المبحث الثالث: القيم والمرجعية
قد يبدو في الظاهر وكأن هذا المبحث نشاز ضمن هذا الفصل الذي عني بالمسألة المفاهيمية، لكن المسافة التي تبدو بعيدة بين مبحث القيم والمرجعية ومفاهيم مثل الكونية والخصوصية، والعالمية وعولمة القيم، تصبح أكثر قربا إذا أوضحنا أن الأمر يتعلق بالتدافع القائم بين الأنساق الثقافية والمنظومات القيمية وطبيعة التأويلات المختلفة التي تضفى على "القيم المشتركة".
يزول الالتباس مطلقا، إذا أوضحنا الصورة بتفاصيلها، وتبين أن مجمل القيم التي تم التواضع على أنها "كونية" تحمل تفسيرات وتأويلات مختلفة بحسب النسق الثقافي الذي تتداول فيه. وهكذا، تبدو قيمة "التسامح" التي لا خلاف على كونها "قيمة كونية" أكثر المفاهيم التباسا وذلك بالنظر إلى حجم التأويلات التي تعطى لهذا الاصطلاح ناهيك عن مصطلح "الانفتاح" وغيره.
ولعل أكبر آفة يسقط فيها "العقل الكوني" أنه لم يستطع لحد الآن أن يقدم تعريفات كونية لمجموعة من الاصطلاحات التي بلغت من الشيوع حدا غير مسبوق، فلحد الآن على سبيل المثال، لا يوجد أي تعريف "كوني" لمفهوم الإرهاب مما يجعله أكثر المفاهيم التباسا خاصا حين يدخل حقل الممارسة السياسية، ومن ذلك أيضا الكراهية والتحريض وغيرها من المفاهيم الملتبسة التي يتم التدافع لفرض تأويلات خصوصية لها وإلباسها لبوس الكونية.
هذا الوضعّ، الذي تبدو فيه القيم من حيث الظاهر كونية، ومن حيث تأويلاتها بالغة الخصوصية، يفرض أن نطرح التساؤل أولا عن الآلية التي تتحكم في عملية نقل القيمة من الكونية إلى الخصوصية، ثم ثانيا، عن السبب الذي يجعل هذه القيمة لا تحظى بتفسير عالمي مشترك يرفعها إلى درجة الكونية.
وقبل الإجابة عن هذين التساؤلين، وقبل الخوض في تفاصيل العلاقة المفترضة بين القيم والمرجعية، نضع بعض المقدمات الضرورية فيما يخص مفهوم المرجعية وسياق طرحه والوضع الاصطلاحي الذي آل إليه.
1- المقدمة الأولى: لا نكاد نجد في التعاريف الاصطلاحية التراثية (الشرعية) ما يفيد دلالة على أي معنى من المعاني الذي آل الوضع الاصطلاحي للمفهوم، وغاية من نملكه في إثبات العلاقة بين هذا المصطلح والمفاهيم التي يستعمل بها هو التعريف اللغوي لكلمة المرجع.
2- المقدمة الثانية: إن تأصيل هذا الاصطلاح اعتمد على الفعل أكثر من اعتماده على الوضع الاصطلاحي، ذلك أن عملية العودة (الرجوع) إلى كتاب الله وسنة سول الله أو إلى الفقيه أو الإمام في الفكر الشيعي، هي التي دفعت في اتجاه تأسيس هذا الاصطلاح بهذه الدلالة.
3- المقدمة الثالثة: أن الوضع الاصطلاحي للمفهوم هو أكثر ذيوعا في الفكر الشيعي منه في الفكر السني لارتباطه بالشخص (الإمام) أو المؤسسة، بخلاف الفكر السني، فإن دخول هذا الاصطلاح إليه، إنما كان من باب تسمية العملية الأصولية التي تخصر مصادر التشريع الأصلية في القرآن والسنة، حتى صارت كلمة المرجعية لا تعني سوى الرجوع إلى الكتاب والسنة، والتماس المفاهيم كما الأحكام من هدي هذين المصدرين ومقاصدهما.
4- المقدمة الرابعة: بالإضافة إلى التأصيل السابق، يرجع اعتماد هذا الاصطلاح (المرجعية) في الفكر الإسلامي المعاصر إلى التأثير الذي أحدثته كل من الدراسات اللسانية خاصة مع جاكوبسون في نظريته التواصلية حيث استعمل المرجع كمكون من مكونات الوظيفة التواصلية(24)، وأيضا تاثير الدراسات الإيبستمولوجية خاصة مع باشلار حينما استعمل المرجع في تحديد الرؤية إلى العالم في كل من فزياء نيوتن وفزياء إنشتاين(25).
5- المقدمة الخامسة: إن اصطلاح المرجعية تم تأصيله داخل الفكر الإسلامي بالإحالة على المصطلح الأصولي " أصل" والذي يراد به الدليل الإجمالي (الكتاب والسنة)، وبالإحالة أيضا على مفهوم الرد إلى الله ورسوله لاسيما عند وضعية التحكيم والتحاكم التي تكثر فيها التأويلات والتفسيرات وتحتاج إلى حسم، فكانت الدلالة المفهومية للمرجعية هي عملية الحسم التي تنتج عن عملية الرجوع إلى الأصول.
بعد هذه المقدمات الضرورية، نستعير تصنيفا إجرائيا ثلاثيا لمنظومة القيم أورده الدكتور خالد الصمدي في تقديمه لكتاب مدونة القيم للأستاذ محمد بلبشير الحسني، وفصله في موضع آخر(26) ونعتمده أساس لإثبات العلاقة بين القيم والمرجعية، حيث جعل لها ثلاثة أركان:
1- القيمة: وهي طابع كوني مطلق غير قابل للتحول، ولذلك لا خلاف بين الشرق والغرب وبين الحضارات جميعا في تقدير القيم الفاضلة والاعتراف بأهميتها وضرورتها مهما اختلفت الأديان والمعتقدات والملل والنحل.
2- المرجعية: ويقصد بها المرجعية التي تستند إليها القيم لتضمن الاستمرار في سلوكات الإفراد والمجتمعات.
3- المفهوم: وهو الدلالة التي تأخذها القيمة حين تستند إلى مرجعيتها
ففي المستوى الأول، لا يكون هناك على سبيل المثال أدنى خلاف حول قيمة العدالة أو المساواة أو الحرية، لكن حين تستند هذه القيم إلى مرجعياتها تكتسب دلالات مختلفة بحسب اختلاف المرجعيات، وهكذا يأخذ التسامح في المنظومة القيمية الإسلامية مفهوما مختلفا عن المفهوم الذي يحمله في المنظومة القيمية الغربية، وكذلك الأمر في بقية القيم الأخرى التي تكتسب دلالاتها من مستندها المرجعي.
حاصل هذا التصنيف، أن القيم تبدأ كونية من حيث الاعتبار، وتنتهي بالخصوصية عند التأويل والتفسير، ولا يكتسب الفهم الذي تعطيه المرجعية لهذه القيم طابع الكونية إلا إذا اكتسبت المرجعية ذاتها هذا الطابع.
وهكذا، يتحول النقاش والسجال الفكري من ثنائية القيم الغربية/ القيم الإسلامية، إلى إشكالية أكثر دقة وحسما وهي ثنائية المرجعية الغربية/ والمرجعية الإسلامية.
هذا الاستنتاج يسمح لنا على الأقل بتجاوز زيف الطرح الإشكالي لمفهوم القيم الكونية، لأن القيم، حسب التصنيف الإجرائي الذي استعرناه، كلها كونية قبل أن تكتسب دلالاتها في السياق المجتمعي من المرجعية الحاكمة والمهيمنة، لكن التفسيرات التي تضفى عليها والدلالات المفهومية التي تأخذها لا تستطيع الحفاظ على هذا الطابع إلا إن اكتسبته في سياق حواري بين المرجعيات وانتهى إلى اعتبار هذه القيم بمفاهيمها التفسيرية مشتركات إنسانية.
والحال، أن غياب هذا الفعل الحواري بمواصفاته وشروطه يجعل أقرب طريق لإكساب هذه القيم طابع الكونية هو الهيمنة وفرض النموذج القيمي السائد على الشعوب المستضعفة، بل واستهداف المرجعيات، وإخلاء الساحة لمرجعية واحدة هي المرجعية "الكونية"!!