تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: الرد على كلام د. علي جمعة في مسألة "تطبيق الشريعة"..

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    المشاركات
    3,278

    افتراضي الرد على كلام د. علي جمعة في مسألة "تطبيق الشريعة"..

    الحمد لله وحده، المتفرد بالخلق والأمر والسلطان، القائل في محكم التنزيل: ((ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)) [الحج : 32] والصلاة والسلام على النبي العدنان، محمد بن عبد الله وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، وثبت على هديهم ونهجهم ما تقلبت به الأمصار والأزمان،

    أما بعد،
    فقد وقفت على كلام خطير (وإن كان قديما) للدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية في فتوى من فتاواه التي جمعها في كتابه (البيان لما يشغل الأذهان) بشأن قضية تطبيق الشريعة، وهي الفتوى رقم 16 (ج1، ص47)، وهي جواب سؤال نصه: "كيف تطبق الشريعة في العصر الحديث؟ وما هي النسبة التي تمثلها الحدود من مجموع الشريعة الإسلامية؟" وقد انتشرت هذه الفتوى على المنتديات كمقال مستقل تحت عنوان "حقائق حول تطبيق الشريعة والحدود"، رأيت فيه من الشبهة الأصولية ما أعده آية على ما قد يصل إليه العالم من تضييع وتعطيل لشرع الله تعالى بدعوى تطبيق الاستدلال المقاصدي والاستناد إلى "روح الشريعة" ومراعاة تغير الأحوال في الفتيا، وغير ذلك من مسالك كلية هي صحيحة في نفسها لو أحسن الأصولي تنزيلها! ذلك أن الدكتور جمعة - هداه الله - في هذا المقال قد اتخذ من تلك المسالك مطية إلى ما بمثله تنهدم الشريعة كلها، وتضيع سائر شعائرها ومعالمها وأحكامها (كما سيأتي من إلزامات في أثناء هذا الرد)! فانتهى الدكتور إلى تقرير كلام كان ولا يزال هو ومن يوافقونه فيه يسوغون به البقاء على تعطيل الحدود الجنائية لحكام المسلمين في زماننا في كثير من بلاد المسلمين، والرضى باستبدال القانون الوضعي بها، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وكفى به مدعاة للحسرة والندامة أن يصبح كلام الفقيه حجة لكل مفسد مبغض لشرع الله تعالى، بل يصبح كلامه تكأةً لكل زنديق يريد الانخلاع من دين رب العالمين، يقول "لقد تغير الزمان ولم تعد تلك الحدود تصلح للإقامة في بلادنا"، نسأل الله السلامة!

    وفي الحقيقة فإنما حملني على الرد على هذا المقال أنني رأيته منذ ثلاث سنوات أو يزيد وإلى يومنا هذا لم يقيض الله له من يرده ردا علميا رصينا ينقض بنيانه بالحجة والبرهان، على خطورة ما فيه من شبهة! وقد عاد هذا المقال للظهور والرواج في هذه الأيام لأسباب لا تخفى، ولا يزال الناس في حاجة إلى من يبين لهم وجه الحق ويرد الشبهة، في خضم تلك الحملة الفاحشة في سائر وسائل الإعلام على الشريعة وتطبيق الشريعة وإقامة الحدود الجنائية، والله المستعان لا رب سواه!

    يقول الدكتور علي جمعة في مستهل الفتوى أو المقال: "قضية تطبيق الشريعة لا بد أن تفهم بصورة أوسع من قَصرها على تطبيق الحدود العقابيةبإزاء الجرائم، كما هو شائع في الأدبيات المعاصرة، سواء عند المسلمين أو عند غيرهم،حيث إن تطبيق الشريعة له جوانب مختلفة، وله درجات متباينة، وليس من العدل أن نَصفواقعاً ما بأنه لا يطبق الشريعة لمجرد مخالفته لبعض أحكامها في الواقع المعيش، حيثإن هذه المخالفات قد تمت على مدى التاريخ الإٍسلامي وفي كل بلدان المسلمين ودولهمبدرجات مختلفة ومتنوعة، ولم يقل أحد من علماء المسلمين إن هذه البلاد قد خرجت عنربقة الإٍسلام أو إنها لا تطبق الشريعة، بل لا نبعد في القول إذا ادعينا أن كلمةتطبيق الشريعة كلمة حادثة."

    قلت، أما قول الدكتور إن قضية تطبيق الشريعة لا يصح أن تقصر على مسألة تطبيق الحدود العقابية وحدها، فلا يُختلف على صحته بالجملة! ولكن لا يخفى على مثل الدكتور أن ما جعل من مسألة الحدود الجنائية محورا لجهود المنافحة عن تطبيق الشريعة عند علماء الأمة من زمان السنهوري باشا وغيره في زمان الخديو إسماعيل وإلى يوم الناس هذا، أنها كانت ولا تزال أظهر ما أسقطه دعاة التغريب في مصر تحت شعار النهضة والرقي الثقافي والحضاري الذي كاد أن يذهب بعقل ودين الخديوي إسماعيل كما لا يخفى على قارئ منصف لتاريخ مصر الحديث! وأقول (قارئ منصف) لأني أعلم أن الدكتور جمعة من أشد الناس دعوة (متبعا في ذلك سلفه محمد عبده وغيره من رؤوس تلك الدعاوى التنويرية) إلى قلب موازين ما اتفق عليه عقلاء الأمة من علماء الأزهر الشريف وغيره من معاقل العلم الشرعي في بلاد المسلمين على أن ما شهدته مصر في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي كان في حقيقته انسلاخا من شريعة الإسلام واستيرادا لشرائع أخرى وافدة أدخلها من أدخلها من دعاة التغريب لانبهارهم بزخرفها ولانهزام نفوسهم بإزاء ما رأوه في تلك البلاد من تطور شاسع في سائر الصناعات والعلوم الدنيوية! كيف يلبس الإنسان المصري المتحضر البدلة والكرافتة في مطلع القرن العشرين، ويركب السيارة ويذهب إلى المسرح ويقرأ فلسفات وأشعار الأمة المتغلبة الرائدة ويسبح بحمد فلاسفتها ومبدعيها في كل المجالات ليل نهار عساه أن يصيبه من نور نهضتها ما ينجو به من تخلفه وجهله، ومع ذلك تظل محاكمه على تشريع يلزمه بأن يحفر حفرة للزاني والزانية يرجمهما حتى الموت، بدعوى الدين والتشريع الديني؟ هذه أشياء يجب أن تزول حتى تستنير بذلك العقول!
    هذا هو بيت القصيد وأصل القضية عند من أطلقوها في بلادنا قبل قرابة قرن ونصف من الزمان، وراحوا يلبسونها لبوس التجديد الفقهي ليغتر بها العوام والجهلاء، ويقع فيها بعض من تمكنت الفتنة من نفسه من العلماء والفقهاء! إنه أقرب شيء عرفه تاريخ المسلمين الحديث مثلا إلى صنيع أصحاب السبت من بني إسرائيل ولا حول ولا قوة إلا بالله!

    في سلسلة مقالات نشرها الدكتور جمعة في جريدة الأهرام المصرية، وهي الآن منشورة على موقعه الرسمي على الشبكة بعنوان (التجربة المصرية)، ذهب الدكتور هداه الله إلى حدّ لم أر مثله من قبل في المغالطة الاستدلالية للانتصار لما ورثه عمن أسماهم "بآباء القانون المصري"، فكان هجيراه من أول السلسلة إلى آخرها بما حاصله: "لا تكفروا هؤلاء فإنما كان القوم أهل اجتهاد وعلم، وكانوا حريصين على لزوم شريعة الإسلام بما أدخلوا فيها من قوانين مستوردة!" ونقول إن الدكتور بهذا المسلك يصادر على أصل المسألة (وما أخطرها من مسألة!)! فبغض النظر عن حكم إسلام هؤلاء من عدمه، كيف يصوب الدكتور ما صنعوه بهذه السهولة، ليس هذا فحسب، بل يطالبنا بإعادة قراءة تاريخ تلك التجربة حتى تكون مثالا يحتذى في التشريع في سائر بلاد المسلمين، تُتلمس فيه الوسطية بين ما يعده هو من الإفراط وما يراه من التفريط؟ كيف يطمع الدكتور هداه الله في الدفاع عن حال القانون المصرية بما يستند إليه من كون الزمان زمان جهل وشبهة وضرورة، ثم هو في نفس الوقت يدعونا إلى تقرير هذه التجربة وإثباتها بل ونقلها إلى بلاد كالمملكة السعودية وغيرها، مراعاة لروح العصر ولأحوال الزمان وللوسطية المزعومة؟

    يقول في مطلع المقال الأول من السلسلة المذكورة: "النموذج المصري نموذج يستحق الدراسة في ماضيه وحاضره ومستقبله، وذلك لأنه نموذج رائد، ولأنه أيضا نموذج فريد، ولأن النماذج التي جاءت من بعده تحتاج إلى إعادة تقويم،"
    فهل كان منظرو القانون المصري في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلادي يتحركون من منطلق مراعاة جهل الجاهلين من العوام في ذلك الوقت، وتخلف شروط تطبيق الحدود الجنائية في عموم البلد قياسا على عام الرمادة كما يدعي الدكتور هداه الله ومن ينتصر لهم من سلفه التغريبيين، أم كان الأمر من منطلق إشباع التطلعات الخديوية الواسعة للارتقاء الشامل بالبلاد من خلال الانفتاح التام على أوروبا وما هو معمول به عند الأوروبيين على شتى الأصعدة، ومخالفة الدولة العثمانية والانفصال عن نظامها التشريعي كله تأكيدا لانفصال سيادة أسرة محمد علي باشا عن الباب العالي، والانطلاق في بناء الدولة على النوذج الأوروبي العلماني عوضا عن النموذج العربي الإسلامي؟

    إن القارئ المنصف لتاريخ مصر في ذلك الزمان يدري تمام الدراية ويرى بجلاء لا يتطرق إليه الخفاء، أن عامة المصريين كانوا في عافية (بغض النظر عن غلبة الجهل عليهم في علوم الدنيا) مما ابتليت به تلك الحفنة من المفكرين والأدباء "التنويريين" من الافتتان بأضواء فرنسا! وكان التعليم الديني لا يزال هو التعليم السائد في عموم الناس، المطروقة سبيله من نعومة الأظفار، وكان لعلماء الأزهر الشريف صوتهم المسموع في ديار المسلمين، وكان الناس يعظمونهم ويوقرونهم بما هم أهله وينزلونهم منازلهم! ولم يكن للنصارى ثمة صوت في إثارة الشبهات والاعتراضات على الشريعة وما كانوا يجترئون، ولم يكن للعلمانيين "شعبية" ولا حضور أصلا، وإنما كان مهد دعوتهم الغريبة في بلادنا في تلك الأيام على أيدي دعاة التغريب هؤلاء! وكان العُبَّاد والزهاد (بل والمتصوفة الذين يدين الدكتور بصدق ولايتهم لله تعالى وصحة مسلكهم إليه إجمالا) شتى في صفوف المصريين يومئذ تراهم في كل مكان! فهل كان هؤلاء في تلك الأيام، في زمان تفتقد فيه شهادة العدول وتسقط معه شرائط الحدود هكذا جملة واحدة؟ سبحانك ربي هذا بهتان عظيم!

    لقد كانت الحدود الجنائية هي التشريع المعتمد في باب العقوبات في مصر، بما في ذلك الباب من تعزيرات وعقوبات شرعية أخرى تجري على وفق أحكام الشرع على مذاهب أهل السنة في ذلك، وبما فيه من أحكام وضوابط لحالة الضرورة لم تكن أبدا لتلجئ أئمة المسلمين على امتداد قرون الأمة المتطاولة إلى الأخذ عن تشريعات الأوروبيين أو غيرهم في تلك الحال المعنية أو غيرها! وما قال أحد من علماء البلاد إن تخلف شروط الحدود الجنائية – مهما طال أمده في البلاد - يسوغ لنا حذفها من المرجعية القضائية نفسها ووضع غيرها من الشرائع والقوانين المستوردة في مكانها!
    هكذا كان الحال في أرض الكنانة إلى أن خرج عليها محمد علي باشا وأولاده (لا سيما إسماعيل) وسدنتهم من المنظرين بمطلبهم الشيطاني الأثيم، وانبرى "آباء القانون الجنائي" في اختراع الحجج الكلامية التي تنتقض بها تلك الأحكام ويُتحايل بها على تعطيلها، لعلنا "نبرأ" من تلك الخصال التي رمانا المستشرقون الأوروبيون بالتخلف بسببها، وحكم علينا مفكروهم بسببها بأننا لا رجاء لنا في الرقي والتطور والنهضة إلا بإسقاط تلك الأحكام "الشنيعة"، وبإذابة سلطان الفقهاء والعلماء الشرعيين على العملية القضائية نفسها، كما كان صنيع الليبراليين الأوروبيين الذين اتخذهم أئمة التنوير في مصر يومئذ سادة لهم وأئمة! ومن أراد الوقوف على مواقف علماء الأزهر وقطاعات من المصريين معهم في مقاومة تلك الدعاوى في ذلك الوقت فسيجد ذلك في مظانه ولن يعدمه!

    لذا فلا عبرة بمن كان وقوعه في تلك الفتنة يومئذ من خطإ في الاجتهاد، كما قد يقع العالم المنضبط في عموم أمره ومنهجه في موافقة المبتدعة والضلال فلا يلحق بهم حكما! فلا قيمة في ميزان العلم لاستناد الدكتور في انتصاره لتلك المصيبة التي يدافع عنها إلى العلامة فلان والشيخ فلان من مشايخ ذلك الزمان! ولو كان صادقا لساق موقف الأكثرية لا تلك الأقلية الشاذة، ما دام لا يجد من الأدلة العلمية ما يقيم به دعواه سوى القول بأن هؤلاء قوم لا يساء الظن في نواياهم ولا يتواطؤون على مفسدة! فإن قال لسنا في مقام استدلال وإنما في مقام استئناس، فدع عنك أننا لم نر الدليل في شيء مما كتب في هذه المسألة إلى الآن، فإن العدل والإنصاف والتجرد الذي يطالبنا به يفرض عليه ويقتضي منه أن يسوق الصورة التاريخية للنزاع العلمي الذي جرى في تلك الأيام سياقا كاملا لا على هذا الوجه الانتقائي العوير! وسيأتي معنا في سياق هذا الرد المستفيض بيان أوجه المغالطات الاستدلالية في كلام الدكتور هداه الله كلُّ في محله!

    تأمل أيها القارئ الكريم قول الدكتور هداه الله في مقاله (التجربة المصرية (2)) تعقيبا على صنيع السنهوري باشا في وضعه لقانون الجنايات المصري:
    " وتوجهه هذا لاقى معارضة شديدة من كثير من علماء الأزهر الشريف، خاصة أصحاب الدراسات القانونية في السربون، ولعل أعظمهم هو عبد الله حسين التيدي الذي ألف كتابًا تحت عنوان (المقارنات التشريعية) في أربع مجلدات أصدرناه أيضا من دار السلام، لتتم هذه المجموعة لدراسة التجربة المصرية، وهو يعارض منهج السنهوري باشا، ويرد عليه، لكن أبدًا لم يكفره، بل اعتبره متبنيًا لنموذج معرفي آخر، مع بقاء نموذجنا المعرفي قادرا على العطاء، ومن الغريب أن لجنة مراجعة مشروع السنهوري باشا، والذي صار بعد ذلك هو القانون المدني المصري لم يكن فيها أحد من أولئك المعارضين." اهـ.

    قلت تأمل قوله بأن المعارضين كان كثير منهم من دارسي القانون في السربون، يتكلم وكأنما يحدثنا عن قوم درسوا علوم الذرة في جامعات أوروبا ورجعوا إلينا بالقنبلة الذرية، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وهذا غير صحيح، بل كانت قاعدة المعارضة ممثلة بالأساس في علماء الشرع الربانيين من سادة الأزهر الشريف ورجالاته، رحمهم الله جميعا، وهو يدري ذلك الأمر جيدا ويشهد به في غير هذا الموضع! فهل غاية ما يريده الدكتور مما كتب في تلك السلسلة، الدفاع عن السنهوري باشا ضد من حكموا بكفره وردته؟ فإن لم يكن كذلك، فأين الأدلة العلمية على صحة ما صنع الرجل ومن عاصروه وواطنوه ومن تابعوه من بعده؟ وكيف يصر على الدفاع عن هؤلاء الآباء القانونيين وهو يشهد بلسانه بأن لجنة مراجعة "المشروع السنهوري" لم يكن فيها أحد من أولئك المعارضين (الذين هم الكافة من علماء الأزهر ومشايخه يومئذ إلا من شذّ منهم وبَعُد)؟
    لهذا نبه وحذر العلماء الربانيون في المملكة – حفظها الله تعالى – من خطورة دعوى تقنين الشريعة (على النسق الأوروبي في وضع مواد القانون والأحكام القانونية) بما يفوت على المفتي والقاضي الشرعي حقه – بل واجبه - في تغيير اجتهاده من حالة إلى أخرى وفق ما تؤديه إليه القرائن والأحوال منضبطا في ذلك بأصول مذهبه القديم أو الجديد إن ترجح لديه تغييره، ويفتح الباب لتلاعب فلاسفة القانون الوضعي بنظام القضاء الإسلامي المتبع في البلاد تمهيدا لإقصاء الشريعة عن القضاء (كما عن سائر السلطات وعن مطلق السيادة في البلاد) على خطوات!

    فالسؤال الآن: أي عموم لضرورة أو جهل أو فساد هذا الذي يتذرع به الدكتور وآباؤه الذين يقلدهم في ذلك؟ وعلى التسليم – تنزلا - بأن الزمان كان زمان شبهة (وسيأتي التفصيل في أمر هذا الاصطلاح في محله)، فكيف يستوي من درأ الحد الشرعي لقيام الشبهة وتخلف الشروط في هذه الحالة أو تلك عند من يفقه دين الله تعالى، بمن نسخ تشريع الحدود نفسه رأسا ووضع قانونا بشريا في مكانه؟ هل يستوي التعطيل العارض المشروط (وفق ضوابط شريعة ما)، بالتبديل (الانتقال الدائم إلى شريعة أخرى)؟ وهل هذا ما صنعه عمر رضي الله عنه، الذي يزعم القوم أنه سلفهم في تبديل الحدود؟ هل انبرى عمر والصحابة بعد عام الرمادة يدعون الناس للبقاء على الجهل والشبهة، يجعلون في مكان الحدود الشرعية قوانين فلاسفة التشريع من الكفار؟ بالله كيف يستساغ اجتهاد كهذا ويقال إن صاحبه يدور بين الأجر والأجرين، وأن أصاحبه كانوا يضعون الحفاظ على الشريعة نصب أعينهم؟ نعوذ بالله من الخذلان!

    إن الدكتور هداه الله يستهل سلسلته المذكورة بجملة من التساؤلات التي حاصلها "كيف نكون بلدا متحضرا متقدما يواكب العصر؟"، وذلك في معرض التمهيد لإقناع القارئ بنفس الشبهة التي يبثها العلمانيون والملاحدة من كون تلك الأحكام الجنائية وغيرها مما أطبق عليه المسلمون على امتداد تاريخهم وكان معمولا بها في شتى أقطار الأمة من زمان الوحي وإلى وقت قريب، هي السبب في التخلف وتحجر الفكر الذي ابتلينا به في قروننا المتأخرة، إذ لم تعد تلك التشريعات تصلح لاستيعاب المستجدات العلمية والفكرية الوافرة التي صارت تنهال على رؤوسنا كالمطر! إنه لمما يؤسَف له حقا، أن أجدني مضطرا إلى كتابة ما سأكتبه الآن، في الرد على مثل الدكتور علي جمعة هداه الله!
    فإنه لا يسعني ولا يسع أي عاقل يعظم شعائر الله تعالى وحدوده، وهو يقرأ كلام الدكتور إلا أن يتساءل: ما العلاقة – أصلا – بين التشريع الجنائي الذي شرعه الله تعالى وبقيت عليه الأمة قرونا طويلة، وبين التطور في الانترنت والصناعات المختلفة، والانفتاح على ما عند "الآخر" من علوم ومعارف نافعة، وما عنده من تطور في سائر الصناعات والأنظمة الإدارية وغيرها مما سبقنا فيه الغرب؟ الجهة منفكة أصلا بين القضيتين! بل لو قال قائل إن استقرار المجتمع وفشو الأمن فيه (الذي يسهم فيه ولا شك تطبيق نظام رادع للعقوبات لا تهاون فيه، يؤمن المسلمون بأنه لا شيء يعلو عليه في باب الردع وحفظ الأمن) يفضي ولابد إلى خلق بيئة اجتماعية حاضنة للرقي العلمي والفكري، تعين المبدعين على بذل مساعي الرقي والإبداع في كل ما هو نافع ومفيد = لكان قوله هذا مما تدعمه الفطرة السوية وتدل عليه بداهة العقل بما يغني عن الاستدلال لإثباته!

    فلا نحتاج إلى أن نوقف الدكتور أصلحه الله – كما نوقف العلمانيين والملاحدة – على الدليل التاريخي الذي يبرهن لرقي بلاد المسلمين في علوم الدنيا في عصور كانت أوروبا فيها تتمحض في الجهل والانحطاط، وكانت السيادة القضائية في بلادنا تامة مطلقة للشريعة الإسلامية دون عبث من فلاسفة التغريب والحداثيين وغيرهم ولا تطرق لشبهة كهذه أصلا! لذا فإنه من العجيب حقا – بل من المضحك المبكي - أن يشير الدكتور جمعة في سياق مقاله المذكور إلى أن بعض أقسام القانون الوضعي المأخوذ من أوروبا يقال إن أصله كان مأخذوا عن المذهب المالكي الذي كان شائعا في بلاد الأندلس!

    تأمل قوله هداه الله في المقال الثاني من السلسلة يصف صنيع الخديوي إسماعيل في سعيه للتلفيق بين شريعة الإسلام والقانون الفرنسي:
    " وكان حريصًا على إيجاد علاقة بين القانون الفرنسي المأخوذ أساسًا من تشريعات لويس، والتي قيل إنها تأثرت بالفقه المالكي عبر الأندلس،" قلت كيف رضي الدكتور جمعة لنا بأن نترك الأصل المجمع عليه لدى الفقهاء والأئمة ونرضى ببضاعة مزجاة من وضع قوم كفار "قيل" – وتأمل - إنهم تأثروا فيها بفقه المسلمين وتشريعهم؟ أهذا ما به يستدل على صحة مسلك الخديوي ورجاله فيما أرادوا وما صنعوا؟ يا له من خُلف يحار فيه العقلاء!

    إن الخلط والتلبيس في هذا الكلام إنما مرجعه بالأساس إلى المساواة النظرية المفتعلة بين قضيتين كليتين لا تستويان بحال، كلتاهما يضعهما الدكتور ومن وافقه في كفة التجديد في أصول الفقه وفي علوم الشريعة بعموم! أما القضية الأولى فحقيقة نشهد بها ونتفق مع دعاة التجديد الفقهي من العلماء والعقلاء في ضرورة النظر فيها وبذل الجهد لاستنباط أحكام الشرع فيها (وإن شئت فقل: التجديد فيها) تأصيلا وتفريعا، ألا وهي قضية ظهور الحاجة إلى الاجتهاد بما يغطي كثيرا من المستجدات والنوازل الإدارية والسياسية المعاصرة فيحقق لبلاد المسلمين أحسن ما يمكن أن يكون من استفادة بما ينفعهم مما ابتكرته عقول معاصريهم في الغرب من نظم معقدة ومتراكبة تخدم مصالح مشروعة لدينا بالجملة. ومثالها الاجتهاد في قضية حقوق الملكية الفكرية وما تحتها من تشعبات كثيرة، والاجتهاد في قضية خصوصية المعلومات على شبكة الانترنت وسائر ما يتعلق بتلك الشبكة من نوازل ومستجدات، لها ما وضعه الغربيون من قوانين تنظمها عندهم! ومن ذلك النظر الفقهي الدقيق فيما يسمى بوثيقة آداب وأخلاقيات المهنة التي يضعها المختصون في سائر المهن والفنون العلمية والعملية الحديثة في بلادنا تقليدا للغرب دون مرجعية شرعية تذكر مع أن كثيرا منها يحتاج إلى لجان علمية متعددة التخصصات من كبار الفقهاء وكبار العلماء في كل مجال من تلك المجالات، فإن فيها مسائل حادثة دقيقة لو عرضت على كبار الصحابة لتهيبوا من الإفتاء فيها، ولجمع لها عمرٌ أهل بدر! ومنها النظر بميزان الشريعة في نظريات علماء الجريمة المعاصرة وعلماء الاجتماع وعلم النفس وعلم الجغرافيا وغيرها من العلوم الإنسانية لجلب ما ينفع منها، والحث على الزيادة عليه وتحسينه بما يرجع بالمنفعة على البشرية ككل، لا على الأمة وحدها! ومن ذلك النظر في كيفية تحقيق المنفعة المتبادلة والمصلحة المشتركة بيننا وبين دول الغرب عند اختلافنا معهم في بعض ما شرعوا في ذلك وغيره (لا سيما ما كان منه قانونا دوليا تدخل الدول تحته بموجب الاتفاقت الدولية الشاملة) لأسباب تمليها علينا شريعتنا وثوابتنا.. والأمثلة كثير.

    نعم نشهد جميعا بأن المكتبة الفقهية والأصولية المعاصرة تعاني من نقص واضح وكبير في مجمل تلك الأبواب ولا شك. ولكن هذه القضية كلها عندنا في كفة ونصاب، ومسألة نسخ الشرائع الجنائية وبعض أحكام الأحوال الشخصية بالقانون الوضعي الغربي بدعوى أن تلك النوازل والمستجدات جميعا تلزمنا بإعادة النظر في تلك التشريعات جريا على تحقيق المقاصد الشرعية الكبرى، هذه قضية أخرى مختلفة تمام الاختلاف، فلا يردان على مورد واحد إلا عند صاحب هوى أو شبهة! وما ضاع حكم الشريعة في بلاد المسلمين في هذا الزمان إلا من الخلط بين هاتين القضيتين وجعلهما في بابة واحدة! فأكرر لفت انتباه القارئ الفطن في هذا المقام إلى اضطراب وتناقض مأخذ الدكتور جمعة هداه الله فيما ينتصر له! فهل يريد البقاء على إعمال القانون الوضعي في مكان حدود الشريعة في الجنايات وغيرها لأنه يرى أننا لن نستوعب جديد العلوم ومستحدثها ولن نتقدم ولن نتعاون مع دول العالم المعاصر فيما فيه خيرنا وخيرهم إلا بهذا؟ أم أنه يريد البقاء على ذلك لأنه يرانا في غلبة جهالة وانخرام عدالة وعموم شبهة وزمان ضرورة.. الخ؟ أم أن الأمرين سواء عنده؟

    المسألة إنما انقدح زنادها أول الأمر في القصر الخيديوي، ثم عُرض الأمر على بعض المنتسبين إلى العلوم الشرعية والقضاء في ذلك الوقت من المقربين إلى القصر، ليبحثوا عن مخرج شرعي لتسويغها، فجاء الطلب على هوى أصحاب الأصول العقلية الاعتزالية منهم وقتئذ وعلى وفق ما استحسنوه من قراءاتهم في مصنفات الفلاسفة الأوروبيين، فجرى قلم التاريخ بما كان، ولا حول ولا قوة إلا بالله! هذا أمر جلي لا يماري فيه إلا مماحك! وإلا فلماذا كان الخديوي إسماعيل حريصا – على حد كلام الدكتور - على إيجاد علاقة بين القانون الفرنساوي وشريعة المسلمين، وما وجه هذا الحرص عنده وهو العامي الجاهل، وما محركه؟ وأي حجة تكون لعاقل من المسلمين في أن استبدال القانون الفرنسي بالحدود الجنائية الشرعية خير وأرجى لتحقق مقاصد النهضة الشاملة التي كان يحلم بها إسماعيل، وكيف طاوعه من طاوعه من المتفقهة في ذلك؟ إنه صنيع قلوب قد أشربت بشبهات المستشرقين وفلاسفة التنوير! إنه الهوى المحض.. نعوذ بالله من غلبته على قلوب الخلائق!

    لذا فإن الأصوليين من أهل السنة والحديث يقولون: إذا كان يصح أن تحدث نوازل تلجئ المسلمين إلى استنباط أحكام جديدة من الأقيسة والقواعد الكلية للشريعة، ويصح أن الأحكام تتقلب مع العلل وشروط الوضع والتنزيل وجودا وعدما، فإنه ليس يُتصور في الوجود حدوث نازلة أصولية أيا ما كانت، تجيز للناظر فيها أن ينسخ الحدود الجنائية جملة واحدة ليضع في مكانها قانونا جنائيا مأخوذا من هنا أو هناك! فإنه لو صح هذا، لكان لازمه أن الشريعة ناقصة وأنها ألجأت المسلمين إلى استبدال شرائع الكفار بها أو ببعضها! لذا نقول إن هذا الاستبدال الذي جرى على تلك الشرائع، واستقر عليه الأمر في التشريع منذ وقوعه إلى يوم الناس هذا وإلى أجل غير مسمى، هذا نسخ في الحقيقة وليس إرجاءً لتلك الأحكام لتخلف شروطها، وليس هو تعليقا عارضا مشروطا بتغير أحوال المسلمين كما يدعي من أحدثوه! وإلا فأين هو ذا القيد الذي قيد القوم به ذلك التبديل، ومتى يتصورون أن يكون رجوعهم إلى إقامة الحدود في البلاد ونبذ تلك القوانين الوضعية التي جعلوها في مكانها؟ إن مضى التاريخ بنا إلى الماضي لا إلى المستقبل يوما ما، فرجعنا بذلك إلى زمان الخلافة العثمانية أو ما قبلها؟ هذا ما نأخذه من كلام الدكتور وموافقيه في التذرع بمطلق مستجدات الزمان (هكذا بلا تفصيل ولا بيان)! فلا قيد ثمّ ولا شرط!
    بل إن هذا التبديل ناقض لنفس قاعدة دوران الحكم مع العلة، فهو يبطل التعليل كما لا يخفى! فإن كان عمر قد حكم بتخلف الحكم لتخلف العلة في تلك الفترة التي أسقط فيها حد السرقة، لقيام ضرورة السرقة لحفظ النفس عند الناس، فإنه لم ينسخ ذلك التشريع نفسه، بخلاف ما صنعه هؤلاء، حيث جعلوا العلة مفضية إلى حكم آخر بخلاف ما جاء به الشرع سواء في الحدود أو التعزيرات، بل إنهم بدلوا العلل نفسها بموجب تلك القوانين التي استوردوها، فلا بقيت العلة علة شرعية بذلك ولا الحكم حكما شرعيا! فلو كان الأمر تعطيلا للحد لتخلف شرط إثباته كما يقولون (لوجود الشبهة)، للزمهم سقوط مطلق العقوبة كما صنع عمر! أما وقد اتخذوا عقوبة أخرى بشروط أخرى للإثبات، فهذا تشريع ناسخ لشريعة الحدود! وإلا فإن لم يكن هذا نسخا في التشريع فما النسخ إذن؟ هذا نسخ واضح لا التباس فيه، وليس إجراءً للقواعد الكلية العامة التي أعملها الفقهاء طوال قرون الأمة عند تغير الأحوال وتخلف العلل والشروط الشرعية!

    أما قول الدكتور: " بل لا نبعد في القول إذا ادعينا أن كلمةتطبيق الشريعة كلمة حادثة"

    فأقول نعم هي حادثة، فكان ماذا؟ العبرة بالمعنى المراد من الاصطلاح الحادث! والمراد به هنا قيام ولاة الأمر بتفعيل المرجعية الشرعية الصحيحة وتفعيل أحكام الشرع في سائر أبواب الحكم والقضاء بلا تفريق، بخلاف أولئك الذين يحكمون بشريعة مختلطة! هذا هو الأصل في كل حاكم مسلم! فلولا أن صارت أكثر بلاد المسلمين إلى خلاف هذا الأصل لما اضطررنا إلى تسمية البلدان الباقية على الأصل بأنها (تطبق الشريعة)! تماما كما اضطررنا إلى استحداث مصطلح (ملتحي) لوصف كل رجل باق على أصل خلقته وأصل ما هو مشروع في شعر الوجه للرجال أنه يعفى ولا يحلق، حينما غلبت على المسلمين عادة حلق اللحية! وكما اضطررنا من قبل ذلك بقرون لسبك مصطلح (أهل السنة والجماعة) لتمييز من بقي على الأصل من علماء المسلمين وعامتهم عند دعوى الحاجة الشرعية إلى ذلك، ممن فارق الجماعة واتبع السبل، وهكذا. وما دام الأمر على الاصطلاح، فإنه لا أحد ممن يستعملون هذا الاصطلاح، يدعي أن البلاد التي نُسخ ما نسخ فيها من شرائع الإسلام قد نسخت فيها الشريعة كلها في كل مستوياتها وأبوابها! ولكن في نفس الوقت فإنه لا يستوي هذا النسخ كما أسلفنا بما يدعي الدكتور أنه من السوابق التي مرت بها بلدان المسلمين مرارا دون أن يستنكرها أهل العلم! وإلا فهلا سمى لنا الدكتور حالة واحدة سبق فيها نسخ العقوبات الإسلامية (رفعها واتخاذ قانون وضعي مستورد في مكانها) بدعوى الضرورة وموافقة متطلبات العصر، خلال ثنتي عشر قرنا خلت من عمر الأمة قبل صنيع هؤلاء "التنويريين"؟!

    هذه الشبهة التي يسوغون بها تبديل شريعة رب العالمين لم تُعرف في تاريخ الأمة إلا في هذين القرنين الآخرين! ذلك أنها لم تظهر إلا على أيدي قوم أكل الهوان والخذلان قلوبهم بإزاء اتهامات الأوروبيين في تفسيرهم للفجوة الحضارية الواسعة التي نشأت فيما بيننا وبينهم خلال تلك القرون المتأخرة! فصار الواحد منهم يكاد يصرح بقوله: إن أوروبا لم تنهض حتى فصلت بين سلطان الدين وسلطان الدولة، فهكذا نصنع عندنا كذلك ولابد! ولنعِد النظر في تلك الشرائع التي يستشنعها سادة النهضة الأوروبية (لا سيما الحدود الجنائية)، لعلها لم تعد تناسب زماننا كما يقولون، فعسانا نجد في الشرع مخرجا لإسقاطها! ففي أي قرن من قرون الأمة عُرف هذا الانحطاط الفكري في أمتنا قبل "التنوير" الأوروبي؟

    يقول الدكتور جمعة في مقاله الأول من سلسلته الموسومة (التجربة المصرية):
    "اتجه محمد علي باشا إلى بناء الدولة العصرية الحديثة في مصر، وهي دولة حاولت أن تستقل عن أشخاصها بقدر الإمكان، والاستقلال بين الدولة وأشخاصها يتم عن طريق المؤسسات، ويتم عن طريق النظام، ويتم عن طريق الدستور، ويتم عن طريق التقنين، ويتم عن طريق الفصل بين السلطات، ونحو ذلك. والديمقراطية بالأساس مبنية على المساواة بين المواطنين، وأن فكرة المواطنة وليس فكرة الرعايا هي التي تسود في دولة ما، والمساواة هنا تشمل المساواة في الحقوق وفي الواجبات، وتشمل عدم الاستثناء من القانون أو التمييز العنصري، وكلما تحقق ذلك كانت الدولة أقرب إلى تحقيق الديمقراطية. والليبرالية تعني احترام الحريات، حرية العقيدة، حرية الانتقال، حرية العمل، الحرية السياسية، والتي هي بالأساس مبناها التعددية، ومبناها التمثيل الشعبي. ثم بعد ذلك تأتي النظم والتنظيمات التفصيلية التي قد تختلف من بلد إلى آخر طبقا للتجربة التاريخية، وطبقا لما يمكن أن نسميه بالثقافة السائدة، والتي لا يجوز الخروج عنها إلا بقدر تحقيق المصلحة، لأن الخروج عن الثقافة السائدة –خاصة في صورة طفرات- يؤدي إلى ضياع المصالح وإلى اضطرابات، أكثر ما يؤدي إلى تحقيق المصالح والمقاصد لشعب ما." اهـ.

    قلت فليتأمل القارئ في هذا الكلام مليا وليخبرني كل فطن ذو بصيرة وعلم، هل هذا كلام فقيه أصولي، أم هو كلام فيلسوف من فلاسفة التنوير الأوروبيين في القرن التاسع عشر؟ لا يقولنّ قائل إن العبرة بمفهوم الكلام ولا مشاحة على من يستعمل مصطلحا من غير صنعة الفقه وأصوله، فإنما عن المفهوم أتكلم!! ما معنى أن "تستقل الدولة عن أشخاصها"؟ إن قلنا إن المراد منه ضبط أمر السلطان فيها بما يحفظ للرعية مصلحتها ولا يجعلهم عبيدا عند حاكم مستبدّ (مثلا)، أليس مثل هذا المقصد مما يطلب النظر في آليات تحققه في معاقد فقه السياسة الشرعية الذي توارثه المسلمون على اعتقاد مسبق بأنه لا يمكن أن يكون أمر بهذه الخطورة قد تركه الشارع بلا إحكام عندنا؟؟ أم أننا نضطر لأجل تحقيقه إلى طلب ذلك من شرائع الثورة الفرنسية؟ ما وجه قوله إن هذا المقصد يتحقق من خلال المؤسسات (أي مؤسسات وما نوعها؟)، وعن طريق النظام (أي نظام؟؟)، وعن طريق الدستور (دستور من؟؟)، وعن طريق التقنين (أي تقنين؟؟) والفصل بين السلطات ونحو ذلك؟؟ أحقا يرى الدكتور أن المسلمين لم يعرفوا في تاريخهم تحقيقا لهذا المقصد البتة، حتى جاء الفيسلوف التنويري الأوروبي ليصلح لهم ميزان الإمامة والسلطان بهذه الأشياء التي ذكرها الدكتور (ونحوها)؟! وهل نحن الآن نتكلم في وسائل مباحة تدخل تحت باب المصالح المرسلة في خدمة غايات مفصلة لتحقيق ذلك المقصد الكلي، أصلها (أي تلك الغايات أو الآليات) متقرر في شريعتنا بما تتحقق به الكفاية، أم أننا نتكلم عن غايات أو آليات مستوردة بكليتها (بما تحتها من وسائل تخدمها) فلا سند لها في شريعتنا أصلا؟ هذا وجه من النظر الكلي دقيق لا يغفل عنه أصولي ذو مكنة من صنعته! ولذلك أقول لو كان المتكلم بهذا الكلام عاميا من جهال الصحافة أو علمانيا من متثقفة الإعلام لهان الأمر ولكن المتكلم أستاذ في أصول الفقه، يتقلد منصب مفتي الديار في بلد من كبرى بلاد المسلمين، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله!

    تامل قوله "الديمقراطية مبنية بالأساس على المساواة بين المواطنين"! فهل في شريعة رب العالمين هذه المساواة التامة بين "المواطنين"؟ هل في شريعة رب العالمين قلب مفهوم الرعية إلى مفهوم المواطنة على نحو ما يقرر الدكتور؟ يقول هداه الله: "، والمساواة هنا تشمل المساواة في الحقوق وفي الواجبات، وتشمل عدم الاستثناء من القانون أو التمييز العنصري، وكلما تحقق ذلك كانت الدولة أقرب إلى تحقيق الديمقراطية" فهو إذن يطالبنا بمساواة تامة بين الرعايا في الحقوق والواجبات، فهل يغفل فضيلة الدكتور ما يؤدي إليه قوله ذاك من هدم لأبواب كاملة في فقه المسلمين هي محل إجماع مستقر لا يتطرق إليه النزاع؟ هل حقا يطالبنا بالاستغراق في الديمقراطية والليبرالية والخضوع "للثقافة السائدة" لمجرد أنها سائدة ولأن "الخروج عليها" لا يتسبب إلا في ضياع المصالح (لشعب) ما؟؟ أحقا هذه الإطلاقات والمجملات قد كتبها أستاذ في علوم الشريعة؟ أفبدلا من أن نعمل على إصلاح الأمة وتغيير الواقع (بالطرق المشروعة) للوصول به إلى وفاق ما شرع الله تعالى للمسلمين، نعمل على تغيير الشرع نفسه ليصبح على وفق "الثقافة السائدة" وليكون عند الغاية في الديمقراطية والليبرالية؟؟ أهذا ما يدعونا إليه الدكتور؟
    ما أقول إلا "إنا لله وإنا إليه راجعون"!

    وينتقل بنا الدكتور في مقاله أو فتواه المعنونة (حقائق حول تطبيق الشريعة) إلى جملة من النقاط يصفها بأنها حقائق، فيقول:
    "أن الشريعة تعني ما يتعلق بالعقائد والرؤية الكلية من أن هذا الكون مخلوق لخالق، وأن الإنسان مكلف بأحكام شرعية تصف أفعاله، وأن هذا التكليف قد نشأ من قبيل الوحي، وأن الله أرسل به الرسل وأنزل الكتب، ويوم آخر للحساب وللثواب والعقاب، كما أنها تشتمل على الفقه الذي يضبط حركة السلوك الفردي والجماعي والاجتماعي، وتشتمل أيضا على منظومة من الأخلاق وطرق التربية ومناهج التفكير والتعامل مع الوحي قرآناً وسنة، ومع الواقع مهما تغير أو تبدل أو تعقد." اهـ.

    قلت من العجب حقا أن يشاححنا الدكتور في استعمالنا لمصطلح تطبيق الشريعة على قوله إنه لا سابقة له في تاريخ الأمة، ثم يأتينا الآن بمعني اصطلاحي لكلمة الشريعة هو يدري أنه ليس ما يقصده المتكلمون بهذه الكلمة في سياق الإنكار عليه وعلى من يوافقونه! ذلك أن مصطلح الشريعة كمصطلح السنة سواء بسواء، يطلق أحيانا ويراد به المعنى العام الذي يشمل العقائد والأصول الكلية كما يشمل الفرعيات والتشريعات العملية، ويطلق في سياقات أخرى ويراد به المعنى الخاص، فيقال السنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد كتاب الله تعالى، وهي كل ما أُثر من قول أو فعل أو تقرير للنبي عليه السلام، وكذلك يقال الشريعة هي فقه الأحكام التكليفية الخمسة المستنبطة من مصادر التشريع في الإسلام. وهذا الاصطلاح الأخير هو المراد بقولنا إنهم يعطلون شريعة الله تعالى ويبدلونها، فبغض النظر عن اصطلاحات كل من الأصوليين والفقهاء وعلماء التوحيد والفلاسفة والمتكلمين فإن مرادنا واضح معروف، ولا ينطلي على حدث من الأحداث في طلب العلم هذا التنقل بين المعاني الاصطلاحية في مدافعة الاتهام بتعطيل الشريعة، والله الهادي!

    ونقول نعم ولا شك الإسلام (أو إن شئت فقل الشريعة) تشمل كل ما ذكر الدكتور، وهي كذلك وستظل كذلك مهما تغير الزمان ومهما تبدل الواقع أو تعقد، ولكنهم بدلوها (في شطر منها) مع ذلك التبدل في الواقع على طريقة لا سلف لهم فيها ولا حجة! فما أعظمه من فرق بين أن يتخلف الحكم في جملة كبيرة من القضايا بحد من الحدود أو حكم من الأحكام الشرعية إعمالا لقواعد الشريعة العامة في ذلك، وبين أن تعطل الشريعة كلها في باب من أبواب الأحكام ويؤتى في مكانها بقانون وضعي!! كيف يستوي المسلكان عند فقيه يدري ما يقول؟ ولو أن قاضيا اليوم اجتهد في قضية من القضايا ورأى أن شروط إقامة حد من الحدود الشرعية قد تحققت فيها، أفيسمحون له بذلك؟ امرأة زنت – على سبيل المثال – ولاعنها زوجها، أو أتى بأربعة من الشهود العدول (المتوفرة فيهم شروط الشهادة)، فأراد القاضي أن يحكم فيها بحكم الله تعالى، فبأي سلطان يمنعونه؟ ما حجتهم وقد اجتهد القاضي وأداه نظره إلى تحقق الشروط وانتفاء الموانع وانتفاء الشبهة في تلك الحالة؟ وبأي شرع يوجبون عليه النزول عن ذلك والخضوع لقانون الجنايات المدني؟ وما بال الرجل والمرأة غير المحصنين إن تواقعا برضاهما (وهما يعلمان أنه زنى في شريعة ربهم وأن العقوبة لاحقة بهما ولابد)، بأي حجة يمنع القاضي من الحكم عليهما بشيء؟ وما بال الزوج يزني في غير "منزل الزوجية"، وتثبت عليه التهمة بالبينة القطعية، كيف يمنع القاضي من تجريمه بذلك؟ بل ما بال الزوج يزني بامرأة أخرى برضا زوجته وفي بيتها وتحت أنفها؟ ألا يكون زانيا بذلك؟ وهل أمثال هذه التفاصيل في التشريع المنقولة بتصرفات يسيرة عن القانون الفرنسي، يقال إن الحامل على البقاء عليها الضرورة وزمان الشبهة؟؟ سبحانك ربي هذا بهتان عظيم!

    فإلى متى إذن يبقى هذا الاضطرار المزعوم وما منتهاه؟ أن يرضى الفرنسيون وغيرهم بشريعة الإسلام في العقوبات فنرضى نحن بها تبعا؟ أهو من خوفنا على مشاعر النصارى والعلمانيين والملاحدة، وكأنما هبط علينا النصارى والزنادقة من السماء في هذين القرنين الآخرين ولم يكونوا هم وغيرهم شركاء لنا في هذا الوطن تحت حكم شريعتنا طوال بضعة عشر قرنا من الزمان؟ أم من خوفنا من إلحاق أمريكا بلادنا بطالبان وأفغانستان بمجرد ذلك، واتهامها إيانا بأننا نخرم قاعدة من قواعد "حقوق الإنسان"؟ أمم الكفار خرجت تقول إن الإنسان من حقه كذا وكذا، ونحن لدينا شريعة من رب العالمين تقول إن هذا ليس من حق "الإنسان" في شيء، فكيف يقال إن شريعتنا نفسها تبيح لنا النزول عنها في ذلك والخضوع لهذا الإفك والجهل المبين بدعوى الضرورة؟ ما هي الضرورة وما حدها وما ضابطها معاشر الفقهاء النبهاء؟

    قالوا لنا هذا التشريع عندكم يخالف حقوق الإنسان، فقلنا لهم نحن قوم مسلمون نؤمن بأن الله الذي خلقنا هو أدرى منا ومنكم بما يصلح الإنسان وما يفسده، وبأنه وحده الذي يملك الحق في منح الحقوق وفرض الواجبات على خلق الله جميعا، فاختلفنا معهم في ذلك والتزمنا شريعتنا ولم نجبرهم على لزوم قولنا فيما يشرعون لرعاياهم من الشرائع (بالنظر إلى فقه الضرورة)، فكان ماذا؟ أهذا موقف نلحق بسببه بتنظيم القاعدة (مثلا)، ونتهم بالإرهاب والتطرف، أو نتهم بأننا نظلم رعايانا من المسلمين وغيرهم بذلك؟ وليكن أنهم اتهمونا بذلك، فكان ماذا؟ ألا تنصحون ولي الأمر بأن ينصب من علماء البلاد وفقهائها جبهة فكرية لدفع تلك الشبهة وسباكة الجواب العلمي والعقلي عنها في خطاب رسمي محكم يوجه إلى أصحاب التهمة والشبهة، كل منهم بما يليق به؟ أفبدلا من النصح لهم والأخذ بأيديهم إلى إصابة مقاصد الإسلام العليا، يكون العمل على تزيين تلك الحال المنحطة وزخرفتها لهم، وجعل "التجربة المصرية" في التشريع الجنائي مثالا يحتذى في بلاد المسلمين؟ ألا تدافعون الضرورة والشبهة مع المدافعين نصحا لله ورسوله؟ أم هو الرضا بقرار وبقاء تلك الضرورة المزعومة في الأمة إلى أجل غير مسمى؟ نسأل الله السلامة!

    الذي نراه أن كثيرا من أرباب الفقه "القانوني" يلتزمون خطابين لا يجتمعان! خطاب يوجه للمسلمين (أو إن شئت فقل "للإسلاميين") بقولهم إننا في زمان شبهة وضرورة وسنرجع إلى إقامة الحدود الشرعية ما أن تزول تلك الضرورة، وخطاب آخر يوجهونه لغير المسلمين عادة بقولهم إن الإسلام دين سمح يقبل تغير الزمان وتتغير أحكامه بذلك، وهو على وفاق تام مع النظام المدني الحديث، فنحن معكم في سائر ما يقتضيه ذلك النظام من شرائع ونحن باقون على ذلك ملتزمون به لا محالة! فإن كنتم يا معاشر العقلاء تؤمنون بأن النظام المدني لا يتفق – أصلا – مع إقامة تلك الحدود والتزام القضاء الشرعي في سائر الأبواب بلا تفريق، فكيف تزعمون أن الشبهة عارضة وأننا راجعون إلى أصل الأمر بمجرد أن تزول الشبهة والضرورة، وأنتم توافقون على بقاء التشريع على هذا الحال ما دام الناس على النظام المدني الذي هو نتاج عقول الناس في هذا الزمان وثمرة التطور والتقدم وكذا، وهو مقتضى تغير الزمان وإن بقي إلى قيام الساعة؟ كيف يجتمع قولكم إنها ضرورة إلى زوال بقولكم إن النظام المدني خير ما يكون عليه الناس في هذا الزمان؟ فإن تذرع القوم بأن الحاجة العامة لعموم الدولة المسلمة (على الدقة في تقديرها: كتحصيل الأقوات والكساء والسكن والتسلح وإعداد العدة الحربية ونحوها مما تلحق المهلكة العامة بالبلاد من عموم النقص فيه) توجب على ولي الأمر ما توجبه الضرورة على آحاد الناس من العمل بما يلزم العمل به من المحظورات عند انسداد سبل الحلال في تحصيل ذلك، فهل يدخل في تلك المحظورات نسخ شطر من شريعة الجنايات عند المسلمين بشرائع الدولة المدنية الغربية؟ هل عدمتم السبل إلى الجمع بين النافع والمفيد من معطيات النظام المدني من جانب، وتحكيم الشريعة على سائر الأصعدة من جانب آخر (بما في ذلك قيام ولاة الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أوجبه الله عليهم) كما صنعت المملكة السعودية وغيرها، حتى يقال إن السبل قد ضاقت بكم فلم تجدوا إلا هذا، على التسليم تنزلا بوحدة المحل أصلا بين مسألة التشريع الجنائي وتحصيل تلك المصالح العامة (والجهة منفكة كما لا يخفى وكما سبق تقريره)؟ أهو مقتضى الضرورة والشبهة العارضة حقا أم مقتضى الرضا بالحال يا عباد الله؟ من الذي فرض هذه الحال المعوجة على المسلمين وقد كانوا منها في عافية وما حجته في ذلك؟

    ........ يتبع...........
    أبو الفداء ابن مسعود
    غفر الله له ولوالديه

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jul 2008
    المشاركات
    700

    افتراضي رد: الرد على كلام د. علي جمعة في مسألة "تطبيق الشريعة"..

    جزاك الله تعالى كل خير يا شيخ وجعل اللهم هذا الرد في ميزان حسناتك آمين .
    [ نرجو من كل مسلم ومسلمة دعاء الله عز وجل بشفاء أخي وشقيقـى من المرض الذي هو فيه ]

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    المشاركات
    3,278

    افتراضي الرد على كلام د. علي جمعة في مسألة "تطبيق الشريعة"..

    ............... تابع :

    وينتقل بنا الدكتور إلى "الحقيقة الثانية" فيقول:
    "قضية الحدود تشتمل على جانبين: الجانب الأول هو الاعتقاد بأحقية هذا النظام العقابي في ردع الإجرام، وفي تأكيد إثم تلك الذنوب ومدى فظاعتها وتأثيرها السيئ على الاجتماع البشري ورفضها بجميع صورها نفسيا لدى البشر، وأن هذا النظام العقابي لا يشتمل على ظلم في نفسه ولا على عنف في ذاته، والجانب الآخر هو أن الشرع قد وضع شروطاً لتطبيق هذه الحدود، كما أنه قد وضع أوصافاً وأحوالاً لتعليقها أو إيقافها، وعند عدم توفر تلك الشروط أو هذه الأوصاف والأحوال فإن تطبيق الحدود مع ذلك الفقد يعد خروجاً عن الشريعة" اهـ.

    قلت: أما الجانب الأول فلا يماري فيه مسلم، فلماذا لا يكون خطابك – يا دكتور جمعة - الموجه إلى من يخالفون في تطبيقه في بلادنا اليوم قوامه هذا الكلام؟ أما الجانب الآخر فحق أيضا ولا مراء، ولكنه حق يراد به باطل، والله المستعان.

    ثم يقول الدكتور:
    "المتأمل في النصوص الشرعية يجد أن الشرع لم يجعل الحدود لغرض الانتقام، بل لردع الجريمة قبل وقوعها، ويرى أيضاً أن الشرع لا يتشوف لإقامتها بقدر ما يتشوف للعفو والصفح والستر عليها. والنصوص في هذا كثيرة لا تتناهى." اهـ.

    قلت: إن في هذا الكلام تفصيلا ونظرا. أما قوله إن الشرع لم يجعل الحدود لغرض الانتقام، فمن ذا الذي يزعم أن كل الانتقام شر، وأنه – بالتالي – لم يكن من جملة الحكم الربانية في تشريع الحدود شيء من ذلك؟ نعم من حكم التشريع في الحدود ردع الجريمة قبل وقوعها وتشنيعها في أعين الناس وزجر المائلين إليها عنها، ولكن من حكم التشريع أيضا إرواء غليل الضحايا الذين وقعت تلك الجريمة في حقهم تحت باب القصاص الشرعي! ألم يسمع الدكتور قول الرب جل وعلا: ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [البقرة : 179]؟ فهل هذا من "الانتقام" الذي لم تشرع الحدود لأجله؟ كلام عجيب حقا! والظاهر أن مراد الدكتور أن يقول – كما صرح في موضع آخر - إن الشريعة حثت على تلمس الأعذار ولم تنزل بالتعنيت على المسلمين والتشديد عليهم والترصد لهم، وهذا صحيح، ويكفي للتدليل عليه التأمل في صعوبة تحقق شروط الحد نفسها في حالة من الحالات عند العمل به كشريعة للعقوبات مستقرة في بلاد المسلمين! أما أن يتخذ هذا الكلام طريقا للاستدلال المقاصدي على صحة صنيع القوم في تبديل تلك الشريعة العقابية نفسها بغيرها من شرائع البشر، فلا يقول به فقيه!

    نعم صحيح إن الشرع يتشوف للعفو والصفح والستر ويحض على ذلك، وفي شروط تطبيق الحدود الشرعية من ذلك – كما أسلفنا – آيات لا تخفى! ولكن كيف يكون من ضوابط تطبيق الحدود في شريعتنا ما به تسقط تلك الحدود بشروطها بعللها بسائر أحكامها هكذا جملة واحدة، ليوضع غيرها في مكانها؟ كيف يكون هذا الكلام مستندا لمشروعية استبدال قانون مستورد بشريعة الحدّ العقابي كلها، بما ينهدم معه التعريف الشرعي للجريمة نفسها التي شرع الله فيها الحد؟ لو أن القوم قالوا إننا نرى عدم إقامة الحدود في هذا الزمان ولكن نلتزم التعزيرات الشرعية فيما نص الشرع على وجوب العقوبة فيه – مثلا – لكان لكلامهم عند الفقهاء منزلا غير المنزل!

    أما وقد جرى قلم التعطيل بما فسدت معه مفاهيم الكبائر نفسها كالزنا وغيره في شريعة القضاء عندنا، فما ظن القوم بعقولنا إذ يدعون أن هذا مسلك من يدرأ الحد بالشبهة وبتخلف الشروط؟ كيف يصير الداعي للعفو والصفح والستر على الزناة – مثلا – في شريعتنا المطهرة مؤداه تغيير مسمى الزنا نفسه في صنوف من الجرائم قد أطبقت الأمة عبر قرونها بالقرءان والسنة والإجماع على أنها من الزنا؟ كيف يستسيغ فقيه يدري ما يخرج من رأسه أن يرفع اسم الزنا في التشريع عن مواقعة رجل غير محصن لامرأة غير محصنة برضاهما (مثلا)، ثم يقول إن مستنده في ذلك أننا في زمان شبهة وضرورة وتخلف للشروط وكذا؟ إن لم يكن هذا تبديلا للشرع نفسه فما هو التبديل إذن وما هو النسخ؟ لو أنهم قالوا إن سائر ما سماه الشرع زنا هو زنا في عرف المشرع القانوني، ولكننا نرى أن شروط عقوبته الأصلية لا تكتمل في هذا الزمان، فلا نحكم في مثل هذا إلا بشيء من التعزير مثلا أو لا نحكم فيه بشيء أصلا، لكان لهم في ذلك شبهة دليل، أما وقد أبطل القوم منظومة التشريع نفسها في هذا الباب بداية من أصل تسمية بعض حالات هذه الجريمة بالاسم الشرعي، ينقلون عن قانون الفرنسيين حتى في مسمى الزنا نفسه وحده ووصفه وتعريفه، فكيف يستندون في ذلك إلى ما فعله عمر في عام الرمادة - على التسليم بصحته - أو ما هو متقرر في قواعدنا من أن الحد يُدرأ بالشبهة؟ هذا تلبيس لا يخفى!

    ويواصل الدكتور سرد "حقائقه" فيقول:
    "لمدة نحو ألف سنة لم تقم الحدود في بلد مثل مصر، وذلك لعدم توفر الشروط الشرعية التي رسمت طرقا معينة للإثبات، والتي نصت على إمكانية العودة في الإقرار، والتي شملت ذلك كله بقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" .. وقول عمر بن عبد العزيز: "لأن أخطئ في العفو ألف مرة خير من أن أخطئ في العقوبة". اهـ.

    قلت سبحان الله! لو صح ما تقول يا دكتور لكان حجة عليك وعلى موافقيك! فإن كانت الحدود لم تقم في مصر لألف سنة كاملة لتخلف شروطها مع بقاء التشريع الجنائي على أصله الذي عملت به الأمة طوال تلك القرون، فلماذا لم تبق تلك الشرائع على حالها في باب العقوبات عندنا وأي داع حمل "آباء القانون المدني" على تغييرها وخلطها بالقانون الفرنسي؟ لماذا تبدل قانون العقوبة إذن وقد أقررتم بأن الشروط لشدتها قد لا تتحقق أصلا في هذا الزمان؟ لو كان الأمر معللا بإعمال الشروط والضوابط الشرعية وقد اتُفِق أن صارت الحال في بلادنا إلى ما تتخلف به تلك الشروط تخلفا عاما، لبقي التشريع على ما هو عليه، ولما استنكف القوم أن يأتي يوم – على الأقل ولو نظريا - تجتمع فيه الشروط وتتحقق في هذه الحالة أو تلك، فيحكم القاضي بإقامة الحدّ فيها على حقه! ولكنهم كرهوا العقوبة نفسها والمبدإ نفسه حتى على ما فيه من تشديد في الشروط والضوابط (يتابعون في ذلك أئمتهم من فلاسفة القانون الأوروبي)، فعطلوه وجعلوا غيره من الشرائع المستوردة في مكانه، والله المستعان!

    ثم يقول الدكتور في "حقيقة" تالية:
    "قد يوصف العصر بصفات تجعل الاستثناء مطبقاً بصورة عامة، في حين أن الاستثناء بطبيعته يجب أن يطبق بصورة قاصرة عليه، من ذلك وصف العصر بأنه عصر ضرورة، ومن ذلك وصف العصر بأنه عصر شبهة، ومن ذلك وصف العصر بأنه عصر فتنة، ومن ذلك وصف العصر بأنه عصر جهالة، وهذه الأوصاف تؤثر في الحكم الشرعي، فالضرورة تبيح المحظور، حتى لو عمت واستمرت، ولذلك أجازوا الدفن في الفساقي المصرية مع مخالفتها الشريعة، والشبهة تجيز إيقاف الحد كما صنع عمر بن الخطاب في عام الرمادة حيث عمت الشبهة بحيث فٌقد الشرط الشرعي لإقامة الحد، والإمام جعفر الصادق والكرخي وغيرهما أسقطوا حرمة النظر إلى النساء العاريات في بلاد ما وراء النهر لإطباقهن على عدم الحجاب حتى صار غض البصر متعذراً إن لم يكن مستحيلاً، ونص الإمام الجويني في كتابه الغياثي على أحوال عصر الجهالة وفصل الأمر تفصيلاً عند فقد المجتهد ثم العالم الشرعي ثم المصادر الشرعية، فماذا يفعل الناس؟

    ويتصل بهذا ما أسماه الأصوليون في كتبهم -كالرازي في المحصول- بالنسخ العقلي، وهو أثر ذهاب المحل في الحكم، وهو تعبير أدق؛ لأن العقل لا ينسخ الأحكام المستقرة، وذلك بإجماع الأمة، ولكن الحكم لا يطبق إذا ذهب محله، فالأمر بالوضوء جعل غسل اليد إلى المرفقين من أركانه فإذا قطعت اليد تعذر التطبيق أو استحال، وكذلك الأحكام المترتبة على وجود الرقيق، والأحكام المترتبة على وجود الخلافة الكبرى، والأحكام المترتبة على وجود النقدين بمفهومهما الشرعي من ذهب أو فضة ومثل ذلك كثير." اهـ.

    قلت: أما قول الدكتور " قد يوصف العصر بصفات تجعل الاستثناء مطبقاً بصورة عامة، في حين أن الاستثناء بطبيعته يجب أن يطبق بصورة قاصرة عليه، من ذلك وصف العصر بأنه عصر ضرورة، ومن ذلك وصف العصر بأنه عصر شبهة، ومن ذلك وصف العصر بأنه عصر فتنة، ومن ذلك وصف العصر بأنه عصر جهالة، وهذه الأوصاف تؤثر في الحكم الشرعي، فالضرورة تبيح المحظور، حتى لو عمت واستمرت"

    فهذا حق يراد به باطل كما أسلفنا. فلا كان الأمر في أول إحداثه منبثقا عن ضرورة عامة أو جهالة أو فتنة، ولا كان هذا التبديل هو المسلك الشرعي الصحيح على التسليم بتلك الضرورة والجهالة! إن صورة عموم البلوى في العوام بشيوع مخالفة ما بما يجعل النكير عليها وتغييرها مما يفضي إلى فتنة، هذه لم يكن لها صلة بما فعله هؤلاء القانونيون أصلا، وقد سبق البسط في بيان ذلك! فإن سلمنا تنزلا بأنه قد شاع الجهل بين الناس في زماننا اليوم بحقيقة ما بثه هؤلاء من تسويغ لذاك التبديل، وأصبح الزمان زمان فتنة، فهل كانت هذه هي الحال في زمان الخديوي إسماعيل وفلاسفة القانون الوضعي والمفتونين من أصحاب العمائم الذين زينوا له ما أراد؟ ما لكم كيف تحكمون؟

    أما قول الدكتور هداه الله: "والإمام جعفر الصادق والكرخي وغيرهما أسقطوا حرمة النظر إلى النساء العاريات في بلاد ما وراء النهر لإطباقهن على عدم الحجاب حتى صار غض البصر متعذراً إن لم يكن مستحيلاً" فأقول إن صح هذا الذي ينسبه الدكتور إليهما فإنما يقال إنهما اجتهدا بترك الإنكار والتعزير على هذا الأمر في هذا البلد أو ذاك لعموم البلوى وغلبة الفتنة، إذ أعملا قاعدة أن ما يتعذر الاحتراز منه أو يدخل في باب الضرورة فلا إثم على الواقع فيه وإن عمّ ذلك في بلد من البلاد، لا أنهما قالا بمشروعيته (أسقطا الحرمة) مراعاة لتغيرات الزمان، ووضعا التشريع العام بذلك! فلا حجة في ذلك للدكتور ومن وافقوه في تبديل الشريعة بقانون وضعي يحلل الحرام ويصبح شريعة باقية في المسلمين بما يناسب تطور المجتمع المدني! وعلى أي حال فإنه لا يستوي ما كان منعه سدا للذريعة – كالنظر إلى عورة المرأة – بما كان في نفسه كبيرة من الكبائر المغلظة التي تسد الذرائع المفضية إليها (على قول القائلين بسد الذرائع)، عند إعمال تلك القواعد وعند تقدير الضرورات الشرعية العامة التي يتكلم عنها ههنا! وإلا فهل يوضع فعل الفاحشة الكبرى (مثلا) في منزلة فعل النظر إلى العورة عند تقدير ما يُتصور وقوعه (فضلا عن عمومه) من الضرورات والشبهات المعطلة للعقوبة في كل منهما؟ هذا أمر كنا نحسب أن أصوليا بمنزلة الدكتور علي جمعة لا يختلط عليه الأمر فيه!

    ثم يقول الدكتور:"ونص الإمام الجويني في كتابه الغياثي على أحوال عصر الجهالة وفصل الأمر تفصيلاً عند فقد المجتهد ثم العالم الشرعي ثم المصادر الشرعية، فماذا يفعل الناس"

    قلت سبحان الملك! فهل كان الزمان يوم بدل المبدلون ما بدلوه من شرع الله في مصر، زمان فقد للمجتهد واندراس للعلم الشرعي والمصادر الشرعية؟ وهل هذه علة البقاء على هذه الحال إلى يوم الناس هذا عندكم؟ وعلى التسليم بأنه لم يعد في الأمة مجتهد واحد، فهل العمل في ذلك أن ننتقل من تقليد الأئمة وإعمال ما بقي من كليات شريعتنا إلى تقليد المشرع الفرنسي وكأن الحدود الجنائية وضوابط تنزيلها على الأعيان قد درست وضاعت عندنا جملة واحدة؟؟

    إن مذهب القوم تحريره باختصار أنه قد نزل بالأمة من النوازل ما جعل مذاهب المسلمين في الحدود الجنائية لا تصلح فيها ولا تغطيها، فألجأهم ذلك إلى الأخذ عن فلاسفة التشريع القانوني من الكفار، يتخذون من شريعة هؤلاء ما يجعلونه لتلك الحدود بديلا! فهل هذا ما نص عليه الإمام الجويني في كتابه يا دكتور، أم كان كلامه في مراتب اندراس المذاهب وفقد المجتهدين وضياع العلم والعلماء وما يكون عليه عمل الناس بما معهم من بقايا فقه الكتاب والسنة في ذلك؟ وهل ذكر الإمام من تلكم المراتب في كتابه مرتبة يشرع لنا فيها ترك الشريعة مع وجود القائمين بها نقلا ودراية، والتلبس بغيرها في مكانها؟ فلينقل الدكتور من كلام الجويني ما فيه بيان ذلك إن كان فاعلا! وحتى لو وجد إلى ذلك سبيلا (وليس بفاعل)، فهل يحسب الدكتور أنه قد أدى ما عليه من الاستدلال لصحة دعواه ومذهبه بمثل هذا؟
    سبحان الله! ما بالنا نسمع جعجعة ولا نرى طحنا؟

    إنه داء خفي وجب على كل مشتغل بعلوم الشريعة أن يتعوذ منه بالله وأن يصدق رجاؤه وضراعته في ذلك! ألا وهو داء الاعتقاد ثم الاستدلال، وتقليب بطون الكتب بحثا عما يوافق أو يوحي بالموافقة! فكما لا يخفى أن الدكتور قد استقرت في نفسه مشروعية ما جرى في مصر وما مضى عليه حالها، فما نراه يكتب فيما يكتب في تلك المسألة استدلالا أو إنشاءً لدليل كلي صالح للاستدلال، وإنما يكتب انتصارا لما يعتقد صحته، معتضدا بأقوال وأفعال لا حجة في شيء منها عند التمحيص والتحقيق، والله المستعان.

    تأمل أيها القارئ الكريم رقعة أخرى يروم الدكتور بها ترقيع مذهبه، هداه الله، حيث يقول بعد هذا الكلام عن كتاب الجويني: "ويتصل بهذا ما أسماه الأصوليون في كتبهم -كالرازي في المحصول- بالنسخ العقلي، وهو أثر ذهاب المحل في الحكم، وهو تعبير أدق؛ لأن العقل لا ينسخ الأحكام المستقرة، وذلك بإجماع الأمة، ولكن الحكم لا يطبق إذا ذهب محله"

    قلت نعم الحكم لا يطبق إذا ذهب محله، فهل ذهب محل تطبيق الحدود الشرعية في زمان محمد علي باشا وأولاده أو فيما بعده من الأزمان، وهل هذه علة ما فعلوه بقانون العقوبات؟ ما محل إقامة الحد الشرعي أصلا، ألا يلزمنا تحرير هذا المعنى قبل التأسيس عليه؟ محل الحد الشرعي أن تثبت الجناية لدى القاضي المسلم مستكملة لشروط الحد! فإن تخلف هذا، فإننا نقول حينئذ قد ارتفع المحل، وإن كان ذلك التخلف أو الذهاب عاما في بلد من البلدان! فكيف يزعم أن هذا كان واقعا في زمان أسرة محمد علي في مصر؟ وإن افترضنا وقوعه تنزلا، فكيف يستساغ به نسخ شريعة الحد نفسها بعلتها بشروطها على نحو ما صنعوا؟ كيف يُنتصر لصنيع هؤلاء بالمثال الذي ساقه الدكتور للتدليل على سقوط الحكم بسقوط محله؟ يقول: "، فالأمر بالوضوء جعل غسل اليد إلى المرفقين من أركانه فإذا قطعت اليد تعذر التطبيق أو استحال، وكذلك الأحكام المترتبة على وجود الرقيق، والأحكام المترتبة على وجود الخلافة الكبرى، والأحكام المترتبة على وجود النقدين بمفهومهما الشرعي من ذهب أو فضة ومثل ذلك كثير"
    قلت: نعم قطعا لا غسل في الوضوء ليد قطعت، ولا إعمال لأحكام الرقيق في زمان لم يعد فيه رقيق، وأما ما يترتب على وجود الخلافة الكبرى ففيه تفصيل فما كان فيه لا يصح إلا في وجود إمام أكبر واحد على جميع الأمة فهذا المعنى يشمله ولا شك، ولكن القصد حتى لا يطول بنا المقام فيما لا حاجة إلى بسط الكلام فيه: كيف يقول عاقل منصف إن هذا قياس ما صنع المبدلون بتشريع العقوبات والحدود في بلاد المسلمين؟ وهل يشرع لنا تبديل شريعة الرق عندنا بشريعة الأمم المتحدة - مثلا - بدعوى أن الرق قد انقرض من الأرض فتخلف محل تلك الأحكام؟ ألا يُتصور أن يرجع ذلك المحل في يوم من الأيام، فيقرر قائد مسلم في الحرب أن يسترق بعض نساء المحاربين كما هو مشروع له في شريعتنا؟ فهل يمتنع عن ذلك يومئذ بدعوى أن المحل قد غاب والزمان تغير، ونفرض عليه الالتزام بشريعة الأمم المتحدة؟ (1) هذا ما نتوقعه من الدكتور جمعة وموافقيه على مذهبهم هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ذلك أنهم اختاروا نسخ الشريعة، وليس تعطيل أحكامها لتخلف محلها كما يزعمون! فإن الصورتين لا تستويان بحال!!
    في الفقرة السابقة أشار الدكتور إلى كلام الجويني في عصور اندراس الشريعة! والآن ينقل إلينا مفهومه لنص آخر في عدم الحكم لعدم العلة أو لعدم المحل، فحنانيك علينا يا دكتور! أي محل هذه لتنزيل الحدود الشرعية التي عدمت انعداما عاما في بلادنا، فما وجد المشرعون القضائيون إذ ذاك إلا اتخاذ القرار بإلغاء الحدود كلها ووضع القانون الفرنسي في مكانها، أو ضربه بها في قانون مختلط؟ وهل السكوت على الزاني المحصن (مثلا) إن ثبتت عليه تهمة الزنا خارج بيت الزوجية، ومؤاخذته بالتهمة نفسها إن ثبتت عليه داخل البيت، هذا من باب الضرورة أو انعدام الحكم لانعدام المحل الشرعي ومن قيبل "النسخ العقلي" الذي تترس به الدكتور فيما ينقل؟ أم هو نسخ تشريعي حقيقي، يأتي على أصول العلل والمحلات وعلى مفهوم الجريمة نفسها في شريعتنا؟

    يسوق الدكتور بعد ذلك "حقيقته" السادسة، فيقول:
    "من أجل الوصول إلى تنفيذ حكم الشرع ومراد الله سبحانه منه والوصول إلى طاعة الله ورسوله، يجب علينا أن ندرك الواقع، وفي حديث ابن حبان في صحيحه في موعظة آل داود أن يكون المؤمن مدركا لشأنه، عالماً بزمانه.
    ومن هنا فإن الفقهاء نصوا على أن الأحكام تتغير بتغير الزمان إذا كانت مبنية على العرف (نص المادة 90 من مجلة الأحكام العدلية)، وأجاز المذهب الحنفي في جانب المعاملات العقود الفاسدة في ديار غير المسلمين، فتغيرت الأحكام بتغير المكان، وقاعدة الضرورات تبيح المحظورات والمأخوذة من قوله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ...) تجعل الشأن يتغير بتغير الأحوال، وكذلك تتغير هذه الأحكام بتغير الأشخاص، فأحكام الشخص الطبيعي الذي له نفس ناطقة تختلف عن الشخص الاعتباري حيث لا نفس له ناطقة.
    وهذه الجهات الأربع وهي الزمان والمكان والأشخاص والأحوال هي التي نص عليها القرافي كجهات للتغير يجب مراعاتها عند إيقاع الأحكام على الواقع.
    ومعلوم أن عصرنا لم يعد أمسه يعاش في يومنا، ولا يومنا يعاش في غدنا، وسبب ذلك أمور: منها: كم الاتصالات والمواصلات والتقنيات الحديثة التي جعلت البشر يعيشون وكأنهم في قرية واحدة، ومنها زيادة عدد البشر زيادة مضطردة لا تنقص أبدا منذ 1830 ميلادية وإلى يومنا هذا. ومنها كم العلوم التي نشأت لإدراك واقع الإنسان في نفسه أو باعتباره جزءاً من الاجتماع البشري، أو باعتباره قائما في وسط هذه الحالة التي ذكرناها.
    وسمات العصر هذه ونحوها غيرت كثيراً من المفاهيم، كمفهوم العقد، والضمان، والتسليم، والعقوبة، ومفهوم المنفعة، ومفهوم السياسة الشرعية، فلا بد من إدراك ذلك كله حتى لا تتفلت منا مقاصد الشريعة العليا." اهـ.

    قلت: أما قول الدكتور " من أجل الوصول إلى تنفيذ حكم الشرع ومراد الله سبحانه منه والوصول إلى طاعة الله ورسوله، يجب علينا أن ندرك الواقع" فأقول كما قال الشاعر: وكلٌّ يدعي وصلا بليلى! فما أسهلها من كلمة تطلق على كل مخالف، "إنه لا يفقه الواقع"! تتنازعها طوائف المسلمين جميعها فيُرفع بها أقزام وأحداث إلى مصاف العلماء، ويوضع بها علماء أفذاذ في صفوف الجهلاء، وتقلب طاولة الاجتهاد على المخالف بمجرد إطلاقها عليه وإن لم تقم عند المعترض بها على ساق ولا قدم! الذين يوافقون الدكتور يحتجون بها على مخالفيه، والذين يخالفونه غاية المخالفة يحتجون بها عليه كذلك! فما أحوجنا إلى كثير من التحرير والتحقيق في ذاك المصطلح المطاط الذي صار سيفا مسلطا على رقاب العقلاء من أولي النظر في هذه الأمة!

    فالآن تأمل أيها القارئ الفطن ما يقرر الدكتور أنه مستنده ومن تابعهم في تبديل الشرائع الجنائية، تأسيسا على فقه الواقع! يقول: "ومن هنا فإن الفقهاء نصوا على أن الأحكام تتغير بتغير الزمان إذا كانت مبنية على العرف" قلت نحن إذن نتكلم عن الأحكام المرتبطة بالعرف، أي أن كل عرف لا يعارض الشرع فإنه يجب اتباعه مهما تغير (ما دام لا ينتقل إلى ما يخالف الشرع)، تأسيسا على قوله تعالى: ((خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)) [الأعراف : 199] ، هذه قاعدة كلية معروفة لا نماري فيها. ولكن هل من تطبيقها أن الناس لو تعارفوا فيما بينهم في يوم من الأيام على أن زنا الرجل في غير بيت الزوجية ليس من الزنا، فإن العقوبة تسقط بذلك؟ وهل لو تعارف الناس على أن زنا المرأة غير المحصنة برضاها ليس من الزنا فإنه لا يكون من الزنا، أو على أن زنا المحصنة برجل أجنبي برضا زوجها لا يكون من الزنا، فإنه تسقط العقوبة بذلك؟ وهل لو تعارف الناس على أن بيع الخمر ليس محرما، صار ثمنها حلالا، وعلى أن أكل الخنزير لا شيء فيه فإنه يصير مباحا أكله وثمنه؟ ثم هل كان المسلمون في مصر على عرف يوافق تلك المصائب التي حشرها القانونيون حشرا في باب الجنايات عندنا حتى يرام طرق هذه السبيل أصلا؟ ما علاقة العرف بما نحن فيه يا دكتور؟

    وتأمل أيها القارئ اللبيب هذه العجيبة الأخرى: "وأجاز المذهب الحنفي في جانب المعاملات العقود الفاسدة في ديار غير المسلمين، فتغيرت الأحكام بتغير المكان"

    قلت لو سلمنا له تنزلا بصحة نسبة هذا الكلام إلى مذهب الأحناف، فما علاقة هذا الكلام بما نحن فيه؟ وهل صرنا نبحث في بطون كتب الفقهاء عن أغرب المذاهب وأكثرها شذوذا، لعلنا نقف على ما يقترب مما قررنا مشروعيته من تغيير الشرع في زماننا لنجعله حجة ومستندا في تجويز ما نريد؟ بئس الفقه هذا ورب الكعبة!

    ثم إن الأحناف إنما أجازوا أكل الربا في ديار الكفار المحاربين لأن أموالهم مباحة في الأصل لا حرمة لها، وهذا عندهم خاص بالمحاربين وديار الحرب التي أعلن الإمام المسلم الحرب عليها! فتأمل يا رعاك الله كيف أجاز الدكتور لنفسه القول بأن الأحناف يجيزون "العقود الفاسدة" – بهذا الإطلاق -، في "ديار غير المسلمين" – بهذا الإطلاق -، ثم جاءنا بهذا الكلام ليجعله مستندا له في جواز إسقاط الحدود الجنائية في بلاد المسلمين ووضع قانون العقوبات الفرنساوي في مكانها! فأقول: هذه – وما قبلها وما بعدها - حيدة واضحة عن تحرير الدليل المطلوب! فإننا لا نطالبه بمجرد إثبات مشروعية تغير الأحكام بتغير الزمان أو المكان (هكذا)! وإنما نطالبه بإثبات صحة ما يقول بدخوله تحت هذه القاعدة من تبديل لشريعة رب العالمين!

    ويضيف الدكتور: "وقاعدة الضرورات تبيح المحظورات والمأخوذة من قوله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ...) تجعل الشأن يتغير بتغير الأحوال" قلت نعم صحيح الضرورة تبيح المحظور ولا مراء، فكان ماذا؟ أين الضرورة المسوغة لما صنعه أئمة القانون الوضعي بشريعة القضاء في بلادنا؟ويضيف: " وكذلك تتغير هذه الأحكام بتغير الأشخاص، فأحكام الشخص الطبيعي الذي له نفس ناطقة تختلف عن الشخص الاعتباري حيث لا نفس له ناطقة."
    قلت ما زلنا في انتظار الدخول إلى لبّ المسألة وحرفها! نطالبه بأن يثبت وجه دخول مسألتنا فيما أدخلها فيه من ذلك!

    فيأتينا الدكتور بقوله:
    ومعلوم أن عصرنا لم يعد أمسه يعاش في يومنا، ولا يومنا يعاش في غدنا، وسبب ذلك أمور: منها: كم الاتصالات والمواصلات والتقنيات الحديثة التي جعلت البشر يعيشون وكأنهم في قرية واحدة، ومنها زيادة عدد البشر زيادة مضطردة لا تنقص أبدا منذ 1830 ميلادية وإلى يومنا هذا. ومنها كم العلوم التي نشأت لإدراك واقع الإنسان في نفسه أو باعتباره جزءاً من الاجتماع البشري، أو باعتباره قائما في وسط هذه الحالة التي ذكرناها.

    قلت فلننظر إذن فيما تغير من الواقع بما يوجب تغيير الحدود الشرعية على ما ينتصر له الدكتور جمعة! يتكلم الدكتور عن كم الاتصالات والمواصلات الحادثة في زماننا، فلا أدري كيف يؤثر هذا في الأحكام الجنائية بما يقال معه بعموم فتنة أو شبهة أو ضرورة تسقط بها الحدود الجنائية كلها، ليس هذا فحسب، بل توضع في مكانها قوانين الكفار! فإن فرغت أيها القارئ الفاضل من حل هذا اللغز، فلتفدنا يرحمك الله بوجه العلاقة بين التشريع الجنائي وزيادة عدد البشر زيادة مطردة لا تنقص أبدا من زمان تبديل الحدود إلى يومنا هذا! فإن الذي أتصوره – بعقلي المتواضع – أن زيادة عدد البشر قد تزيد معها فرص تحقق شروط الحد في أعداد شهود العدل على هذه الواقعة أو تلك، يعني من الناحية الاحتمالية الرياضية المحضة على الأقل! وإلا فلا أجد وجها للارتباط غير هذا! أما زيادة العلوم التي نشأت لإدراك واقع الإنسان في نفسه وفي المجتمع البشري فأين يا معاشر العقلاء في مجرد ذلك ما يسوغ للدكتور ما يريد؟؟ سبحان الله! غاية المسألة إذن كقول من يقول: لقد خرج الأمر عن نصاب إدراككم معاشر الفقهاء، فدعوا عنكم اجتهاداتكم كلها وخذوا قانون أوروبا المدني لعلكم ترشدون، وثقوا في أن الشرع يجيز لكم ذلك بموجب تلك القواعد الكلية التي ذكرناها لكم، وقياسا على فتوى الأحناف بإباحة أكل مال الربا وثمن الخمر والخنزير في بلاد الكفار المحاربين! وليهنكم العلم والفقه والحداثة ومواكبة العصر!

    فتأمل قول الدكتور فيما أظنه يعده ذروة سنام الاستدلال في مقاله هذا:
    " وسمات العصر هذه ونحوها غيرت كثيراً من المفاهيم، كمفهوم العقد، والضمان، والتسليم، والعقوبة، ومفهوم المنفعة، ومفهوم السياسة الشرعية، فلا بد من إدراك ذلك كله حتى لا تتفلت منا مقاصد الشريعة العليا"

    قلت سمات العصر سالفة الذكر هذه، يقول الدكتور إنها غيرت مفهوم العقد (!!) وما يتعلق به، وغيرت مفهوم العقوبة (والآن حصل المراد من الاستدلال!!)، ومفهوم السياسة الشرعية (هكذا جملة واحدة!!)! صحيح أن كثيرا من الوسائل قد حدثت في باب العقود بما يوجب الاجتهاد واستنباط الأحكام في ذلك على ما كان عليه منهج فقهاء المسلمين في تناول النوازل الفقهية على طول تاريخهم وعرضه (وليس بترك شريعة الإسلام في العقود لجعل شريعة الفرنسيين في مكانها!!) وقد كانت ولا تزال المجامع الفقهية المعاصرة تجتهد في ذلك بما يلزم، ولكن بأي وجه وبأي صفة غيرت هذه السمات المذكورة (ونحوها) مفهوم العقوبة في شريعة المسلمين، بما أفضي إلى تبديل الشريعة في هذا الباب بداية من تعريف الجريمة نفسه؟؟ وما هي مقاصد الشريعة العليا التي اضطررنا إلى تبديل حدود الجنايات في شريعتنا حتى لا "تتفلت منا"؟ لعل منها تحصيل رضا المجتمع الغربي المعاصر عنا حكاما ومحكومين حتى نحظى بفتات موائدهم! ولعل منها موافقة الثقافة السائدة التي لا يحل الخروج عليها (ولا أدري كيف دخل تبديل تلك الأحكام تحت هذا المقصد في زمان الخديوي إسماعيل)! ولعل منها الخضوع لسائر ما يقرره أنبياء "حقوق الإنسان" والديمقراطية والليبرالية في شريعتهم المنزلة! ولعل منها الانطباع بطابع القرية الصغيرة التي انقلب العالم كله إليها في إطار العولمة والتغير بتغيرها حتى لا نصير بمثابة بقعة سوداء تشوه صحفتهم البيضاء الزكية! لا صلاح لنا في هذا العالم إلا بهذا ونحوه، فلا مقصد للشرع يعلو على تلك المقاصد ولا ريب.. فاعتبروا يا أولي الألباب!
    ومن الطريف أن الدكتور ينتقل بعد ذلك إلى عنوان فرعي نصه: "تجارب تطبيق الحدود"!! فما أشبه هذا العنوان بقول القائل نحو: "تجارب إقامة الصلاة" أو "تجارب صيام رمضان"!! فبعدما بقيت الأمة طوال بضعة عشر قرنا من تاريخها مطبقة على الحكم بحدود الله، صرنا الآن ننظر فيما يسمى "بتجارب تطبيق الحدود"، فإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله!

    يقول الدكتور في الجزئية الأولى تحت هذا العنوان:
    " فنجد أن السعودية تطبق الحدود عن طريق القضاء الشرعي مباشرة من غير نصوص قانونية مصوغة في صورة قانون للعقوبات الجنائية، والتطبيق السعودي للحدود مستقر وليس هناك أي دعوة أو توجه مؤثر لإلغائها أو إيقافها أو تعليقها. وإن كانت هناك بعض النداءات من معارضي النظام السياسي تدعو إلى ضبط الإجراءات وتصف النظام الحالي بعدم العدالة وباعتدائه على حقوق الإنسان." اهـ.

    قلت تأمل قوله بأن التطبيق السعودي مستقر وليس هناك دعوة أو توجه لإلغاء ذلك! لقد كنا نحن في مصر كذلك – والله – من قريب في تاريخ بلادنا، فمن أين جاءت الدعاوى والتوجهات لإلغاء الحدود أو إيقافها أو تعليقها أو حتى تقنينها؟؟ وما موقف الدكتور جمعة من تلك النداءات التي صدرت من "معارضي النظام السياسي" السعودي تدعو إلى ضبط "الإجراءات" وتصف النظام بعدم العدالة والاعتداء على حقوق الإنسان وما إلى ذلك؟ أيوافقها على ذلك أم يخالفها؟ لا أحسبه إلا يوافقها، وكلامه الذي أوسعنا في نقله خلال هذا المقال شاهد على ذلك! ففي الوقت الذي لا يماري فيه عامة أهل العلم والديانة في أن المملكة هي بالجملة – على مستوى النظام السياسي والرعية على السواء – أقرب إلى مقاصد الشريعة العليا من غيرها من البلاد الإسلامية المعاصرة، فهي باقية على حدود الله وشريعته في الحكم والقضاء، بما يدخل تحت ذلك من انفتاح على التجارة والصناعة والعلوم الغربية الحديثة بأخذ كل نافع منها وتبادل المنفعة مع دول العالم، فإننا نتوقع إن سألنا الدكتور جمعة في تلك المفاضلة بين "التجربة المصرية" و"التجربة السعودية" أن يقول إن النظام المصري أقرب في نظره إلى تحقيق مقاصد الشريعة العليا في زماننا من النظام السعودي! هذا هو محصول كلامه في هذه الفتوى وغيرها كما لا يخفى!

    ثم يقول:
    "حالة باكستان والسودان وإحدى ولايات نيجيريا وإحدى ولايات ماليزيا وإيران والتي نصت قوانينها على الحدود الشرعية وتم الإيقاف الفعلي لها من ناحية الواقع في الباكستان، وتم تعليقها بعد عهد النميري في السودان، وتم تعليقها أيضاً في إيران وماليزيا، وطبقت في ولاية نيجيريا بصورة غاية في الجزئية، ويشيع في كل هذه البلدان العمل بالتعزير بدلاً من تطبيق الحد، فيما عدا الجرائم التي تستوجب الإعدام."

    قلت: سبحان الله، ألا يرى الدكتور جمعة في ذلك الذي ذكره حجة على موقفه من (التجربة المصرية) التي رفعت الحدود من التشريع رأسا ووضعت غيرها في مكانها من قوانين أوروبا؟ لماذا لا يكون القانون الجنائي في بلادنا كما في تلك البلاد مقررة فيه الحدود – على الأقل - مع شيوع العمل بالتعزير في مكانها مثلا؟ إنني أستحلف بالله كل عاقل ذي علم وبصيرة أن يخبرني بالفارق (الواقعي) الذي لم يكن من الممكن بسببه أن تكون الحال في التشريع الجنائي عندنا في مصر كما في تلك البلاد المذكورة؟ أولئك الذين اتخذوا القرار بتعليق الحدود عندنا في زمان محمد علي وأولاده، لماذا لم يمضوا إلى مثل هذا الذي مضى إليه هؤلاء إن كانوا ولابد فاعلين؟؟ أي ضرورة أو فتنة في عموم المسلمين هذه التي اختلفت عندنا عما عند هؤلاء، فأوجبت افتراقنا عن تلك الدول برفع شريعة الحدود كلها وترقيع مكانها بمستورد القانون الفرنسي، وقد كنا في عافية من ذلك الأمر كله كما كانوا هم وغيرهم؟ أم أن الأمر في نظر الدكتور جمعة لا يتطلب التعليل الفقهي أصلا ولا يلزم النظر فيه من منطلق تقدير الضرورة المزعومة بقدرها؟ كيف لا يرى فقيه ما في ذلك المسلك من هتك لجناب الشريعة وفتح لباب العبث في طولها وعرضها بدعوى موافقة متغيرات العصر وما صار إليه العالم من تقدم في الاتصالات وزيادة السكان وتشعب المعارف الإنسانية إلى آخر ما كان غاية الرجل في الاستدلال التذرع بأنه يلزم منه تغير الأحكام لتغير الزمان؟؟ هل يعقل أن يصبح فقه المقاصد مشاعا مفتوحا لمثل هذا العبث بلا زمام ولا خطام، حتى يكون غاية ما يستند إليه الفقيه في وضع قانون مستورد من شريعة من شرائع البشر لينسخ به شريعة الإسلام نسخا كليا في باب من الأبواب، قوله إن الحكم يتغير بتغير المكان وتغير الزمان والأشخاص والأحوال وغير ذلك مما ساقه علينا الدكتور في كلامه من قواعد كلية لا محل تحت شيء منها لما يريد؟ هل آن لنا في هذا الزمان أن نشهد انتقاض عرى الشريعة عروة عروة على أيدي فقهاء الحداثة والتجديد تحت دعوى النظر المقاصدي الكلي ومراعاة تغير الزمان؟ اللهم إن كان كذلك وكنا في ذاك الزمان، فاقبضنا إليك غير مبدلين ولا مغيرين ولا تخزنا يوم العرض عليك آمين!

    تأمل قول الدكتور هداه الله:
    " بقية الدول الإسلامية والتي يبلغ عددها 56 دولة من مجموع 196 دولة في العالم سكتت في قوانينها عن قضية الحدود، وكانت وجهة النظر في هذا الشأن أن عصرنا عصر شبهة عامة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ادرؤوا الحدود بالشبهات"، كما أن الشهود المعتبرين شرعاً لإثبات الجرائم التي تستلزم الحد قد فقدوا من زمن بعيد، فيورد التنوخي في كتابه "نشوار المحاضرة": أن القاضي كان يدخل المحلة أو القرية فيجد فيها أربعين شاهدا ممن نرضى من الشهداء عدالة وضبطاً، وأنه الآن - أي في عصره - يدخل القاضي البلدة فلا يجد فيها إلا الشاهد أو الشاهدين. وأن عصرنا بصفة عامة يمكن أن يوصف بفقد الشهادة أيضاً."

    قلت إن قوله بأن تلك الدول "سكتت" هذا باطل وفيه من التدليس ما لا يخفى! كيف يقال إنها "سكتت" عن الحدود وقد صرحت برفعها ووضع غيرها من شرائع الغرب في مكانها، وانتصر فيها من انتصر لذلك – كالدكتور جمعة – بأن هذا مقتضى تغيرات الزمان والأحوال؟ ألا يدري فضيلة الدكتور الفرق بين "السكوت عن الشي" و"التصريح بخلافه"؟

    وأخيرا يأتينا الدكتور بذكر مقتضب لطبيعة هذه الضرورة التي دندن حولها في طول المقال وعرضه على أنها تدخل تحت القواعد الكلية المذكورة، فيقول إن عصرنا عصر شبهة عامة! فما تحرير هذه الشبهة العامة؟ أهي شيوع الظن – مثلا – بأن حدود الشريعة فيها من القسوة والوحشية ما يسوغ تركها؟ هذه شبهة يكفر من يعتقدها ويخرج من دائرة الإسلام بلا نزاع، فنعوذ بالله من القول بشيوعها بين المسلمين! أهي شبهة أن القانون الفرنسي أنسب لهذا الزمان ولعصر العولمة والدولة المدنية من الحدود الشرعية الجنائية؟ هذه كسابقتها، كفر بواح يختص به العلمانيون والزنادقة فلا يعتقده مسلم! فما تحرير الشبهة التي يقصدها الدكتور؟ أهي شبهة أن الزنا وشرب الخمر والسرقة والقتل بغير حق وغير ذلك من الجرائم الكبرى في شريعة الإسلام ليس لها عقوبة ولا حد في الإسلام؟ هذا كلام لا يتصور بحال من الأحوال عمومه في حواضر المسلمين لا في هذا الزمان ولا غيره، ولا يقوله إلا حديث عهد بجاهلية أو رجل نشأ في صحراء أو بادية بعيدة فلا يدري من أمر الإسلام شيئا!!
    ما تحرير تلك الشبهة العامة التي يزعم الدكتور أنها كانت متكأ آباء القانون الوضعي في تبديلهم الحدود في مصر يوم بدلوها؟ وهل هذه الشبهة العامة اختصت بها تلك الدول المبدلة من مجموع البلاد الإسلامية، بخلاف تلك التي ذكرها الدكتور في الفقرتين السابقتين؟ كيف وما وجه ذلك وما بيانه؟ هلا تنزلتم من عليائكم وتفضلتم على ضعيف عقولنا وضئيل علومنا بشيء من البيان في وجه تلك الشبهة وحقيقتها وسبب اختلافها فيما بين تلك الدول؟

    ويضيف الدكتور قاصمة أخرى من قواصمه في الانتصار لجريمة التبديل فيقول: "كما أن الشهود المعتبرين شرعاً لإثبات الجرائم التي تستلزم الحد قد فقدوا من زمن بعيد" قلت هذه الدعوى من أقبح ما رأيت في كلام الدكتور هداه الله من أول المقال إلى آخره، والله المستعان! فإنه من المعروف أن لكل زمان عدوله، المشهود لهم بالصدق والضبط، وفي النص شواهد على هذا المعنى وعلى أنه باق في الأمة إلى قيام الساعة، حتى يأتي ابن مريم فتقاتل معه الطائفة المنصورة التي لا تزال ظاهرة على الحق إلى قيام الساعة (وحديث الطائفة المنصورة في مسلم وغيره)! فهل يعقل خلو الزمان من عدول أولي ديانة ينصرون الحق وإن درست معالم الشريعة فلم يبق منها إلا القليل؟ وإن لم تكن حماية الحق ونصرته في كل زمان قوامها عدالة العدول وحسن ديانتهم فعلى أي شيء تقوم إذن؟ صحيح إن جملة ضوابط انخرام المروءة في كل قرن تختلف عن سابقه، فلم نعد نشترط في الشاهد العدل في زماننا كثيرا مما كان يشترطه السلف في الشاهد والراوي لقبول شهادته أو روايته، ولكن هذا لا يعني ضياع العدالة نفسها في خالف القرون بعموم! وإلا فما تعريف الدكتور للعدالة وما حدها عنده؟ وهل يزعم الدكتور أن المصريين في زمان جريمة التبديل هذه قد خلت سائر بلادهم من أولها إلى آخرها من عدل واحد يوثق في خبره ويُطمأن لضبطه وشهادته؟ هل يلقى الله بدعوى أن المصريين كانوا ولا يزالون فسقة منخرمين كلهم لا تقبل شهادة أحد منهم؟

    أقول إنه على دعوى الدكتور هذه، فقد فُقد الشهود المعتبرون شرعا لإثبات سائر الجرائم والعقود وكل شيء! وإلا فمن ذا الذي قال إن "الشهود المعتبرين" مقصور طلبهم في شريعتنا في تلك الجرائم التي تقام فيها الحدود وفقط؟ ولو سلمنا بصحة ذلك، فهل القانون الوضعي الأوروبي في الجنايات لا يستعين بالشهود أو يغني القاضي عن الاستدلال بشهادتهم؟ لماذا لم يلجأ التنوخي – الذي تعلق الدكتور بكلامه - في زمان ضاعت فيه شهادة العدول أو كادت، إلى استيراد قانون وضعي من قوانين النصارى في مكان الشريعة بمقتضى هذا الإشكال كما يريد الدكتور أن يجعل من هذا الأمر مدخلا إليه؟ فإذا كان فقد الشهود العدول يفضي إلى تعطيل الحدود الشرعية، فهل يجيز إبدال القوانين الوضعية بها؟ أي فقه هذا؟

    أما قول الدكتور:
    " وأن التفتيش للوصول إلى الحقيقة التي تؤدي إلى إقامة الحد ليس من منهاج الشريعة، فإن ماعزاً أتى يقر على نفسه فأشاح النبي بوجهه أربع مرات، ثم أحاله على أهله لعلهم يشهدون بقلة عقله أو جنونه، ثم أوجد له المخارج، ولما رجع في إقراره أثناء إقامة الحد قال رسول الله لعمر: هلا تركتموه؟. وأخذ العلماء من هذا جواز الرجوع عن الإقرار ما دام في حق من حقوق الله وليس بشأن حق من حقوق البشر، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله عن الطرف الآخر للجريمة، وهي المرأة، ولم يفتش عنها حتى كنوع من أعمال استكمال التحقيق. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي بكر وعمر وعثمان: أن السارق كان يؤتى به إليهم، فيقول له الإمام: أسرقت؟ قال: لا!." اهـ.

    فهذا كلام لا وجه لذكره أصلا في هذا المقام، وإلا فهل المطالبة بالعودة إلى اعتماد الحدود الشرعية في العقوبات في بلاد المسلمين (وإن لم تقم إلا قليلا لتخلف شروط الإثبات في أكثر الحالات) يلزم منها هذا "التفتيش للوصول إلى الحقيقة" الذي ينكره الدكتور؟ وهل إرجاع الأمر إلى نصابه على وسطية الإسلام بدلا من هذا التفريط والتبديل الذي ينتصر له الدكتور، يلزم منها إقامة محاكم تفتيش تدخل بيوت المسلمين لتوقع عليهم العقوبات تشفيا؟ سبحان الله! هكذا سنة الله الماضية في الغلاة مهما كانت منزلتهم من العلم! لا يقال لصاحب غلو ارجع إلى الحق إلا تراه يتهم ذاك الناصح بالغلو في الجهة المقابلة، فلا يزال المرجئة يتهمون أهل السنة بالخارجية، ولا يزال الخوارج يتهمون أهل السنة بالإرجاء، ولا يزال النواصب يتهمون أهل السنة بالتشيع والشيعة يتهمونهم بالنصب، ولا يزال المجسمة يتهمون أهل السنة بالتجهم، والجهمية والمعتزلة والأشاعرة يتهمونهم بالتجسيم.. الخ.! فهكذا الحق وسط بين طرفين من الغلو، يحشر أصحاب كل طرف منهما أصحاب الحق في مخالفيهم من الطرف الآخر ظلما وعدوانا، والله المستعان لا رب سواه!

    ويضيف الدكتور:
    " فالنص على الحدود -كما ذكرنا- يفيد أٍساساً: تعظيم الإثم الذي جُعل الحد بإزائه، وأنه من الكبائر والقبائح التي تستوجب هذا العقاب العظيم، ويؤدي ذلك إلى ردع الناس عن هذه الجرائم على حد قوله تعالى: (ذلك يخوف الله به عباده يا عبادي فاتقون)، ويكمل الحد في هذا الشأن: الضبط الاجتماعي الذي يتولد من الثقافة السائدة لدى الكافة باستعظام هذه الآثام ونبذ من اشتهر بها أو أعلنها أو تفاخر بفعلها. كما أن الشرع فتح باب التوبة، وأمر بالستر في نصوص عديدة من الكتاب السنة." اهـ.

    قلت ما أعجب هذا الكلام! النص على الحدود "يفيد أساسا" تعظيم الإثم! فهل نفهم من هذا أنه "لا يفيد أساسا" وجوب إقامة الحد نفسه على الحقيقة؟ هل صار النص على الحدود يراد به باطنه لا ظاهره، حتى إذا ما تحقق في المجتمع شيوع ثقافة استعظام هذه الآثام، صرنا في غنية عن إقامة الحدود بما يسوغ لنا نسخها بالقانون الوضعي! أهذا مسلك آخر من مسالك الدكتور في الوصول إلى ما يريد؟ إذن فلتسقط الصلاة عن كل من تحقق في نفسه أنه قد صار من أهل التقوى واليقين، لأن النص عليها "يفيد أساسا" تحقيق التقوى في النفوس! وليسقط صيام رمضان عن كل من تحققت في نفسه مقاصده، فإن النص عليه "يفيد أساسا" تحقيق تلك المقاصد! وليسقط حج البيت عمن استطاع إليه سبيلا إذا ما استحضر مهابة مشهد الحشر يوم القيامة في نفسه، لأن النص على الحج "يفيد أساسا" تحقيق هذا المقصد أو غيره مما يسهل تقرير تحققه في نفوس الناس، وكل إنسان أدرى بحاله! بل أكثر من ذلك! فلتكن صلاتنا صلاة اليهود، وصيامنا صيام النصارى وحجنا حج الهندوس، حتى نحقق مقصد السلام العالمي ونتحرى سماحة الإسلام في عصر صار العالم فيه قرية صغيرة!
    نعم من مقاصد تشريع الحدود تعظيم الإثم في نفوس الناس، فكان ماذا؟ قد ضيعتم أنتم ذلك المقصد وغيره يوم بدلتم الحدود ووضعتم زبالة القوانين في مكانها، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فأنى يكون لكم غرض في مثل هذا الكلام؟

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2008
    المشاركات
    3,278

    افتراضي الرد على كلام د. علي جمعة في مسألة "تطبيق الشريعة"..

    ....... تابع:

    وفي الختام يقول الدكتور:
    ولقد ذكرنا ما ذكرناه إجابة على المبادرة، نرى أن هذه القضية بهذه الصورة ليست ملحة أصلاً، ولا هي في ترتيب أولوياتنا بالمسألة الأَولى، بل إن إثارتها الآن يضر ولا ينفع.

    قلت فمتى إذن نثيرها يا دكتور هداك الله؟ هلا بينت لنا بتحرير واضح مفصل ما هي الحال العامة التي تتخذ أنت الانتقالَ إليها شرطا لإثارة تلك القضية والكلام فيها والشروع في الأخذ بأسباب إصلاح تلك الجناية الكبرى التي ارتكبها "آباء القانون الوضعي" في قانون الجنايات في بلادنا؟ وكيف يستقيم لك تصور تلك الحال التي ترجئ إليها الكلام في هذه القضية، وقد قررت أن هذه الحال التي نحن فيها الآن (التجربة المصرية) هي أحسن ما تتحقق به مقاصد الشرع العليا في ظل تطور الزمان وتوسع العلوم الإنسانية وثورة المعلومات والعولمة وقيام الدولة المدنية ودولة المؤسسات ونظام المواطنة والديمقراطية والليبرالية و... الخ، وهي خصال لا يخفى على عاقل أن الأمم لا تمضي إلا إلى المزيد منها؟


    ما أقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل!

    انتهى المقصود من الرد، فالله نسأل أن يقضي لهذه البلاد أمر رشد يذل فيه أهل معصيته ويعز فيه أهل طاعته وتقام فيه شريعته على خير ما يحب ويرضى، والحمد لله رب العالمين.

    ------------------------
    (1) ونقول لو أنه انتهى عن أخذ الرقيق مراعاة لمصالح المسلمين في ظروف مخصوصة وأحوال معينة، كالخوف من بطش العدو الكافر الذي لم تتحقق لديه القدرة على ردعه مثلا (وهذا بعيد لأنه لن يُقدم الإمام في العادة على قرار الحرب والقتال بما يوصل معه إلى أخذ الأسرى والاسترقاق إلا وقد ترجح لديه الأمن من ذلك)، فهذا شأن آخر، وترجيح يجري على أصول الشريعة عندنا، إذ القائد المسلم له أن يمسك بالسبايا والرقيق وله أن يختار المن أو الفداء كما هو متقرر في كتب الفقهاء، بحسب ما يرى من مصالح المسلمين.. فإن كان قائد الجيش المسلم في هذا الزمان يمتنع عن الاسترقاق تأسيسا على هذا الاجتهاد منه فهو مشروع لا شيء فيه، أما أن يكون مستنده أن الرق نفسه لم يعد من حق المسلمين أصلا لأن الأمم في زماننا قد اتفقت على تحريمه، فلم يعد تشريع الرق نفسه يناسب هذا الزمان، فهذا من أبطل الباطل، والقائل به على خطر عظيم، ولا يستوي القولان كما لا يخفى على ذي بصيرة ونظر! الأول يجري على شروط وضوابط شريعتنا في الرق، فيعلق خيار الإمام فيه على مصلحة المسلمين وعلى قدرتهم وعلى أمن الفتنة وغير ذلك من أصول كلية، أما الثاني فينسخ ذلك كله بقانون وضعي، يجعله ملزما لجميع أئمتنا وولاة أمورنا في هذا الزمان وما بعده من أزمان وفي كل مكان لانقراض الرق نفسه بسبب اتفاق الأمم على ذلك، فبالله كيف يستويان؟!

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •