أثر القراءات القرآنية في الدّرس النّحوي:

أنزل اللهُ تعالى القرآن الكريم باللّغة العربيّة على النّبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليكون هادياً للناسِ ونذيراً ودستوراً دائماً لهم: (إنَّ أَنزَلنَاهُ قُرآناً عَربِيّاً لَعلّكُم تَعقلُون)(1)، ووعد جلَّ جلاله بصونه من النّسيان والتّحريف، قال: (وإنَّا لَهُ لَحَافِظُون)(2).

وتحقَّق هذا الوعد بفضل جهود النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه- رضوان الله عليهم- وكان ذلك في مظهرين:

الأول: حفظي، ويتمثَّلُ في حفظ النبي وإقرائه الصحابة وعرضه الدّوري على جبريل(3)، وفي جهود الصحابة الذين أتمَّ حشدٌ منهم جمعه(4)، ونشره في صفوف السَّواد من المسلمين.


وحفظ القرآن في القلوب والصدور، حقيقة أشار إليها ابن الجزري(5) بقوله: "ثمَّ إنَّ الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى"(6).

والثاني: كتابي، ويتمثَّل في جهود الصّحابة الأوائل الّذين سجّلوا الوحي للنّبي على قطع متفرّقة من العسب واللِّخاف والرّقاع(7)، وغيرها(8)، ومن هـؤلاء: زيد بن ثابت(9)، وأُبي بن كعب(10) رضوان الله عليهم.

وتابع من بعدهم أبو بكر وعثمان بن عفّان- رضي الله عنهما- هذه الجهود بعد وفاة النبي، فجمع أبو بكر آيات القرآن المتفرّقة وسوره في صحف خاصة(11) أسماها المصحف(12)، ووحّد عثمان مصاحف المسلمين، وجعلها على رسم واحد(13). وهكذا وصل إلينا القرآن الكريم بعيداً عن أيّ زيغ أو تحريف.
ومن هذا المنظور كان لزاماً على علماء اللغة والنّحو الحفاظ عليه من أيّ لحنٍ قد يأتيه من أولئك الذين اعتنقوا الإسلام من غير العرب؛ أو ممَّن كان لاحتكاكهم بالشّعوب الأخرى أثر في لغتهم، فأصاب لسانهم لكنةٌ أبعدتهم عن الفصاحة، ويجب ألاَّ ننسى أنَّ القرآن الكريم هو السبيل للبحث في لغة العرب نثرها وشعرها؛ لتكون معينة على فهمه وتفسيره، وهو وسيلة الاحتجاج التي يعتمدها النّحاة في ضبط اللغة وتقعيدها، حيث إنّ الكثير من قرَّائه أسّسَ قواعد العربية على ما جاء في القرآن، ولا عجب في ذلك فجلهمّ من النحاة: "فمن البصريين: عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وعيسى بن عمر الثقفي، وأبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد الفراهيدي، ومن الكوفيين: علي بن حمزة الكسائي، ويحيى بن زياد الفرّاء"(14).
القـراءات القـرآنيـة:
القراءةُ لغةً: مصدر (قرأ). وأمَّا القراءات اصطلاحاً، فهي: "علمٌ بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو النّاقلة"(15). أي: هي علمٌ ثابتٌ بعزو النّاقلة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا مصـدر له سوى النقل. وذهب الدكتور عبد الهادي الفضلي إلى أنَّها: "النّطق بألفاظ القرآن كما نطَقها النّبي، أو كما نُطِقَتْ أمامه فأقرّها"(16).
أمَّا أبو حيّان الأندلسي، فرأى أنّها: "الوجوه المختلفة التي سمح النّبي صلى الله عليه وسلم بقراءة نصّ المصحف بها قصداً للتّيسير، والتي جاءت وفقاً للهجةٍ من اللهجات العربيّة"(17).
ومهما يكن الأمر فإنَّ القراءات القرآنية توزّعت بين المقبولة والشاذة، ولكن ماذا عن هذه القراءات، المقبول منها والشاذ؟ وماذا عن موقف النّحاة منها؟
آ- القراءات المقبولة:
أخذ علماء القراءات المقبولة بقاعدة مشهورة متفق عليها بينهم، هي: "كلُّ قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت رسم أحد المصاحف، ولو احتمالاً، وصحَّ سندها، فهي القراءة الصحيحة"(18).
وأطلق سيبويه والأخفش على اختياراتهما القراءات القرآنية: القراءات العامة. وسمَّاها الفرّاء قراءات القرّاء. أمَّا ابن سلاّم فوصفها بالكثرة، وهي وإن تعدَّدت أسماؤها، فمعناها واحد، وهو الصحيح المشهور من القراءات(19).
وهناك قوم من القرَّاء جعلوا من القراءات شغلَهم الشّاغل، فاعتنُوا بضبطها أتمَّ اعتناء، حتَّى صاروا في ذلك أئمة يُقتَدى بهم ويُرحَل إليهم، ويُؤخَذ عنهم، وتوزّعوا في كلّ مكان.
فكان بالمدينة: أبو جعفر يزيد بن القعقاع، ثمّ نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، ثمَّ شيبة بن نصاح. وفي مكة: عبد الله بن كثير، وحميد بن قيس الأعرج، ومحمَّد بن مُحيصن. أمَّا بالكوفـة فكان: يحيى بن وثاب، وعاصم بن أبي النجود الأسدي، وسليمان الأعمش، ثمَّ حمزة بن حبيب، ثمَّ عليُّ بن حمزة الكسائي. وكان بالبصرة: عبد الله بن أبي إسحق، وعيسى بن عمر، وأبو عمرو بن العلاء، ثمَّ عاصم الجحدري، ثم يعقوب الحضرمي.
أمَّا في الشام: فكان عبد الله بن عامر، وعطية بن قيس الكلابي، وإسماعيل بنُ عبد الله بن المهاجر، ثمَّ يحيى بن الحارث الذّماري، ثمَّ شُريحُ بن زيدٍ الحضرمي(20).
ولمَّا جاء الإمام أحمد بن موسى بن العباس المشهور بابن مجاهد (ت324هـ)، أفرد القراءات السبع المعروفة، فدوَّنها في كتابه (السّبعة في القراءات)، وكان لها مكانتها في التدوين، ولا عجب في ذلك، فهو لم يأخذ إلاَّ عن إمام اشتهر بالضبط، والأمانة، و ملازمة الإقراء طـوال العمر، وممَّن رأى فيهم مثل ذلك من القرَّاء:
- عبد الله بن عامر اليحصبي الشّامي (ت 118هـ)
- عبد الله بن كثير الدَّاري المكي (ت120هـ).
- عاصم بن أبي النجود الأسدي الكوفي (ت127هـ).
- أبو عمرو بن العلاء البصري (ت154هـ).
- حمزة بن حبيب الزيات الكوفي (ت156هـ).
- نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني (ت169هـ).
- أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي النحوي الكوفي (ت189هـ).
ونتيجة البحث لتحديد القراءات المتواترة، توصّل العلماء إلى قراءات ثلاثٍ تمَّ الاعتماد عليها إضافة إلى القراءات السّبع التي أقرها ابنُ مجاهد، فأصبح مجموع المتواترمن القراءات عشرُ قراءات، وهذه القراءات الثّلاث هي قراءات الأئمّة:
- يزيد بن القعقاع المدني (ت130هـ).
- يعقوب بن إسحاق الحضرمي الكوفي (ت205هـ).
- خلف بن هشام (ت229هـ).
واتفق العلماء المحقّقون على أنَّ هذه القراءات العشر قراءاتٌ متواترةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى إنّهم أثبتُوا تواترها بذكر طبقات رواتها(21).
ب- القراءات الشاذّة:
عُرِف أصحاب القراءات الشاذة بأنّهم خرجوا من دائرة القرّاء العشرة الذين حدَّدهم ابـن الجزري، وانصرفوا إلى القراءة المفردة التي تُعزى إلى بعض الرجال، ومن هؤلاء القرّاء: شُريح ابن يزيد الحضرمي، وطلحة بن سليمان(22). وأفرد ابن النّديم موضعاً خاصاً لتعداد أسمائهم في كلِّ عصرٍ على حدة، فكان من أهل المدينة: عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة المخزومي، وأبو سعيد أبان بن عثمان بن عفان(23)، ومسلم بن جندب(24).
ومن أهل مكّة: ابن محيصن(25)، وحميد بن قيس الأعرج. ومن أهل البصرة: عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وعاصم الجحدري، وعيسى بن عمر الثّقفي. ومن أهل الكوفة: طلحة بن مصرِّف، وعيسى بن عُمر الهمداني(26)، ومن أهل الشّام: أبو البرهسم عوانة بن عثمان الزبيدي(27)، وخالد بن معدان(28). ومن أهل اليمن: محمد بن السميفع(29).
الشـذوذ (لغـةً واصطـلاحاً):
الشذوذ لغةً: ذهب صاحب (تاج اللغة وصحاح العربيّة) إلى أنَّ: "شذَّ عنه يشذُّ شذوذاً: انفرد عن الجمهور، فهو شاذ"(30). و"شاذ عن القياس: أي ما شذَّ عن الأصول"(31). و"الشّاذ: ما انفرد عن الجمهور وندر، والشّاذ المتنحي"(32). و "أشذَّ الشيء: نحَّاه وأقصاه"(33).
ورأى ابن جنّي أنَّ الشّذوذ – كما تصوره المعاجم مجتمعة -: هو التفرّق والتفرّد والنّدرة والخروج على القاعدة والقياس والأصول(34).
والشّذوذ اصطلاحاً: القراءة الشاذّة هي كلّ قراءة خرجت عن مقياس ابن الجزري وأركانه الثّلاثة، وهي ما "أُطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة، سواء أكانت عن السّبعة أم عمَّن هو أكبر منهم"(35).
مثل ذلك قراءة ابن عباس: (وَكَانَ أما مهُم يَأخُذُ كُلَّ سفينةٍ صَالحةٍ غصباً)(36). وهي ممَّا صحَّ نقله عن الآحاد، وصحَّ وجهها العربي، وخالف لفظها خط المصحف(37). وقراءة ابن السميفع وأبي السمال: (لِتَكُونَ لمن خَلفَكَ آيةً)(38)، بفتح اللاّم، وهي ممّا نقله غير ثقةٍ، وغالب إسناده ضعيف(39).
وذهب ابن مجاهد إلى أنَّ القراءة الشاذّة، هي كلّ ما خرج عمّا يرويه في الغالب أحد اثنين عن قارئ من السبعة، وهم: قالون ووَرْش عن نافع، والبزي وقنبل عن ابن كثير، والدوري والسوسي عن أبي عمرو، وهشام وابن ذكوان عن ابن عامر، وشعبة وحفص عن عاصم، وأبو الحارث والدوري عن الكسائي، أو ما يرويه غيرهما عنهم ممّن عرفوا بالضبط والإتقان، وجاءت أسماؤهم في مقدمة كتابه السبعة في القراءات وفي أثنائه(40)، كرواية المفضل الضبي عن عاصم: (وعلى أبصارهم غِشاوَةً)(41) بنصب غِشاوة(42)، ورواية بكار بن عبد الله عن ابن كثير: (غيرَ المَغضُوبِ عَليهم)(43) بنصب (غير)(44).
أمَّا أبو جعفر النحاس، فيرى أنّها كلّ قراءة خرجت عن إجماع الحجّة أو العامة، وكان فيها مطعن، قال: "وقلَّما يخرج شيء عن قراءة العامة إلاَّ كان فيه مطعن"(45).
ويرى ابن جني- هو الآخر- أنّ القراءات الشاذّة: كلّ ما شذّ عن قراءة القرّاء السّبعة(46). أما مقياس ابن خالويه، الحسين بن أحمد (ت370هـ)، فإنّه لا يبتعد عن مقياس ابن مجاهد، إذ يشترط فيه مطابقة اللفظ للمصحف، وصحّة الوجه في الإعراب، وأن يكون الوجـه قد توارثتـه الأمّة(47).
هذه بعض المقاييس التي سار بهديها بعض علماء القراءات، ودعوا لتمثّلها حرصاً منهم على القراءة المقبولة الّتي لا يختلط فيها الشكّ باليقين، وتكون بعيدةً كلّ البُعد عن الشّذوذ، ولكن ماذا عن القراءات القرآنية والدّرس النّحوي؟


الدكتور مزيد إسماعيل نعيم
روفائيل انيس مرجان

___________________________
(1) يوسف: 2.
(2) الحجر: 9.
(3) المستدرك للحاكم النيسابوري 2/ 230.
(4) الإتقان في علوم القرآن 1/ 74.
(5) هو محمد بن محمد أبو الخير شمس الدين العمري الدمشقي، شيخ الإقراء في زمانه ومن حفاظ الحديث (ت833). الأعلام للزركلي 7/ 274، 275
(6) النشر في القراءات العشر 1/ 6.
(7) العسب: جمع عسيب، وهو جريدة النخل. اللخاف: حجارة بيض رقاق، واحدتها لخفة. والرقاع: جمع رقعة، وقد تكون من ورق أو جلد. القاموس المحيط للفيروز آبادي، مواد: (عسب، لخف، رقع).
(8) حديث تأليف القرآن من الرقاع في المستدرك للحاكم النّيسابوري 2/ 229.
(9) ترجمته في معرفة القرّاء للكبار للذهبي 1/ 35، 36.
(10) ترجمته في معرفة القرّاء للكبار 1/ 32، 33.
(11) الإتقان في علوم القرآن 1/ 59.
(12) الإتقان في علوم القرآن 1/ 54.
(13) القراءات القرآنية تاريخ وتعريف لعبد الهادي الفضلي، ص 63.
(14) مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو د. مهدي المخزومي، ص 382.
(15) منجد المقرئين لابن الجزري، ص 3.
(16) القراءات القرآنية تاريخ وتعريف د. عبد الهادي الفضلي، ص 63.
(17) ارتشاف الضّرب – صفحات المحقق- 1/ 47.
(18) النشر في القراءات العشر 1/ 9. (بتصرُّف).
(19) القراءات الشاذّة وتوجيهها النحوي د. محمود أحمد الصغير، ص 80 (بتصرُّف).
(20) النشر في القراءات العشر 1/ 36، 39، 40، 46. (بتصرّف).
(21) منجد المقرئين، ص 48. والقرآن الكريم والدراسات الأدبية د. نور الدين عتر، ص 128.
(22) ترجمته في ( غاية النهاية ) 1/ 341.
(23) ترجمته في تهذيب اللغة ومعرفة القرّاء الكبار 1/ 97.
(24) غاية النهاية 2/ 297.
(25) غاية النّهاية 2/ 167.
(26) معرفة القراء الكبار 1/ 99.
(27) غاية النهاية 1/ 604.
(28) تهذيب اللغة 3/ 118.
(29) الفهرست، ص 30، 31.
(30) تاج اللغة وصحاح العربية (شذذَ).
(31) أساس البلاغة لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري (شذذ).
(32) لسان العرب (شذذ).
(33) تاج العروس (شذذ).
(34) الخصائص لابن جني 1/ 96.
(35) النشر في القراءات العشر 1/ 9.
(36) الكهف: 79. هي في المصحف (وَكانَ وَراءَهُم مَلِكٌ يَأخُذُ كُلّ سَفينةٍ غَصبًا).
(37) النّشر في القراءات العشر 1/ 14.
(38) يونس: 92.
(39) النّشر في القراءات العشر 1/ 16.
(40) أسانيد القراء السبعة، ورواتهم في كتاب السّبعة في القراءات، ، ص 88، 101.
(41) البقرة: 107. (غِشَاوةٌ).
(42) السّبعة في القراءات، ص 139.
(43) الفاتحة: 7. (غيرِ).
(44) السّبعة في القراءات، ص 112.
(45) إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس 1/ 302.
(46) المحتسب 1/ 35.
(47) القراءات القرآنية لعبد الهادي الفضلي، ص 43.

المصدر: مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث العلمية- سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية المجلد (28) العدد (1) 2006م