الاهتمام بروح الإسلام ومبادئه الكبرى عوضاً عن التفاصيل – مآلات الطرح واستحالة اطراد التطبيق


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد, أما بعد. فأقول مستعينا بالله:



يدور هذه الأيام طرحٌ يفتَرِض انفصالا ممكنا بين مبادئ الرسالة وتشريعاتها, حيث يقلّل هذا الطرح من أهميّة تفصيلات الأحكام الشرعية ويتحدث عن ضرورة الاهتمام بمبادئ رسالية ومقاصد وأبعاد إنسانية في الإسلام عوضاً عن "الإغراق في التفاصيل".

مآلات هذا الطرح

يؤول فصل هذا الطرحبين المبادئ والتفصيلات إلى تصوّر تحقّق المبادئ دون إقامة التفصيلات, ولا تفسير لذلك الفصل إلا أنّ من يطرحه يظنّ بأنّ أحكام الشريعة لا توصل إلى تلك المبادئ, أو أن غيرها يمكن أن يوصل لها دون الحاجة للتقيّد بها, وهنا يبرز لدينا فصل بين المبادئ والشريعة يؤدي إلى تنحية أحكام الشريعة وتعطيل العمل بها بحجّة الاهتمام بالمبادئ.

وهنا ندعو من يستحسن هذا الطرح إلى التفكير في السؤال التالي: هل يقبل عاقل من أي ملة أن يدعو لمبادئ قانونه ويقلّل من الأحكام التي يراها طريق تحقيقها؟ خصوصا أن أغلب المبادئ الكبرى مشتركة بين عقول البشر بصورتها الإجمالية, فكيف يكون الإنسان داعيا متبنيا حقيقة لقانونه وهو يقلّل من تفاصيله بحجة الاهتمام بالمبادئ الكبرى؟! في حين لا تعطيه تلك
المبادئ ميزة على قوانين غيره إلا إذا فصّل طريق تحقيقها.


فكيف إن كان طريق تحقيق تلك المبادئ الكبرى منهجا وحكما ربانّياً, وفي ذلك المنهج التشريعي يتجلّى تحقيق المبادئ الكبرى بأحسن حكم وأعظم إعجاز تشريعي عرفته البشرية, كما قال تعالى{ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون}, فبروز الشريعة وميزتها في الطريق الرباني الذي يحقق مبادئها, فالعناية بالمبادئ يستلزم العناية بذلك الطريق.

ولو كان الاهتمام بالمبادئ الكبرى يتمثّل في الاهتمام بمبادئ متفق عليها في صورتها الإجمالية بين كل الأمم, فأين تقع إذاً أهمية الشرائع التي بُعث بها الرسل, وما وجه الدعوة لشريعة الله إذا كان المهم هو مبادئ إجمالية لاتختصّ بها الشريعة!

إنّ مآل هذا الطرح إذا تبنّاه الإنسان على المستوى الفردي أو السياسي هو تعطيل الشريعة جملة وتفصيلا, ولو لم يشعر من يطرحه بذلك.

مبدأ الحرية نموذجاً

من المبادئ التي يكثر الحديث عنها في سياقنا هذا مبدأ الحرية, والمشكلة أنّه يطرح هنا دون أن تكون الشريعة سقفا له, ولذا نجد من يطرحه يضرب به أحكاما قطعية الثبوت مثل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فتجد مبدأ الحرية يقدّم على هذا المبدأ على أنّه مبدأ كبير, وبالتالي يجب ألاّ تتدخّل السلطة في منع المجاهرة بمنكر ولو كان قطعياً, بل عليها أن تدع الناس لقناعاتهم, ويصوّرون التدخل هنا بأنّه من قبيل الإكراه, مستدلين بقوله تعالى { لا إكراه في الدين }.

إنّ تنزيل قوله تعالى {لا إكراه في الدين} على إقامة أحكام الشريعة على من تحت حكم الإسلام تعطيل لحاكمية الإسلام وفصل للدين الذي هو طاعة الله عن الحكم, والدولة التي تلغي هيمنة الإسلام على الحكم وتقتصر في ممارسة سلطتها على نطاق القانون الوضعي دون تحكيم للشريعة هي دولة علمانية, هذه حقيقتها السافرة.

إنّ تحميل هذه الآية هذا الفهم يجعلها معطّلة لمبادئ إسلامية أخرى من قبيل إقامة الإمامة الشرعية لدين الله في أرضه وإعلاء كلمته, ومن قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والحكم بين الناس بما شرعه الله, فهذا التحميل حقيقةً تحريف لمعناها, ذلك المعنى الذي يعالج إكراه الكافر على الدخول في الدين ابتداءً, ولا يعالج إقامة أحكام الدين على من دخل فيه أو ضمن حكمه ونظامه التشريعي على التفصيلات التي قرّرتها النصوص الأخرى التفصيلية.

هذا الطرح ينقض نفسه بنفسه
إنّ الدعوة للاهتمام بالمبادئ والمقاصد الكبرى إذا أخذت بشمولية دون تجزئة فستقود للانقياد لتفاصيل الشريعة, إذ أنّ أعظم مقاصد التكليف بالشريعة, بل أعظم مقاصد إرسال الرسل وإنزال الكتب وخلق الجن والإنس هو إقامة العبودية للّه وحده والتسليم لحكمه وتلقّيه بالقبول والرضا والطاعة, وذلك الخضوع والطاعة هو معنى العبودية التي تقوم على ركني المحبة والتعظيم. يقول الشاطبي إمام علم المقاصد: " الشارع إنما قصد بوضع الشريعة إخراج المكلف عن اتباع هواه، حتى يكون عبدا لله " الموافقات2/264.

إنّ المتأمّل لكلمة الإسلام ومشتقاتها في القرآن يجدها تدور حول معنى التسليم والانقياد والطاعة, ولا يتجزّأ هذا المعنى ويختلف باختلاف أنواع الأوامر والأحكام,وهذا بيّن في كلّ أبواب الشريعة, ومن هنا جاء أمره تعالى بالتسليم التام كما أفاد عموم قوله سبحانه: { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السِّلم كافة }.

إذاً إقامة العبودية لله وتحقيق التسليم له هو أساس المقاصد والمبادئ الكبرى, فيستحيل تحقيقها بدونه، ومعنى التسليم يقوم في كل الشريعة لا يختلف باختلاف أبوابها, ولا يتصور قيام التسليم بانتقاء بعض الأحكام يخضع لها ويترك بعض، لأن التسليم مناف للتخيّر, كما قال تعالى:{وما كان لمؤمن ولامؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} فالتخيّر بأمر قضاه الله ورسوله ولو بدا تفصيلياً يتنافى مع تحقّق الإيمان.

وعملياً لو أخذنا الحج كمثال, نجد أنّ من أعظم مقاصد الحجّ إقامة ذكر الله وشهود المنافع, لكن لو حججت ستين مرة تلهج بالذكر ولم تقف ضمن عرفة لاتصح لك حجة, وسِرُّ ذلك في مبدأ التسليم للّه في جملة الأمر وتفاصيله, وليس للإنسان تحت دعوى الاهتمام بالمقاصد أن يهمل أركان الحج وشروطه ولو بدت له تفصيلية, فالاهتمام بهذا المبدأ الأكبر إذاً ينقض طرح من يتذرع بالاهتمام بالمبادئ الكبرى إلى إضعاف الاهتمام بتفاصيل الشريعة.

أسئلة أخرى للتفكّر
لا يجرؤ أحد على التلاعب في تفاصيل العبادات كمثال الحج المتقدم بحجة أن الأهم مقاصدها، ومثلها الأنكحة والمواريث والتي تحاشت أغلب الأنظمة العلمانية التي نحّت الشريعة تغييرها.
إنّ لهذه الأحكام هيبة لمعرفة الناس بما يترتب على الإخلال بها من آثار دنيوية خطيرة من بطلان العبادات وتحريم الفروج وظلم أطراف الميراث, فهل يستطيع أحدٌ من أصحاب هذا الطرح أن يقلّل من أهمية تفاصيل العبادات والأنكحة والمواريث بحجة أن المبادئ الكبرى أهم؟

إنّ ضرورة تسليم المسلم بتفاصيل الأحكام لا تختلف باختلاف أبواب الشريعة إلا إذا آمن الإنسان ببعض الكتاب وكفر ببعض, وإنّ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم شاهدة بعنايته بلإقامة المبدأ الأكبر بالتسليم لله, ولم يكن مفرّقاً بين أوامر الله وأحكامه, حتى تلك التي قد تبدو لبعضنا تفصيلية, فها هو – مثلاً - يأمر رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه بالإعادة, فقال: (ارجع فأحسن وضوءك) والحديث في صحيح مسلم, وفي البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( ويل للأعقاب من النار).
أيضا هل يستطيع أصحاب هذا الطرح ضبط نتائجه, فالتقليل من تفاصيل الأحكام والتركيز على المبادئ يؤدي لنتائج كارثية, فتلك المبادئ قد تتعارض في الظاهر عند النزول للمستوى التشريعي التفصيلي, وينتج عن إطلاق العقل في تقديم المبادئ الكبرى أن تبطل قطعيات الأحكام الشرعية. وهذا الجدول يبين ذلك من خلال مثالين:

مثال1:

المسألة
رجوع المطلقة ثلاثا لزوجها
نتيجة الاهتمام بالمبدأ وإهمال
التفصيل التشريعي:

إعمال مبدأ الرحمة
والحرية ومقصد حماية الأسرة = تحليل
رجوعها

الحكم القطعي المُخالَف :
حرمة رجوع المطلقة ثلاثا لزوجها إلا إذا نكحت زوجا
غيره


مثال2:
المسألة :
التعامل
بالربا

نتيجة الاهتمام بالمبدأ وإهمال التفصيل
التشريعي:

إعمال مبدأ الحرية ومقصد رضا المتعاقدين=تحليل
التعامل بالربا

الحكم القطعي المُخالَف :
حرمة الربا

إنّ عدم استطاعة أصحاب الطرح العمل بطرحهم في إبطال هذه القطعيات لصالح المبادئ الكبرى يبطل تفريقهم بين تفاصيل الشريعة وبين مبادئها الكبرى, ويوجب اعتبار تفاصيل الشريعة طريقا لتحقيق المبادئ الكبرى, إذ أنّ الشريعة بناء, وشأن البناء أن يقوم بكل أركانه وعواميده ولبناته, فالمبادئ الكبرى تحقّقها مبادئ أصغر, ويتسلسل الترابط بين تلك المبادئ التي تقوم بإقامة الأحكام التفصيلية. كما أن أحكام الشريعة تراعي كلّ المبادئ وتقدّم الأعظم منها عند تزاحمها في الصور التفصيلية, وهذا لا يتحقّق بمراعاة المبادئ الكبرى وحدها, ولا تكون هذه المراعاة التفصيلية الدقيقة إلا بالتسليم لأحكام الله الذي وسع كل شيء رحمة وعلما, فتلك الأمثلة أعلاه قيّدت فيها الشريعة الحريّة لدفع فساد أعظم يخلّ بمصالح العباد في تلك الصورة التفصيلية, وعلى هذا فقس كلّ الشريعة,فإنّها قد بنيت على ميزان إلهي لا يقدر على مضاهاته بشر مهما كان علمه وخبرته وتقديره ,كما قال تعالى: { أليس الله بأحكم الحاكمين }.

وهذا يوجب على أصحاب هذا الطرح الرجوع للتسليم لحكم الله وأمره في القليل والكثير, وترك التجزئة والتفرقة بين بنيان الشريعة, تحقيقا لقوله تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً}, وقوله تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }, وليعلموا أنّ الصدود عن حكم الله في أي شأن لاينفع معه ادعاء إرادة الإحسان والتوفيق بالاهتمام بالمبادئ الكبرى, فقد أبطل اللّه تعلّق الصادين بذلك فقال: { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا (61) فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا
إحسانا وتوفيقا (62) } فلم تنفعهم دعواهم تلك في ميزان الله شيئاً. والله الهادي, وهو سبحانه أعلم, وصلى الله على نبينا محمد.


وكتبه/ طارق
عنقاوي

13/6/1434هـ