المطلب الثاني: نماذج من المرفوع، مقارنا بمعطيات العصر.
المقصود من هذا المطلب إيراد بعض النماذج من التفسير المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إيراد ما كشف عنه العلم الحديث في الموضع نفسه، وبيان وجه التوافق بين التفسيرين، بما يعد إضافة تفسيرية لا تتعارض مع ما صح من التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن مثل هذا يعدّ لونا من ألوان التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الكون عنوان هذا المؤتمر المبارك.
والأمثلة على ذلك متعددة، وأرى أن خير مثال واقعي مفيد نذكره هنا هو تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للقوة في قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال: 60] فهذه آية عظيمة فيها أمر إلهي لعباده المؤمنين بأن يبذلوا جهدهم في إعداد ما استطاعوا من قوة لعدوهم(40)، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر هذه القوة بالرمي، كما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن القوة الرمي) ثلاثا(41).
ولا يخفى ما تشهده البشرية اليوم من التطور الهائل في أنواع السلاح، فهل يفهم من الحديث الحصر، وأنه لا يجوز إضافة شيء من التفسير إليه؟ نقول في جواب هذا السؤال: لا شك أن الحصر غير مراد، وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أهم أنواع الأسلحة وهو الرمي، فلا مانع إذن من إضافة بعض وجوه القوة الأخرى مثل: القوة الاقتصادية والسياسية والعلمية والصناعية فإن اللفظ يتسع لذلك، بل قد يضاف إليها أيّ وجه آخر قد يكشف عنه المستقبل، ما دام اللفظ يتسع له ولا يأباه.
ونظير هذه الآية ما ورد في قوله تعالى عن النحل: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 69].
فتأمل كيف جاءت كلمة (شفاء) مطلقة، وقد صح في الحديث: (أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أخي استطلق بطنه، فقال: اسقه عسلا فسقاه عسلا، ثم جاء فقال: سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا، قال: اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه، ثم جاء فقال: ما زاده إلا استطلاقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلا، فذهب فسقاه عسلا فبرأ)(42).
ولا نريد هنا أن نستطرد في ذكر منافع العسل، فتلك حقيقة علمية لا نزاع فيها، وقد أفاض الأطباء في بيان ذلك، إنما نريد أن نبين، أن اللفظ الكريم يبقى متسعا لكل ما يتوصل إليه العلم الحديث من المنافع، فيدخل فيه ما ذكروه من أنه يصلح علاجا:
للمصابين بآفات قلبية، ولمرضى السل الرئوي، وأمراض الكبد، وأمراض العيون، وللالتئام الجروح، وعلاج حموضة المعدة، والنزيف المعدي، والإمساك، والقيئ، وقرح المعدة والاثني عشر، والأمراض الجلدية، وغير ذلك مما بسطه علماء الطب بالأدلة والتقارير الطبية(43)، حتى قال أحد كبار علماء الطب(44): (إن عسل النحل هو سلاح الطبيب في أغلب الأمراض، واستعماله في ازدياد مستمر بتقدم الطب، فهو يعطى بالفم، وبالحقن الشرجية، وتحت الجلد وفي الوريد، ويعطى ضد التسمم الناشىء من مواد خارجية مثل الزرنيخ والزئبق والكلوروفورم، وكذلك ضغط التسمم الناشىء من أمراض أعضاء في الجسم مثل التسمم البولى، والناتج من أمراض الكبد والمعدة والأمعاء، وفي الحميات والحصبة وفي حالات الذبحة الصدرية، وفي احتقان المخ والأورام المخية، وغير ذلك من أمراض).
وجاء في كتاب الطب في القرآن عند ذكر الآية (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ):
ففي ذلك إشارة واضحة ومباشرة إلى كون العسل يستعمل كعقار، وهو مذكور في كثير من دساتير الأدوية العالمية في فائدته كغذاء وكدواء لكثير من الأمراض، وهذا يدخل في موضوع الطب الغذائي والطب العلاجي، وقد نشرت مئات الأبحاث والكتب الطبية حول دواعي استعمالاته وفائدته (مصادر كثيرة)، وهذه الآية والله أعلم معناها طبي تخصصي واضح، يتفق عليه المتخصصون كلهم(45).
وهكذا نرى أن اللفظ يتسع لكل أنواع العلاج التي توصل إليها الأطباء، ويتسع أيضا لما عسى أن يتوصلوا إليه في مستقبل الأيام، علما بأن اللفظ قد ورد مطلقا أيضا في الحديث كما في القرآن، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالشفاءين العسل والقرآن)(46)، ولا غرابة في ذلك إذ هما يخرجان من مشكاة واحدة، (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3- 4]
وهذا بخلاف ما إذا كان اللفظ لا يتسع له، ومن أمثلة ذلك:
قول بعضهم في قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) [الأنعام: 82].
وقد أراد المفسرون أن يجعلوا معنى الظلم في مثل هذه الآيات الشرك، وهو تعيين لا أرى ما يسوغه، وفي قوله تعالى :( ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) قالوا : هو الشرك، ولا أستطيع أن أفهمه على هذا الوجه فإن المؤمن لا يكون مشركاً!! إنما لبس إيمانه بذنوب كالتي تدل عليها عبارة ظلم النفس، فيكون المعنى: ولم يلبسوا إبمانهم بذنوب يظلمون بها أنفسهم(47).
وهذا فهم غير سديد، أدى إليه عدم الرجوع إلى التفسير المأثور، ولو رجع إليه لرأى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسره بذلك، فقد جاء في الصحيحين(48) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : "لما نزلت (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لا يظلم نفسه? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]".
فقد بين صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم أن ظاهر الآية غير مراد، وأن الظلم ليس على إطلاقه وعمومه، بل هو من العام الذي أريد به الخاص، فالمراد بالظلم أعلى أنواعه وهو الشرك كما قال لقمان لابنه، فالصحابة رضي الله عنهم حملوا الظلم على عمومه المتبادر منه وهو وضع الشيء في غير موضعه وهو مخالفة الشرع، فشق عليهم إلى أن أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمراد بهذا الظلـم(49).
وأما قوله: ولا أستطيع أن أفهمه على هذا الوجه. .. إلخ: فإن اللبس جاء من أن خلط الإيمان بالشرك لا يتصور، وليس الأمر كما توهم، لأن المراد: أنه لم تحصل لهم الصفتان كفر متأخر عن إيمان متقدم أي: لم يرتدوا. ويحتمل أن يراد: أنهم لم يجمعوا بينهما ظاهراً وباطناً، أي: لم ينافقوا. ذكر هذا الحافظ ابن حجر وقال: وهذا أوجه ولهذا عقبه المصنف - أي البخاري - بباب علامات النفاق، وهذا من بديع ترتيبه رحمهما الله تعالى[50]. ثم إن من فوائد الحديث: أن من لم يشرك بالله تعالى شيئا فله الأمن وهو مهتد(51) على خلاف ما ذهب إليه الدكتور في فهمه السابق، فإنه قد ضيق واسعا!!
المطلب الثالث: نماذج من غير المرفوع، مقارنا بمعطيات العصر.
وأمثلة هذا النوع كثيرة جدا والحمد لله، خذ مثلا قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَ ا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء:30] ففي المأثور نجد أن الحاكم أخرج أثرا وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: فتقت السماء بالغيث، وفتقت الأرض بالنبات(52).
فهذا الأثر لا يمنع أن يضاف إليه ما توصل إليه العلم الحديث في زماننا مما يسمى بنظرية "لابلاس" أو نظرية "السديم" عند علماء الفلك، الذين يثبتون أن الشمس والكواكب والأرض كانت قطعة واحدة، وأن الشمس كانت كرة نارية، وهي في أثناء سيرها السريع انفصلت عنها أرضنا والكواكب السيارة الأخرى(53)، فالسموات والأرض كانتا كتلة واحدة ملتصقتين، ثم فصلهما الله تعالى بقدرته القاهرة فصارتا على ما هي عليه الآن.
فلا تعارض بين هذا وما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - على فرض صحتهـ، وما درج عليه أهل التفسير في القديم، لإمكان الجمع بين المعنيين، وان ذلك يكون لونا من ألوان التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الكون، والله تعالى أدرى بأسرار كلامه.
ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن الشيطان في إغوائه بني آدم: (وَلأُضِلَّنَّه مْ وَلأُمَنِّيَنَّ هُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَ ّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَ ّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) [النساء: 119]
فقد ذهب المفسرون رحمهم الله تعالى على أن المراد بتبتيك آذان الأنعام ههنا هو قطع آذان البحيرة، وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا، وحرموا على أنفسهم ركوبها والحمل عليها، وسائر وجوه الانتفاع بها، وقال آخرون المراد أنهم يقطعون آذان الأنعام نسكا في عبادة الأوثان، فهم يظنون أن ذلك عبادة مع أنه في نفسه كفر وفسق(54).
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى: (وَلآمُرَنَّهُم فَلَيُبَتِّكُنَ ّ آذَانَ الأَنْعَامِ) قال: البتك في البحيرة والسائبة، كانو يبتكون آذانها لطواغيتهم(55)، وأخرجا عن السدي قال: أما يبتكن آذان الأنعام، فييشقونها فيجعلونها بحيرة(56).
وهذا معنى صحيح وثابت في التفسير، غير أن العلم الحديث كشف عن لون آخر من التفسير، له تعلق بأبحاث الاستنساخ وذلك: (أن تبتيك آذان الأنعام ارتبط بتغير الخلق في القرآن الكريم، وقد ظهر حديثا تبتيك آذان الأنعام كتقنية تستخدم في عملية الاستنساخ، ومن جانب آخر فقد ثبت حديثا أن أفضل الخلايا الجسدية المستخدمة لغرض الاستنساخ هي خلايا آذان الأنعام)(57).
فهذه إضافة حسنة لا تعارض الفهم السابق، إذ من الممكن الجمع بينهما، لاسيما وأن البتك يقارب البت في اللغة، لكن البتك يستعمل في قطع الأعضاء والشعر، وهذا هو المستعمل في عملية الاستنساخ من قبل علماء الغرب اليوم، حيث يتم قطع جزء من الأذن وإزالة الشعر.(58)
وفي مثل هذا التكامل المعرفي يقول الدكتور زغلول النجار لدى بحث ما في قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) [الذاريات: 7] من إعجاز علمي:
(وقد يرى القادمون في هذا الوصف القرآني ما لا نراه الآن، لتظل اللفظة القرآنية مهيمنة على المعرفة الإنسانية مهما اتسعت دوائرها، وتظل دلالاتها تتسع مع الزمن، ومع اتساع معرفة الإنسان في تكامل لا يعرف التضاد، وليس هذا لغير كلام الله)(59).
وهذا بخلاف ما لم يتسع اللفظ له، ومن أمثلة ذلك:
ما نضطر لإيراده من تفسير قوله تعالى: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) [النور: 31] بقول بعضهم: إن جسد المرأة كله زينة، والزينة هنا حتما ليست المكياج والحلي وما شابه ذلك، وإنما هي جسد المرأة كله، ثم يقسم الجسد إلى قسمين: قسم ظاهر بالخلق، وهو ما أظهره الله تعالى في خلقها كالرأس والبطن والظهر والرجلين واليدين، وقسم غير ظاهر بالخلق، وهو ما أخفاه الله في بنية المرأة وتصميمها، وهو الجيوب المرادة بالآية الكريمة، فالجيوب في المرأة - على زعمه - لها طبقتان أو طبقتان مع خرق، وهي ما بين الثديين، وتحت الثديين وتحت الإبطين والفرج والإليتين، وهذه كلها جيوب، فهذه الجيوب يجب على المرأة المؤمنة أن تغطيها، ولذا قال: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)!!
ثم يقول: إن السبب في ذلك النهي (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ ) هو لكي لا يعلم ما يخفين من زينتهن - وهنا الكلام عن الزينة المخفية وهو الجيوب - لأنها لا يمكن أن تعلم إلا إذا أرادت المرأة ذلك، فهذا يعني أن الله منع المرأة المؤمنة من العمل والسعي (الضرب) بشكل يظهر جيوبها أو بعضها، كأن تعمل عارضة (ستربتيز) أو تقوم برقصات تظهر فيها الجيوب أو بعضها ولكنه لم يحرم الرقص بشكل مطلق بل حرم عليها إظهار الجيوب أو بعضها بشكل إرادي وهذا لا يحصل إلا من أجل كسب المال أو على شواطئ البحار(60).
فانظر كيف نسف ما استقر عليه إجماع المسلمين على مدى أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان؟ منذ فسرته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها حين قالت: (يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شققن مروطهن فاختمرن بها)(61).
فلو تأمل ما ورد من المأثور في هذا المجال لاحترم عقله ووقف عنده، وما سمح لقلمه أن يخط مثل هذا الهراء(62)، المؤدي إلى الهدم والإلغاء.
فائدة: في الفرق بين الجديد والتجديد:
يستحسن هنا أن نشير إلى الفرق بين الجديد المختلق، وبين التجديد لما سبق، لما لذلك من أهمية وارتباط بموضوع البحث، وذلك باختصار على النحو الآتي:
بالرجوع إلى قواميس اللغة نجد أنهم قالوا: جد يجدّ فهو جديد، وجدده واستجده: صيره جديدا، فتجدد، والجديد: ضد البلى(63).
والتجديد في أصل معناه اللغوي - كما يقول الشيخ بسطامي - يبعث في الذهن تصورا تجتمع فيه ثلاث معان متصلة(64)، لا يمكن فصل أحدها عن الآخر، ويستلزم كل واحد منها المعنى الآخر، وهذه المعاني كالتالي:
(1) أن الشيء المجدد قد كان في أول الأمر موجودا وقائما، وللناس به عهد.
(2) أن هذا الشيء أتت عليه الأيام فأصبح قديما.
(3) أن ذلك الشيء قد أعيد إلى مثل الحالة التي كان عليها قبل أن يبلى ويخلق.
وبالرجوع إلى الكتاب الكريم لم نجد فيه لفظ التجديد، إنما وجدنا لفظ (جديد)، وذلك في ثلاث آيات وهي قوله تعالى: (وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا) [الإسراء: 49] وقوله تعالى: (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق: 15] وقوله تعالى: (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [السجدة: 10].
والمراد بالجديد في الآيات الكريمات، هو البعث والإعادة، وهو ما كان يستبعده المشركون ويتعجبون منه.
ولدى التأمل في المعنى اللغوي، نستطيع أن نقول: إن إطلاق لفظ التجديد على الدين إطلاق سليم، ويمكن أن نعد قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)(65) أصلا لهذا الفهم السليم، ومثله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (جددوا إيمانكم قيل: يا رسول الله، كيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله)(66).
وهذا الفهم هو الذي عناه أبو سهل الصعلوكي(67) رحمه الله تعالى بقوله: أعاد الله هذا الدين بعد ما ذهب يعني أكثره بأحمد بن حنبل وأبي الحسن الأشعري وأبي نعيم الاستراباذي(68).
وقد سار في ضوئه علماء التفسير عبر القرون، ومن هنا تعددت مناهج المفسرين، وكثرت الإضافات التفسيرية السديدة، بما شغل حيزا واسعا في مكتبة التفسير في العالم الإسلامي.
غير أن هذا الفهم السليم لم يكن هو المقصود عند دعاة التجديد لاسيما في عصرنا الحديث، وإنما يعنون به:
إعمال الفكر في فهم القرآن فهما جديدا، دون الرجوع إلى شئ من أفهام السابقين، من رجال المأثور والمعقول، أوالتقيد بقواعد لغة القرآن، أو بشئ من الضوابط التي وضعها علماء أصول الفقه وعلوم القرآن(69).
وهو مسلك غير حميد، أدى إلى تلاعب عجيب بالألفاظ، وجنوح عن المنهج السليم أفرز كما هائلا من الانحرافات الخطيرة في التفسير، الأمر الذي حدا برجال العلم والفكر في العالم الإسلامي للتصدي لذلك الضلال ورده ودحضه.
وقد أخذ هذا الفهم الجديد مسمى جديدا، في السنوات الأخيرة يقال له: "الهرمنوطيقيا"(70) ، وهي القراءة الجديدة للقرآن الكريم.
وخلاصة القول إن ثمة فرقا بين الجديد والتجديد، وان ما يسمى هذه الأيام بالتجديد الرافض للمأثور، المتحلل من القيود والضوابط، يعدّ معول هدم في الإسلام، يؤدي إلى ظهور إسلام جديد، غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وغير ما عرفه المسلمون عبر القرون، فلا يصح لذي علم أن يسكت عليه، بل يجب رفضه ورده بحزم وقوة.
الخاتمة
وبعد الوصول - بحمد الله تعالى وتوفيقه - إلى إكمال هذا البحث، أذكر هنا ما توصل إليه من نتائج، وذلك على شكل نقاط محددة على النحو الآتي:
[1] يعدّ ما صحّ من التفسير بالمأثور، من أحسن طرق التفسير التي ينبغي أن يسلكها المفسر في الكشف عن مراد الله تعالى.
[2] ترجع قيمة التفسير بالمأثور إلى قيمة مصادره الأصلية، وتظهر مدى أهميته من مدى أهميتها.
[3] تفسير القرآن بالسنة لا يتوقف على توضيح المفردات، بل يدخل في ذلك توضيح المجمل وتقييد المطلق وتخصيص العام، وبذلك تخرج كثيرا من الصيغ القرآنية عن ظاهر مفهومها في أصل اللغة.
[4] ليس التفسير بالمأثور محض نقل، بل للعقل دخل فيه.
[5] الدعوة إلى الالتزام بالمأثور لا تعني الجمود عليه، وإنما تعني أنه قاعدة الانطلاق إلى وجوه التفسير، والانتهال من معين القرآن الذي لا ينضب.
[6] والدعوة إليه - أيضا - لا تعني اعتماده على كل حال، وإنما اعتمادا قائما على النظر والتأمل والتمحيص والنقد.
[7] إن كثيرا من الانحرافات التفسيرية الخطيرة، إنما وقعت لجنوح أصحابها عن التفسير بالمأثور، وعدم التقيد بضوابط التفسير وقواعده المقررة.
[8] إن التكامل المعرفي بين التفسير بالمأثور ومستجدات العلوم يتحقق فيما يتسع له اللفظ العربي الذي نزل به القرآن الكريم، وأمثلة ذلك كثيرة متنوعة.
[9] هناك فرق بين الجديد والتجديد، وإذا كانت فكرة الجديد مرفوضة لأنها بدعة، فإن التجديد مطلوب، وعلى هذا سارت الأمة عبر القرون.
التوصيات:
وأذكر هنا بعض التوصيات في نقاط محددة كما يأتي:
[1] أن يكون هناك مجمع عالمي لأهل التفسير، على غرار المجامع الفقهية واللغوية.
[2] أن تنبثق من خلال ذلك المجمع لجان متخصصة في تتبع وجمع ما يصدر من آراء جديدة في التفسير.
[3] أن تشكل لجان علمية من كبار علماء التفسير في العالم الإسلامي، تكون مهمتها دراسة تلك الآراء ونقدها نقدا علميا هادفا.
______________________________ ________________

الهوامش:
(40) ينظر بيان المراد بقوله تعالى: (ترهبون)، وربط هذه الآية بسابقتها، في بحثنا: (الاستطاعة بين التقوى وإعداد القوة وأثرها في مواجهة التحديات)، المنشور في وقائع مؤتمر "الاجتهاد في القرن الحادي والعشرين تحديات وآفاق"2/ 96 الذي عقد في كوالالمبور بماليزيا في 10- 12/ 8/ 1429هـ الموافق 12- 14/ 8/ 2008م.
(41) أخرجه مسلم برقم 1917 عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال على منبره ثلاثا: (ألا إن القوة الرمي)، في كتاب الإمارة ـ باب: فضل الرمي والحث عليه 3/ 1522.
(42) متفق عليه من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، أخرجه البخاري برقم 5684في كتاب الطب ـ باب الدواء بالعسل 13/ 14، ومسلم برقم 2217 في كتاب السلام ـ باب التداوي بسقي العسل 14/ 167.
(43) انظر كتاب: (الإعجاز العلمي في الإسلام ـ القرآن الكريم) فقرة (عسل النحل)، ص 240- 245.
(44) هو الدكتور عبد العزيز إسماعيل رحمه الله تعالى، نقلا عن المرجع السابق، ص 241.
(45) انظر الطب في القرآن ـ مبحث أنواع الإشارات الطبية ـ الإشارات الصريحة والمخصصة، ص 39.
(46) أخرجه ابن ماجه برقم 3452 في كتاب الطب باب العسل، وفي الزوائد: إسناده صحيح رجاله ثقات، وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم 2581، والحاكم في كتاب الطب 4/ 403 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
(47) انظر مجلة اللغة العربية 13/ 81.
(48) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم 32 في كتاب الإيمان باب: ظلم دون ظلم 1/ 183، ومسلم برقم 124 ي كتاب الإيمان باب: صدق الإيمان وإخلاصه 1/ 114- 115.
(49) انظر النووي على مسلم 2/ 143، فتح الباري 1/ 184.
(50) انظر فتح الباري 1/ 185.
(51) السابق، والنووي على مسلم 2/ 143.
(52) أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: قلت طلحة واه (2/ 414)، والبيهقي في الأسماء والصفات والفريابي وعبد بن حميد كما في فتح القدير 3/ 406، وذكره ابن عطية 10/ 141 دون أن ينسبه إلى ابن عباس مستشهدا بقوله تعالى: (والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع) [الطارق11- 12] وقال: وهذا قول حسن، يجمع العبرة وتعديد النعمة، والحجة بمحسوس بين، ويناسب قوله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شئ حي) أي: من الماء الذي أوجد الفتق، فيظهر معنى الآية ويتوجه الاعتبار.
(53) وتلك الكواكب تسعة مرتبة حسب قربها من الشمس، وهي: عطارد والزهرة والأرض والمريخ والمشتري وزحل وأورانوس ونبتون وبلوتوه، ولكل منها مدار حسب تأثير الجاذبية، وهي تجري في الفلك، وهي تسعة أفلاك دون السموات المطبقة التي يعيش فيها الملائكة، والفلك استدارة في السماء تدور بالنجوم مع ثبوت السماء، أو هو مجراها وسرعة سيرها. انظر التفسير المنير 17/ 44، وآيات الخالق الكونية، ص 104، والمعجزات القرآنية، ص 16.
(54) انظر التفسير الكبير 11/ 49، ونقل عن الواحدي إجماع المفسرين على ذلك، المقتطف 1/ 505 وغيرهما من كتب التفسير.
(55) أخرجه ابن جرير برقم 10445 وابن أبي حاتم برقم 4128 وإسناده صحيح، وذكره السيوطي في الدر المنثور وعزاه أيضا إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر 2/ 223، وكذا الشوكاني في فتح القدير 1/ 518.
(56) أخرجه ابن جرير برقم 10446 وابن أبي حاتم برقم 4127 وإسناده حسن.
(57) اقرأ بحث: "الاستنساخ والقدرة على الخلق بين القرآن والعلماء" للأستاذين أصيل محمد علي زكر ود. صلاح الدين جمال الدين بدر.
(58) انظر السابق.
(59) انظر مقال: "من أسرار القرآن ـ الإشارات الكونية في القرآن الكريم، ومغزى دلالاتها العلمية (والسماء ذات الحبك) المنشور في جريدة الأهرام بتاريخ 3/ 9/ 2001، نقلا عن كتاب ظواهر كونية بين العلم والإيمان، ص 105.
(60) انظر الكتاب والقرآن ـ قراءة معاصرة، ص 613.
(61) أخرجه البخاري برقم 4758 في كتاب التفسير 10/ 510.
(62) انظر إضافة إلى ما ذكره البخاري الآثار التي أخرجها ابن جرير 18/ 97 طبعة دار المعرفة، وابن أبي حاتم الرازي 2/ 280 في تفسير سورة النور.
(63) انظر القاموس المحيط 1/ 551، المعجم الوسيط 1/ 109.
(64) انظر مفهوم تجديد الدين للأستاذ بسطامي محمد سعيد، ص 15.
(65) أخرجه أبو داود برقم 4291 في كتاب الملاحم باب ما يذكر في قرن المائة 4/ 109، وقد استوفينا تخريجه في تحقيق رسالة "قراءة البسملة أول براءة " لملا علي القاري، المنشورة في مجلة الدراسات الإسلامية بإسلام آباد العدد الرابع المجلد الثامن والعشرون سنة 1414هـ/ 1993م.
(66) أخرجه الإمام أحمد برقم 8710، والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي فقال: فيه صدقة ضعفوه 4/ 256، وأبو نعيم في الحلية 2/ 357 وغيرهم.وقال العزيزي في السراج المنير 3/ 76: وإسناد أحمد صحيح، وكذا قال المناوي في التيسير 1/ 485، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده ضعيف 14/ 328.
(67) هو الإمام محمد بن سليمان، قال الذهبي: الفقيه الشافعي الأديب اللغوي، المتكلم المفسر النحوي الشاعر المفتي الصوفي، حبر زمانه، بقية أقرانه، هذا قول الحاكم فيه، وقال الصاحب بن عباد: ما رأينا مثله ولا رأى مثل نفسه، توفي سنة 369هـ رحمه الله تعالى. انظر تاريخ الإسلام ـ حوادث وفيات (351- 380) ص423، الأعلام 6/ 149.
(68) انظر تبين كذب المفتري لابن عساكر، ص 53، وفيه: بعد الصعلوكي: أم الشيخ الإمام أبا بكر الإسماعيلي.