إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ ، وَنَسْتَغْفِرُه ُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ؛ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ؛ فَلَا هَادِيَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد:
فإِنَّ من الأحاديث الباطلة، والمنسوبة إلى النبي- صلى الله عليه وسلم-: حديث "الإبرة"، والذي يستدل به المتصوفة في زماننا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم- مخلوقٌ من نورٍ؛ ليؤصلوا بذلك لعقيدة "النور المحمدي" و"الحقيقة المحمدية"، والتي هي من أشد العقائد كفراً وإلحاداً، إذ أنها تؤدي في نتيجتها إلى القول بـ(وَحْدة الوجود)، و(الحلول) و(الاتحاد)، ثم إلى الزندقة والإلحاد، وهذا الحديث من الأحاديث التي راجت في بعض البلاد الإسلامية، والتي ينتشر فيها التصوف. وقد سمعناهم يستدلون به في حواراتهم مع أهل السنة والجماعة (أتباع منهج السلف الصالح)، وقد حاولت أن أسهم ولو بشيء قليل في بطلان هذه العقيدة، وذلك ببيان ضعف هذا الحديث عند أهل الصناعة الحديثية، والحذاقة الصيرفية، وكل ذلك باقتضابٍ شديد، واختصار يحتمل المزيد، ومع إني طويلب علمٍ صغير، وبضاعتي مزجاة، فإني لست من فرسان هذا الميدان، ولكن مهتدي بهدي المحدثين، ومقتبس من نور المرجحين، فإلى هذا الحديث:
قال قِوَام السُّنَّة الأصبهاني في "دلائل النبوة" (3/961، 962)(1):
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ: الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِ يُّ الْحَافِظُ بِنَيْسَابُورَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللهِ التَّاجِرُ السَّمَرْقَنْدِ يُّ بِهَا، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ: عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْفَارِسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ: مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْجُرْجَانِيُّ الْحَافِظُ بِسَمَرْقَنْدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَسْعَدَةُ بْنُ بَكْرٍ الْفَرْغَانِيُّ بِمَرْوٍ - وَأَنَا سَأَلْتُهُ فَأَمْلَى عَلَيَّ بَعْدَ جُهْدٍ -، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رَوْمَانَ وَصَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «اسْتَعَرْتُ مِنْ حَفْصَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ إِبْرَةً كُنْتُ أَخِيطُ بِهَا ثَوْبَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَقَطَتْ عَنِّي الإِبْرَةُ، فَطَلَبَتْهَا، فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهَا، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَتَبَيَّنْتُِ الإِبْرَةَ؛ لِشُعَاعِ نُورِ وَجْهِهِ، فَضَحِكْتُ، فَقَالَ: يَا حُمَيْرَاءُ، لِمَ ضَحِكْتِ؟، قُلْتُ: كَانَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا عَائِشَةُ، الْوَيْلُ ثُمَّ الْوَيْلُ - ثَلاَثاً - لِمَنْ حُرِمَ النَّظَرَ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ».
والحديث رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (3/310)( 2).
قال الباحث: وهذا حديثٌ باطلٌ، والإسنادُ ضعيفٌ، فالحديث باطلٌ معنىً وإسناداً:
أما من حيثُ الدراية فاللفظ فيه نكارة، وغرابة، من وجهين:
الأول: ذِكْرُ شعاع نور وجه النبي- صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي-، وهذا لم يُنْقَل في صفاته الخَلْقية الثابتة في كتب أهل العلم، فلو كان هذا من خصائصه لتوفرت وتوافرت الهمم والدواعي لنقله، ولَمَا جَاء إلينا من طريقٍ ضعيفٍ منكرٍ باطلٍ. وأما نور وجهه بمعنى جماله ووضاءته وبهائه- صلى الله عليه وسلم-، وبمعنى نور نبوته وإيمانه فهذا لا ريب فيه ولا شك. ولكن أن يكون النور نورٌ يضيءُ كالمصباح بحيث تُرَى الإبرة الواقعة في الأرض به، فهذا هو محل البحث والإشكال، وهو لم يثبت في الميزان العلمي، ولو ثبت ذلك من خصائصه، لقلنا به دون تردد ولا تلعثم.
الثاني: الدعاء بالويل والثبور لمن حُرِمَ النظر إلى وجهه- صلى الله عليه وسلم-، وهذا يَبْعُد أن يكون من كلام النبي- صلى الله عليه وسلم-، ومن المعلوم أنه- صلى الله عليه وسلم- آمن به أناسٌ في عهده، ولم يتمكنوا من رؤيته، ومَنْ جاء بعده من أمته كلهم لم يروه، بل هو -صلى الله عليه وسلم- قد أثنى على أناس آمنوا به ولم يروه، كما جاء في "مسند أحمد" (20/37)، (رقم:12579) بسندٍ صحيح، من قوله- صلى الله عليه وسلم-: «وَدِدْتُ أَنِّي لَقِيتُ إِخْوَانِي قَالَ: فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: أَوَلَيْسَ نَحْنُ إِخْوَانَكَ؟، قَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَلَكِنْ إِخْوَانِي الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي»، أقول: وليس ذلك فحسب، بل النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «طُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَرَآنِي مَرَّةً، وَطُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَنِي سَبْعَ مِرَارٍ». رواه أحمد في "المسند" (20/37)، (برقم:12578)، وقَوَّاهُ الألباني في "الصحيحة" (3/244)، وقال: شعيب الأرناؤوط في "تخريج المسند"(20/37): ((حسن لغيره)).
هذا من حيث الدراية، وأما من حيث الرواية، فإن الحديث مُعَلٌّ من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن الإسناد فيه: مسعدة بن بكر بن يوسف بن ساسان أبو سعيد الفرغاني.
قال عنه الذهبي: ((مسعدة بن بكر الفرغانى عن محمد بن أحمد أبن عون بخبر كذب))(3).
ومسعدة الفرغاني هذا هنا يروي عن محمد بن أبي عون!، ولعل الحديث المكذوب هو هذا الحديث والله أعلم.
وقال الدَّارَقُطْنِي في ((غرائب مالك)) حدثنا أبو سعيد مسعدة بن بكر بن يوسف الفرغاني، قدم حاجًا، قال حدثنا الحسن بن سفيان ، قال حدثنا أبو مصعب عن مالك ، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما – رفعه: ((مثل المنافق مثل الشاة العائرة ...)) الحديث، قال الدَّارَقُطْنِي : هذا باطل بهذا الإسناد ، والحسن ، وأبو مصعب ، ثقتان ، ولكن هذا الشيخ توهمه فمر فيه، وانقلب عليه إسناده، والله أعلم(4).
الوجه الثاني: فيه سلمة بن الفضل، وهو أبو عبد الله الأنصاري الأزرق الأبرش الرازي قاضى الري، وهو ضعيف لا يحتج بحديثه، وإليك كلام الأئمة فيه:
1ـ قال البخاري: ((عنده مناكير، وفيه نظر))(5).
2ـ وقال النسائي: ((ضعيف))(6).
3ـ وقال ابن حبان: ((يخالف ويخطيء))(7).
4ـ وقال أبو حاتم: ((منكر الحديث))(8).
وقال أيضاً: ((في حديثه إنكار، ليس بالقوي...، يكتب حديثه ولا يحتج به))(9).
5ـ وقال أبو زرعة: ((لا أعرفه))(10).
6ـ وضعفه إسحاق بن راهويه(11).
7ـ وقال ابن عدي: ((وعنده سوى المغازي عن بن إسحاق وغيره إفرادات وغرائب))(12).
ولخص القول فيه الحافظ ابن حجر بقوله: ((صدوق كثير الخطأ)) كما في "تقريب التهذيب" (1/248).
وقد ضَعَّف الحديث الباحث المتفنن في الحديث أبو عبد الرحمن مساعد بن سليمان الراشد الحميد في تخريجه لكتاب الدلائل المسمى بـ"نيل الفضائل في تخريج أحاديث كتاب الدلائل"، وهو اسم على مسمى، وذكر من أسباب ضعفه ضعف الأبرش هذا فقال (3/963، 964): "((صدوق كثير الخطإ)) كما في "التقريب" (2505). لكنه كان قوياً في "المغازي"، فإنه قد سمع "المغازي" من ابن إسحاق مرتين. وقال يحيى بن معين: ((ثقةٌ، قد كتبنا عنه، كان كَيِّساً؛ مغازيه أتمُّ، ليس في الكتب أتم من كتابه))... وممن روى "المغازي" عنه: أبو الحسن عَمَّار بن الحسن الرازي- وهو ثقةٌ كما في "التقريب"... ومن طريق عمار بن الحسن أخرج المصنف هذا الحديث"اهـ.
ولي على كلامه ثلاث نُكَت، وليس ملاحظات:
الأولى: اقتصاره في جرح سلمة بن الفضل الأبرش على قول الحافظ ابن حجر فيه: ((صدوق كثير الخطأ)). وهو اقتصارٌ جيد لو أن الحديث الذي رواه الأبرش حديثاً مستقيماً من حيث معناه، ويشبه أحاديث الثقات، وله شواهدٌ ومتابعات، وكما قال أبو حاتم الرازي عنه: ((يُكْتَبُ حديثه، ولا يُحْتَجُّ به)). ففي هذه الحالة يحسن الاقتصار على كلام الحافظ؛ لأنه تلخيصٌ لكلام الأئمة المتقدمين، أما والحديث باطل وغريب في معناه، والحمل فيه على الأبرش فيحسن هنا سرد كلام الأئمة؛ لأنها أوضح، وستكشف عن حاله حقيقةً.
الثانية: حديثه عن قوته في المغازي، ونقله كلاماً عن ابن معين في ذلك، وهذا حق، ولكن ما الفائدة من تبيان قوته في المغازي، مع أن الحديث ليس في المغازي، وهو - أي الباحث- في صدد بيان ضعف الحديث، فكان الأولى به أن يذكر كلام الأئمة في تضعيفه في غير المغازي، لأن المحك هنا، ولا سيما وأن الحافظ ابن عدي يقول كما نقلناه آنفاً: ((وعنده سوى المغازي عن بن إسحاق وغيره إفرادات وغرائب))، فنحن لسنا بحاجةٍ-في هذا الموضع بالذات- عن قوته في المغازي، بقدر ما نكون بحاجةٍ إلى بيان ضعفه وإتيانه بالغرائب في غير المغازي!.
الثالثة: رواية أبي الحسن عمار بن الحسن الرازي عنه في هذا الباب لا تفيد شيئاً؛ وذلك للآتي:
1ـ لأن العبرة في هذا الأمر بالباب الذي روى فيه الحديث- وهو المغازي-، وليس بالراوي الذي روى عنه - أبو الحسن الرازي- .
2ـ محمد بن إسحاق الذي روى عنه الأبرشي أيضاً كان في المغازي قوياً وثقةً ومعتمداً، فكان ماذا؟، فهل نقل الباحث كلام الأئمة في اعتماده في المغازي؟!.
3ـ من المعلوم والمتقرر أن الأئمة يتساهلون في باب المغازي، ويشددون في الأبواب الأخرى.
الوجه الثالث: فيه محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار، أمره معروف، فهو((صدوق مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين، وعن شر منهم وصفه بذلك أحمد والدارقطني وغيرهما)) .13
قال الدَّارَقُطْنِي : ((اختلف الأئمة فيه، و ليس بحجة ، إنما يعتبر به)).
وقال أحمد بن حنبل: ((ابن إسحاق ليس بحجه))(14).
وقال يحيى بن معين: ((ليس بذاك ضعيف))، وقال مرة: ((ليس بالقوي))، وقال مرة أخرى: ((ضعيف))(15).
وقال النسائي: ((ليس بالقوي))(16).

الهوامش:
1 / "دلائل النبوة" لقِوَام السُّنَّة إسماعيل بن محمد الأصبهاني، حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه وقدم له: مساعد بن سليمان الراشد، دار العاصمة، السعودية- الرياض، النشرة الأولى، 1412هـ.
2 / "تاريخ مدينة دمشق" للحافظ علي بن الحسن بن عساكر، دراسة وتحقيق: محب الدين عمر العمروي، دار الفكر، لبنان- بيروت، 1415هـ- 19995م.
3 / "ميزان الاعتدال" (4/98).
4 / "لسان الميزان" لابن حجر (8/40).
5 / "الضعفاء الصغير" للبخاري (1/55)، وانظر أيضاً: "التاريخ الكبير" للبخاري (4/84).
6 / "الضعفاء والمتروكين" للنسائي (1/47).
7 / "الثقات" لابن حبان (8/287).
8 / "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/170).
9 / "المصدر نفسه" (4/169).
10 / "المصدر نفسه" (4/170).
11 / "الكامل في الضعفاء" لابن عدي (3/340).
12 / "المصدر نفسه" (3/341).
13 / كما في "طبقات المدلسين" للحافظ ابن حجر (ص:51).
14 / "تهذيب التهذيب" (9/38).
15 / "المصدر نفسه" (9/38).
16 / "المصدر نفسه" (9/39).