطب، ورواية محمد بن كعب القرظي، ورواية محمد بن قيس، وكذلك الضحاك بن مزاحم، وعكرمة مولى ابن عباس، والسدي، ومقاتل بن سليمان: أن هذه الكلمة جاءت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه تكلم بها على سبيل السهو .
    وأيا كانت الرواية فالقول متجه، وهو أن النسخ رفع القول الباطل، وأن النبي حزن لذلك، فسلاه جبريل وأنزل عليه الآيات من سورة الحج.

    آخره والحمد لله رب العالمين.

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Feb 2008
    الدولة
    السعودية - جدة
    المشاركات
    309

    افتراضي رد: الإمام الطوفي ورؤيته في قصة الغرانيق

    للفائدة ولمعرفة الرأي الآخر في تفسير آيات إلقاء الشيطان الواردة في سورة الحج
    http://majles.alukah.net/showthread.php?95091

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •