الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .. وبعد:
اللسان نعمة من نعم الله العظيمة، صغير حجمه عظيم طاعته وجرمه، إذ باللسان يستبان الكفر والإيمان، فاللسان رحب الميدان، واسع المجال، هو ترجمان القلوب والأفكار، آلة البيان وطريق الخطاب، له في الخير مجال كبير وله في الشر باع طويل، فمن استعمله للحكمة والقول النافع، وقضاء الحوائج، وقيده بلجام الشرع فقد أقر بالنعمة ووضع الشيء في موضعه، وهو بالنجاة جدير، ومن أطلق لسانه وأهمله، سلك به الشيطان كل طريق، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، بل إن جوارح الإنسان كلها مرتبطة باللسان في الاستقامة والاعوجاج، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك فان استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا» [رواه الترمذي وحسنه الألباني]
عناية الإسلام بأسلوب الكلام:
قد عني الإسلام عناية كبيرة بموضوع الكلام وأسلوب أدائه، لأن الكلام الصادر عن إنسان ما يشير إلى حقيقة عقله وطبيعة خلقه، ولأن طرائق الحديث في جماعة ما تحكم على مستواها العام ومدى تغلغل الفضيلة في بيئتها.
ينبغي أن يسأل الإنسان نفسه قبل أن يحدث الآخرين: هل هناك ما يستدعي الكلام؟
فإن وجد داعيا إليه تكلم، وإلا فالصمت أولى به، وإعراضه عن الكلام حيث لا ضرورة له عبادة جزيلة الأجر.
قال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: "والذي لا إله غيره ما على ظهر الأرض من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان".
وقال ابن عباس رضي الله عنه: "خمس أحسن من الدُّهْم الموقفة - أي الجيدة - لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليك الوزر، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا، فإنه رب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه، فعيب به، ولا تمار حليما ولا سفيها، فإن الحليم يقليك وإن السفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا تغيب عنك بما تحب أن يذكرك به، وأعفه مما تحب أن يعفيك عنه، واعمل عمل رجل يرى أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالإجرام".
والمسلم لا يستطيع أداء هذه الخصال الخمس إلا إذا ملك لسانه وسيطر على زمامه بقوة، فكبحه حيث يجب الصمت، وضبطه حيث يريد المقال، أما الذين تقودهم ألسنتهم فإنما تقودهم إلى مصارعهم.
خطر اللسان:
لنتأمل في هذا الحديث العظيم في الصحيحين من حديث أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفع الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم» [رواه البخاري]. ولقد جاء التأكيد العظيم على حفظ اللسان: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [سورة ق: 18]، وأيضا جاءت تلك الوصية العظيمة «يا معاذ كف عنك هذا وأخذ بلسانه.. وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» [رواه الترمذي وصححه الألباني].
ولخطورة هذا الأمر وعظمه فقد ضرب الصحابة الكرام أروع الأمثلة في حفظهم لألسنتهم: فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يمسك بلسانه ويقول: "إن هذا أوردني الموارد". رواه مالك، وقال ابن بريده: رأيت ابن عباس آخذا بلسانه وهو يقول: "ويحك قل خيرا تغنم أو اسكت عن سوء تسلم وإلا فاعلم أنك ستندم"، قال: "فقيل له: يا ابن عباس لم تقول هذا؟"، قال: "إنه بلغني أن الإنسان ـ أراه قال ـ ليس علي شيء من جسده أشد حنقا أو غيظا يوم القيامة منه على لسانه إلا ما قال به خيرا أو أملى به خيرا"، وكان ابن مسعود يحلف بالله الذي لا اله إلا هو: ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان.
الكلام أسيرك:
الكلام أسيرك، فإذا خرج من فيك صرت أنت أسيره، والله تعالى يقول: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [سورة ق: 18]، وإذا أردت أن تستدل على ما في القلب فاستدل عليه بحركة اللسان فانه يطلعك على ما في القلب شاء صاحبه أم أبى.
ومعصية النطق يدخل فيها الشرك، وهو أعظم الذنوب عند الله عز وجل، ويدخل فيها القول على الله بغير علم وهو قرين الشرك، ولذلك فإنّ اللسان سلاح ذو حدين فهو عند اللبيب المهتدي آلة من آلات الخير والبر، ومركب من مراكب البلوغ والنجاح، وهو عند الوقح السفيه عقرب خبيثة، ودود علق يلاصق لحم من ينال.
من آفات اللسان:
الآفة الأولى: الشرك بالله تعالى:
يقول الحافظ ابن رجب: "فإن معصية النطق يدخل فيها الشرك وهو أعظم الذنوب عند الله عز وجل ويدخل فيها القول على الله بغير علم".
الآفة الثانية: القول على الله بغير علم:
إن القول على الله تعالى بغير علم هو من أعظم الذنوب.. بل هو أعظم من الشرك كما قرر ذلك ابن القيم رحمه الله، وما ذاك إلّا لأنه هو السبب في الشرك ، فان السبب فيه هو القول على الله بغير علم.
الآفة الثالثة: الغيبة:
وهي ذكر العيب بظهر الغيب ، ذكرك أخاك بما يكره سواء أكان فيه ما تقول أم لم يكن فهكذا بينها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل في محكم تنزيله: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } [سورة الحجرات: 12].
والغيبة ذات أسماء ثلاثة: الغيبة والإفك والبهتان.
فإذا كان في أخيك ما تقول فهي الغيبة...
وإذا قلت فيه ما بلغك عنه فهو الإفك...
وإذا قلت فيه ما ليس فيه فهو البهتان...
هكذا بين أهل العلم الغيبة، فهي تشمل كل ما يفهم منه مقصود الذم سواء أكان بكلام أم بغمزة أم إشارة أم كتابة.
الآفة الرابعة: الكذب:
جاء في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم ما حدث به مما رآه من أنواع عذاب أهل النار فكان مما قال صلى الله عليه وسلم: «أما الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يكذب الكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة»...
وقال صلى الله عليه وسلم: «وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» [رواه مسلم].
الآفة الخامسة: القذف:
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة النور: 4]، وهذه آفة لا يكاد يسلم منها اليوم إلا موفق من كثرة من يقع فيها، إن قذف المؤمنين والمؤمنات في أعراضهم أو دينهم أو اتهامهم بما هم منه براء، كل ذلك باب من الذنب عظيم، وهو من الكبائر.
الآفة السادسة: شهادة الزور:
قال سبحانه مثنياً على صنف من عباده {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [سورة الفرقان: 72]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [سورة البقرة: 283].
الآفة السابعة: السب والشتم والسخرية بالمؤمنين:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة الحجرات: 11].
الآفة الثامنة: الحلف بغير الله تعالى:
كالحلف بالأمانة والذمة والوالد والولد والشرف والقبيلة وبحياتك وحياة النبي، قال صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد أشرك» [صححه الألباني]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» [صححه الألباني].
الآفة التاسعة: الكلام بالباطل أو السكوت عن الحق:
يقول ابن القيم رحمه الله: "وفي اللسان آفتان عظيمتان إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام وآفة السكوت وقد يكون كل منهما أعظم إثما من الأخرى في وقتها، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاص الله، مراء مداهن إذا لم يخف على نفسه، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، عاص لله، وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته، فهم بين هذين النوعين. وأهل الوسط - وهم أهل الصراط المستقيم - كفوا ألسنتهم عن الباطل وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة".
الآفة العاشرة: اللعن:
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة» [صححه الألباني].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينا وشمالا فإذا لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن، فان كان كذلك أهلا وإلا رجعت إلى قائلها» [رواه أبوداود وحسنه الألباني].
النكت:
انتشر بين الناس اليوم نوع من أنواع الكذب وهو ما يسمى (بالنكت) حيث يقوم بعض الناس باصطناع حكايات لا أصل لها عن جنسيات أو انساب أو بلاد لأقوام، وما ذاك الا من اجل إضحاك الناس، وهذا أمر محرم جمع بين الغيبة لهؤلاء والكذب.
وقد ورد الوعيد الشديد عليه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ويل له ويل له» [رواه الترمذي وحسنه الألباني]، والويل: وادٍ في جهنم.
عود لسانك القول الجميل:
ما أجمل أن يعودّ الإنسان لسانه الجميل لين القول فإذا ما تكلم لم يقل إلا خيراً، والكلام الطيب العف يجمل مع الأصدقاء والأعداء جميعا وله ثماره الحلوة، فهو مع الأصدقاء يحفظ مودتهم، ويستديم صداقتهم، يمنع كيد الشيطان أن يوهي حبالهم ويفسد ذات بينهم، قال الله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [سورة الإسراء: 53].
وحسن الحديث مع الأعداء يطفئ خصومتهم، ويكسر حدتهم، أو يوقف تطور الشر، واستطارة شرره، قال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [سورة فصلت: 34].
احذر الوقوع في العلماء:
إن من أخطر أنواع الكلام المذموم الذي يعد من حصائد الألسنة وتفوح به كثير من مجالس من ينتسبون إلى الخير، ما يشيع في بعض المجالس من القيل والقال التي محصلتها الوقيعة في أعراض الأكابر من العلماء، والتحريض على نزع يد الطاعة من أولي الأمر، وإحداث النفرة والفرقة بين خيرة الإخوان والدعاة إلى الله تعالى، بسبب الخوض في الأحاديث ونقل الأخبار دون وعي أو تثبت.
ختاما:
علينا أن نعلم بأن الكلمة مسؤولية لابد أن نعي كيف نتعامل معها، فرب كلمة نابية أدت إلى خصومة، ورب كلمة جافية فرقت شمل أسرة، ورب كلمة طاغية أخرجت الإنسان من دينه، والعياذ بالله، ولكن رب كلمة حانية أنقذت حياة، ورب كلمة طيبة جمعت شملاً، ورب كلمة صادقة أدخلت إلى الجنة.
جعلنا الله وإياكم من أهلها، ولأهمية الكلمة وأثرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» [متفق عليه]، فهذا حديث شريف لو فقهه الناس، وصدقوا النية في التعامل معه، لتجنبوا الكثير من المآسي، وكثيرا ما يفسد الود بين الناس كلمة نابية مؤذية ليست في محلها، تنفذ كما ينفذ السهم المسموم، فتفرق ما كان مجتمعا وتفسد ما كان صالحاً.
مع سماحة الشيخ:
قال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: ذكر الإنسان بما يحبه ويرضاه هذا ليس بغيبة، كونه يقال عنه إنه طيب، وأنه محافظ على الصلوات، وأنه من الأخيار هذا ليس بغيبة هذا ثناء ولا حرج في ذلك، وإنما الغيبة ذكرك أخاك بما يكره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الغيبة ذكرك أخاك بما يكره» [صححه الألباني] هذه الغيبة، بخيل، جبان، بذيء اللسان، وما أشبه ذلك مما يكرهه هذه هي الغيبة.
وإذا اغتاب الإنسان أخاه، فالواجب عليه أن يعتذر إليه ويقول سامحني جزاك الله خيراً أنا وقعت في عرضك، فإن خاف من شر وأن يترتب عليه شر يستغفر له ويدعو له، ويذكره في محاسنه التي يعلمها عنه في المواضع التي اغتابه فيها ويكفي هذا والحمد لله، وإذا استهزأ بلسانه فهو مستهزئ، إذا استهزأ بالدين فهو كافر ولو ما عنده أحد يستهزأ عليه التوبة إلى الله والرجوع إلى الحق ومن تاب لله تاب الله عليه.
http://www.al-islam.com/Content.aspx...&ContentID=534