في الدرر السنية:
سئل أيضا، الشيخ عبد الله، والشيخ إبراهيم ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان رحمهم الله تعالى، عن الجهمية؟
فأجابوا: أما الجهمية، فالمشهور من مذهب أحمد، وعامة علماء السنة رحمهم الله، تكفيرهم، لأن قولهم صريح في مناقضة ما جاء به الرسل، وأنزلت به الكتب، وحقيقة قولهم: جحود الصانع، وجحود ما أخبر به عن نفسه، بل وجميع الرسل; ولهذا قال الإمام: عبد الله بن المبارك: (إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية) .
وبهذا كفروا من يقول: القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وإن الله ليس على العرش، وإنه ليس له علم ولا قدرة، ولا رحمة، ولا غضب، ولا غير ذلك من صفاته; وهم عند كثير من السلف مثل ابن المبارك، ويوسف ابن أسباط، وطائفة من أصحاب أحمد، ليسوا من الثلاث والسبعين فرقة.
وقد بينا لك فيما مضى: أن الإمام أحمد، وأمثاله من أهل العلم والحديث، لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة مرتدون; وقد ذكر من صنف في السنة: تكفيرهم عن عامة أهل العلم والأثر، كاللالكائي، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة له، وابن أبي ملكية، والخلال في السنة له، وإمام الأئمة ابن خزيمة، قد قرر كفرهم ونقله عن أساطين الأئمة.
وقد حكى كفرهم شمس الدين ابن القيم في كافيته، عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم، فكيف إذا انضاف إلى ذلك كونهم من عباد القبور، وعلى طريقتهم؟ فلا إشكال - والحالة هذه - في كفرهم وضلالهم.
وأما إباضية أهل هذا الزمان، فحقيقة مذهبهم وطريقتهم: جهمية، قبوريون، وإنما ينتسبون إلى الإباضية انتسابا، فلا يشك في كفرهم وضلالهم، إلا من غلب عليه الهوى، وأعمى الله عين بصيرته؛ فمن تولاهم فهو عاص ظالم، يجب هجره ومباعدته، والتحذير منه، حتى يعلن بالتوبة، كما أعلن بالظلم والمعصية.
وما ذكر في السؤال: عمن لا يرى كفر الجهمية، وإباضية أهل هذا الزمان، ويزعم: أن جهاد أهل الإسلام لهم سابقا غلو، وهو لأجل المال كاللصوص، فهذا لم يعرف حقيقة الإسلام، ولا شم رائحته، وإن انتسب إليه وزعم أنه من أهله. {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} ، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} .
وأما ما ذكرته: من استدلال المخالف، بقوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا " وأشباه هذه الأحاديث، فهذا استدلال جاهل بنصوص الكتاب والسنة، لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فإن هذا فرضه ومحله في أهل الأهواء، من هذه الأمة؛ ومن لا تخرجه بدعته من الإسلام، كالخوارج ونحوهم، فهؤلاء لا يكفرون، لأن أصل الإيمان الثابت، لا يحكم بزواله إلا بحصول مناف لحقيقته، مناقض لأصله; والعمدة: استصحاب الأصل وجودا وعدما، لكنهم يبدعون ويضللون، ويجب هجرهم وتضليلهم، والتحذير عن مجالستهم ومجامعتهم، كما هو طريقة السلف في هذا الصنف.
وأما الجهمية وعباد القبور، فلا يستدل بمثل هذه النصوص على عدم تكفيرهم، إلا من لم يعرف حقيقة الإسلام، وما بعث الله به الرسل الكرام، لأن حقيقة ما جاؤوا به ودعوا إليه، وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص العمل له، وأن لا يشرك في واجب حقه أحد من خلقه، وأن يوصف بما وصف به نفسه، من صفات الكمال ونعوت الجلال. فمن خالف ما جاؤوا به، ونفاه وأبطله، فهو كافر ضال، وإن قال لا إله إلا الله، وزعم أنه مسلم، لأن ما قام به من الشرك، يناقض ما تكلم به من كلمة التوحيد؛ فلا ينفعه التلفظ بقول لا إله إلا الله، لأنه تكلم بما لم يعمل به، ولم يعتقد ما دل عليه.
وأما قوله: نقول بأن القول كفر، ولا نحكم بكفر القائل; فإطلاق هذا جهل صرف، لأن هذه العبارة لا تنطبق إلا على المعين، ومسألة تكفير المعين مسألة معروفة، إذا قال قولا يكون القول به كفرا، فيقال: من قال بهذا القول فهو كافر، لكن الشخص المعين، إذا قال ذلك لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها.
وهذا في المسائل الخفية، التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء، فإن بعض أقوالهم تتضمن أمورا كفرية، من رد أدلة الكتاب والسنة المتواترة، فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفرا، ولا يحكم على قائله بالكفر، لاحتمال وجود مانع كالجهل، وعدم العلم بنقض النص، أو بدلالته، فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها؛ ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه في كثير من كتبه.
وذكر أيضا تكفير أناس من أعيان المتكلمين، بعد أن قرر هذه المسألة، قال: وهذا إذا كان في المسائل الخفية، فقد يقال بعدم التكفير; وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة، فهذا لا يتوقف في كفر قائله، ولا تجعل هذه الكلمة عكازة، تدفع بها في نحر من كفر البلدة الممتنعة عن توحيد العبادة والصفات، بعد بلوغ الحجة ووضوح المحجة.
وأما قوله: وهؤلاء ما فهموا الحجة; فهذا مما يدل على جهله، وأنه لم يفرق بين فهم الحجة، وبلوغ الحجة، ففهمها نوع وبلوغها نوع آخر؛ فقد تقوم الحجة على من لم فهمها; وقد قال شيخنا، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله - في كلام له -: فإن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسائل خفية، مثل مسألة الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف.
وأما أصول الدين التي وضحها الله، وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة; ولكن أصل الإشكال: أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وفهم الحجة؛ فإن الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} ، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً}. فقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمها نوع آخر، وكفرهم الله ببلوغها إياهم، مع كونهم لم يفهموها، إلى آخر كلامه رحمه الله.
وأجابوا أيضا: لا تصح إمامة من لا يكفر الجهمية، والقبوريين، أو يشك في تكفيرهم؛ وهذه المسألة من أوضح الواضحات عند طلبة العلم وأهل الأثر، وذلك أن الإمام أحمد وأمثاله من أهل العلم والحديث، لم يختلفوا في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة. وقد ذكر من صنف في السنة تكفيرهم، عن عامة أهل العلم والأثر؛ وعد اللالكائي منهم عددا يتعذر ذكرهم في هذه الفتوى، وكذا عبد الله بن الإمام أحمد، في كتاب السنة، والخلال في كتاب السنة، وإمام الأئمة ابن خزيمة قرر كفرهم، ونقله عن أساطين الأئمة.
وقد حكى كفرهم ابن القيم في كافيته، عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم؛ وقد يفرق بين من قامت عليه الحجة، التي يكفر تاركها، وبين من لا شعور له بذلك، وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام، في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس.وعلى هذا القول: فالجهمية في هذه الأزمنة، قد بلغتهم الحجة، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة والجماعة، واشتهرت التفاسير والأحاديث النبوية، وظهرت ظهورا ليس بعده إلا المكابرة والعناد، وهذه هي حقيقة الكفر والإلحاد، كيف: لا؟ وقولهم يقتضي من تعطيل الذات والصفات، والكفر بما اتفقت عليه الرسالة والنبوات، وشهدت به الفطر السليمات، مما لا يبقى معه حقيقة للربوبية والإلهية، ولا وجود للذات المقدسة، المتصفة بجميل الصفات، وهم إنما يعبدون عدما، لا حقيقة لوجوده، ويعتمدون على الخيالات والشبه، ما يعلم فساده بضرورة العقل، وبالضرورة من حقيقة دين الإسلام، عند من عرفه، وعرف ما جاءت به الرسل.
ولبشر المريسي وأمثاله، من الشبه والكلام في نفي الصفات، ما هو من جنس هذا المذكور عند الجهمية المتأخرين، بل كلامه أخف إلحادا من بعض قول هؤلاء الضلال، ومع ذلك فأهل العلم متفقون على تكفيره؛ وكذلك القبوريون لا يشك في كفرهم، من شم رائحة الإيمان.
وقد ذكر شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم، في غير موضع: أن نفي التكفير بالمكفرات، قوليها وفعليها، فيما يخفى دليله، ولم تقم الحجة على فاعله، وأن النفي يراد به نفي تكفير الفاعل وعقابه، قبل قيام الحجة عليه، وأن نفي التكفير مخصوص بمسائل النِّزاع بين الأئمة. وأما دعاء الصالحين، والاستغاثة بهم، وقصدهم في الملمات والشدائد، فهذا لا ينازع مسلم في تحريمه، والحكم بأنه من الشرك الأكبر؛ فليس في تكفيرهم، وتكفير الجهمية قولان.
وأما الإباضية في هذه الأزمنة، فليسوا كفرقة من أسلافهم، والذي يبلغنا أنهم على دين عباد القبور، وانتحلوا أمورا كفرية، لا يتسع ذكرها هنا؛ ومن كان بهذه المثابة فلا شك في كفره، فلا يقول بإسلامهم إلا مصاب في عقله ودينه.