ليس للجمال حدود !

أجمل الكلام كلام الله تعالى ، وأحسن القصص قصص القرآن ، وأحلى الحديث هو القرآن الكريم !
وكيف لا يكون كذلك ؟! وهو كلام ربنا العظيم البر الرحيم سبحانه !!
ومع ذلك لا يستغني القرآن عن التحسين والتزيين !! نعم .. لا يستغني عن التزيين والتحسين !!
لست أنا من يقول هذا الكلام ، بل قائله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقد قال عليه الصلاة والسلام : (( زينوا القرآن بأصواتكم )) !!
وأقسم بالله ، لو قلت أنا هذه العبارة ، لكفرني أناس ، أو لاستشنعوا مني هذه العبارة ، ولقالوا : ما هذا الكلام ؟! وهل في القرآن قبح لكي يحتاج إلى تزيين ؟! ولاتهموني بانتقاص القرآن الكريم وبالاستخفاف به !
ولكتب أحدهم معلقا : العوني ينتقص القرآن !!
ولكتب الآخر متهكما : العوني يقول إن القرآن يحتاج عملية تجميل !!
ولقال آخر متظاهرا بالجدية والموضوعية : د/ حاتم العوني يطالبنا بأن نخفي عيوب القرآن بأصوات المتغنين به !!
ولقال .. ولقال ...
لكن الذي قال ذلك الكلام ليس هو العوني ، وإنما هو سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم !
والذي رواه ليس هو العوني ، بل الذين رووه وصححوه هم أئمة المسلمين ! لأنهم قد فهموا الحديث بما لا يستدعي إنكار متنه ، فقد فهموا منه : أن حاجة القرآن إلى التحسين لا تعني وجود نقص فيه ، وإنما تعني وجود طبيعة فينا (معشرَ البشر) ، يمكن أن تسميها نقصا ، ويمكن أن تسميها كمالا ، وهي حب الجمال ، بل حب الترقي في الجمال ، والطمع أمام كل انبهار بجمال أخّاذ في أن يبهرهم ما هو أجمل منه .
إنها فطرة فُطر الناس عليها ، إنها فطرة الطمع في جمال غير متناهي ، جمال لييس لجماله حدود ، لكي يتعلقوا في النهاية بأجمل جمال ، إذا آمنوا : (( أن الله جميل ، يحب الجمال )) .
إنها فطرة : أن لا يقف البشر في طلب الجمال عند حد منه ، مهما بهرهم ، ومهما عشقوه ، لكي يعلموا أخيرا : أنه لا شفاء لعشقهم هذا ، ولا لولههم فيه ؛ إلا بأن يحبوا جمال من خلق الجمال ، من كان كل جمال نشاهده في الكون من جماله ، ولولا عظمة جماله عز وجل ما عرفنا هذا الجمال المخلوق الذي تَـهَـيّـمنا به وتولّهنا فيه !!
ومراعاةً لهذه الفطرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( زينوا القرآن بأصواتكم )) .
فمهما كان القرآن جميلا ، فإنه يزداد جمالا بالصوت الحسن ! مهما كان مؤثرا ، فإنه يزداد تأثيرا بالصوت الشجي ! مهما كان معجزا ، فإنه يزداد إخضاعا للعقول والقلوب بالترتيل المتقن الجميل !!
إن هذا الحديث لهو تأصيل أصيل للفنون الجميلة ، فهو يضع قاعدة لها ، تقول : اطلبوا الجمال ، بل أجمل الجمال ، وأتقنوا صناعة الجمال ، وتفننوا في التجميل ، ولا تقنعوا بحد من حدوده . ولا تقولوا : وهل هناك أجمل من كذا ؟! فكل جمال يمكن أن يكون أجمل ، فلا حد لأجمل الجمال ؛ إلا عند جمال الخالق عز وجل .
فالحديث بذلك قد وضع فلسفة للجمال تقول : مهما أتقنت الجمال ، فهناك ما هو أجمل .
وتقول أيضا : لا تغتر ولا تكتف بما وصلت إليه من صناعة الجمال ، فمهما بلغت ، فأنت تغرف من بحر الجمال غير المتناهي ! وبذلك مهما أتقنت صناعة الجمال ، فأنت مقصر غاية التقصير في صناعته !!
إنها فلسفة لو أتقنها المسلمون ، بل لو آمنوا بها فقط ، لكانوا أساتذة البشرية في صناعة الجمال . لكنهم في كثير من التصورات للأسف قد جعلوامن ( الزهد ) في الدنيا ضدًّا للجمال ، وما علموا أن من صور الزهد الحق أن تكون فنانا في تذوق جمال الكون ، لا لذاته ، ولكن لتحب الخالق الجميل الذي خلق جمال الكون ، فتقدم بذلك كل ما يقربك من جماله عز وجل على كل شيء من جمال الدنيا الناقص الفاني !
وإلا لماذا كان النظر إلى الله تعالى أعظم من كل نعيم الجنة { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } ، فالزيادة على (الجنة) هي النظر إلى جماله سبحانه وتعالى .
وفي الحديث من الفوائد : تشريعٌ لاستثمار الفنون الجميلة في الدعوة إلى الله تعالى ، فالجمال وسيلة جذبٍ مشروعة ، وما أعظم خسائرنا الدعوية بإهمال الجمال وفنونه في الدعوة إلى الله تعالى ، بل باستعمال ما يناقض الجمال كل المناقضة : من قبيح القول ، وسيء الفعل ، وتشوه الفكر ، وممسوخ الأخلاق = في الدعوة إلى الدين !!
وكم يؤلمني استخفاف بعض من يسميهم الناس دعاة وشيوخا بأثر الجمال وفنونه في بناء الحضارة الإسلامية ، بل توسعوا جدا في تحريم وتجريم صور منه ، وسعوا بكل جد في إلغاء الخلاف المعتبر في بعضها ، فما اكتفوا بالتحريم ، بل زادوا إليه التجريم والتشنيع . حتى لقد تشكل توهم عند بعض المسلمين ( فضلا عن غير المسلمين ) أن الإسلام يعادي الجمال !!
وبالغ بعضهم في الخشية من الغلو في طلب الجمال ، حتى استشكوا هذا الحديث (( زينوا القرآن بأصواتكم )) ، حتى وصل بأحد أعلام المسلمين من التابعين ، وهو الإمام الفقيه الزاهد أيوب السختياني ، أن ينهى عن التحديث بهذا الحديث !! خشية أن يُفهم على غير مراد النبي صلى الله عليه وسلم ، فيُغنى القرآنُ كما تُغنى القصائد والأشعار الغنائية !
ومع احترامنا الكبير لهذا الإمام الكبير ، ومع احتمال أن يكون أراد حالة خاصة في وقت خاص ؛ إلا أن سياسة منع التحديث المطلق بحديث نبوي سياسة مرفوضة تماما ، خاصة مع تعميم هذا النهي ؛ إذ هي مع كونها سياسة لكتم للعلم ، فهي تتضمن أيضا نوع استدراكٍ على البلاغ النبوي الشريف ! ولذلك فقد خالف علماء الإسلام هذا الاجتهادَ من أيوب السختياني ، وأبرزوا هذا الحديث في كتبهم ، وصححوه ، وبوبوا الأبواب بلفظه ، وأعلنوا التحديث به ، ولا خصوا به أناسا دون أناس !!
ليس هناك ما يُخشى منه في هذا الحديث ، فتزيين القرآن بالصوت لن يفهمه عمومُ العقلاء أنه خروج به عن جلال قدره وعظيم غايته في الهداية ، فمثل هذا الخروج تقبيحٌ وليس تزيينا . ولا يصح في السياسة العامة للتعليم والتبليغ أن نراعي شُـذّاذ البشر ، على حساب عمومهم وغالبيتهم . لا يصح أن نمنع الجمال ؛ لأجل من يشوهونه !! بل يجب أن نعالج من تشوهت فطرهم بكفاية الجمال عن أفكارهم الشاذة التي تسيء إليه ، يجب أن نكشف عن أعينهم أغشية القبح .. لا بمنع الجمال ، بل بإبرازه وترويض القلب قبل العين على طول تأمله واكتشاف دقائق لذته وحلاوته .
كم في هذا الحديث من دروس الجمال ؟! وكم نحن غافلين عنها !!