بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، لا شريك له، والصلاة والسلام على رسوله وآله، أما بعد:
عناصر المقالة:
1- تمهيد: معنى المصطلَح، وأهلُه، ومَن أطلقَه عليهم.
2- تاريخ المصطلح: المصطلَح، والمصطلِح.
3- نقد المصطلَح.
4- النتائج.
تمهيد: معنى المصطلَح وأهلُه ومَن أطلقَه عليهم
شاع بين كثير من الإسلاميين اليوم إطلاق مصطلح العقلانيين"، أو مدرسة العقلانية" على من يقابلهم من الخصوم المِلِّيين، الذين ينتسبون إلى الإسلام، وربما إلى العلم الشرعي بفروعه، لكنهم يُدرجون أنفسهم في الفكر والمعرفة والتجديد، واللحاق بركب الغرب، ولهم مواقف معلنة تجاه قضايا متعددة من التشريع الإسلامي، وإعطاء أولوية النظر إلى بديهيات العقل، ونتائج الفكر، والتطور المعرفي للإنسان، وهم في اعتبار العقلنة" على درجات، بَدءًا من العقلي المتمحض، وانتهاءً بمن كانت فيه نزعة عقلية، أو لوثة، كما يقال!
تاريخ المصطلَح : (المصطلَح، والمصطلِح)
نشأ هذا المصطلَح نتيجة صراع مرير بين الكنيسة اللاهوتية" المحارِبة للعقل والمعرفة، وبين الفلسفة بفرعيها العقلي والتجريبي"، وقد انتهت بانتصار ساحق للعقل، وأبقت للكنيسة هامشًا من يوم الأحد في طقس رُوحي مملول.
ويُطلق هذا المصطلَح أيضًا على فريق من الفلاسفة العقلانيين" الذين يعتبرون العقل
أداة مستقلة في تحصيل المعرفة، فهو السبيل الأوحد لمعرفة الكون وأسراره بعيدًا عن الوحي ورسالات الأنبياء، وفي منأى عن التجريب وفلاسفته ومنتجاته.
وقد سرَّب المستشرقون هذا المصطلَح إلى واقع الاحتكاك الإسلامي، وذلك من جهتين:
الجهة الأولى: وصف المعتزِلة بالعقلانيين؛ فانطلى ذلك علينا، فألحقنا بهم أحفادَهم! والحقيقة أن هذا الوصف للمعتزلة غير معروف، ولم يكن يُطلق عليهم، ولا على غيرهم، وإنما كانوا يوصفون بأهل الأهواء، ونحو ذلك.
الجهة الثانية: أن المستشرقين رأَوْا أن الصراع الدائر في حقل المعرفة الإسلامية اليوم هو نفسه الصراع القديم بين الكنيسة وفلاسفة الحضارة الغربية، وبالتالي فلن يكون التقدم والحضارة للمسلمين ما لم يصرع التنويريون" منهم الكنسيين".
وقد كرَّس هذا المصطلَح وقعَّده، ودرَّسه، وكتب فيه، وحاضر، طائفة عريضة من الإسلاميين.
ومن هنا، فلا بد من تسجيل اعتراف صريح، وهو أن هذا الإطلاق كان نتيجة خلل منهجي عميق في اعتبار العقل، لدى شريحة واسعة من الإسلاميين؛ فقد كان منشؤه لدينا مؤسَّسًا بانحراف في التكوين العلمي"، فينشأ الكثير من الطلبة والمدرسين على أساس اعتبار النقل" فقط، وأن العقل" له دور محدود وثانوي في إدراكه. فالتنشئة الأصولية والعَقَدية لدينا تقوم على أساس تعظيم النص"، وهذا أمرٌ في غاية الحسن، ولكن تنشأ أيضًا على أساس تقليص دور العقل" في أضيق نطاق، والغالب يكون بالاستغراق في بيان أوهامه، وعيوبه، وثغراته، ومدارسه، وتفنيد براهينه، ولهم في ذلك قصص وألغاز ومقارنات بين النقل" و"العقل"، فهما لديهم ثنائية متعاكسة متنافرة.
ويُكثرون من قَرع آذان الناس بضرورة تقديم الشرع على العقل، حتى أَوهمَ ذلك أن جزءًا من الشريعة يتعارض مع العقل أصالةً، ولذا فيجب تقديم الشرع، والإطاحة بدليل العقل.
كما أن النقل الخطأ للمعركة القديمة التي جرت بين السلف والمتكلِّمة بفروعها، كان له أثر عميق في تجسيد ذلك، فالمعركة تُصوَّر على أساس أنها حرب ضَروس" بين النقل"، و"العقل"، وكأن العقل" طاغوت يجب تنحيته واقتلاع جذوره من أمام النص" حتى يؤدي وظيفته.
وإذا كان علم أصول الفقه، وهو المخوَّل بترتيب الدليل العقلي الشرعي، يُواجَه بحملة مضادة، إما بعدم جدواه بسبب سيطرة المتكلمين على قواعده ومصطلحاته ومصنفاته ورجاله، وإما بالتزهيد فيه حتى استكثروا عليه دراسة ورقات" الجويني!
ومن ظريف ما مرَّ عليَّ أني رأيت متخصصًا في الدراسات العليا في قسم أصول الفقه في غاية الوجل! فهو خائف أن تنزلق قدمه في لحظة ذهول في وحل العقل"!
إذن هناك خطأ جِذْري وعميق في رؤية كثير من الإسلاميين للعقل من حيث منزلته ومرتبته وموقعه ودوره. ولن نتقدم تقدمًا حقيقيًّا حتى نعترف بأخطائنا التعليمية والمنهجية.
نقد المصطلَح
تبين بما سبق أن هذا الإطلاق ليس بدقيق من ناحية التوصيف المعرفي"، ولا هو بسديد من ناحية التكتيك العملي"، ولا يتماشى مع رُوح المصطلَح التاريخي والمعاصر، وإنما هو فلتة".
هذا المصطلح الشريف العقلانية"، الذي نُحِت من العقل"، والذي يتبوأ في منصة المنتهى من كمال الإنسان الغريزي؛ أتساءل كيف يُبذل مجانًا إلى طائفة منحرفة ليس لها في العير ولا في النفير! لا عقل ولا نقل، لا دين ولا حياء، لا فكر ولا قلب، لا علم فلسفة ولا منهج كلامي، وإنما نقد ساذج أو تقليد غربي على عور.
أمثل هؤلاء يستحقون نيل شرف "العقل"؟!
لا مشاحة في الاصطلاح
نعم لا مشاحة في الاصطلاح إذا لم يكن إلا "المصطلَح"، لكن إذا كان "الاصطلاح" وليد "خلل منهجي"؛ فإن عملية "إصلاح المنهج" يترتب عليها تلقائيًّا "إسقاط المصطلح" من "رحم الحقائق". وبالتالي، فهناك طائفتان:
الطائفة الأولى: تدعي العقل، ولا عقل لها.
والطائفة الثانية: تغض من منزلة العقل وتُحجم دوره.
وقصارى القول وخلاصة القصة: أن الطائفة المنحرفة الثانية أطلقت الوصف الخطأ على الطائفة المنحرفة الأولى!
وكلا الطائفتين في طرفين، ولا تمثلان الصف المعتدل الإسلامي.
فهما طائفتان تطرفتا في اعتبار الدليل العقلي، فانتفت إحداهما منه، وركبته الأخرى، والعقل منهما بريء.
ولذا فلا يجوز أن نُهدي مَن انحرف عن النقل، وجنح إلى العقل: دليل العقل على طبق من ذهب! ولا لأفراخهم من العصريين، وقد انتفخ بعضهم بهذا المصطلح، وقد استسمن نفسه على ورم!
وهذا ما عَنيتُه بـ"الخطأ التكتيكي"؛ فإذا كان أولئك المنحرفون "عقلانيين"؛ فمن نحن إذن؟! "نصف عقلانيين"؟! أو "لا عقلانيون"؟!
والمأساة تكمن في أننا نحن مَن أذعنا هذا المصطلَح.
كما توهم كثير من الدارسين أن مهمتنا الأساس هي "درء تعارض العقل والنقل"؛ فهو في موقف دفاع، ولكن الحقيقة أن مَن كانت مهمته "نظم الدليل العقلي في براهين النقل" فهذا في موقف رأس حربة؛ فاختر موقعك!
فرقٌ بين اثنين:
الأول: مهمته إفساد "الدليل العقلي" لإفساح المجال لـ"النص".
والثاني: مهمته توظيف "الدليل العقلي" والتفنن فيه، في بيان اعتباره لـ"النص الشرعي".
إن الذي يستعرض جزءًا يسيرًا من القرآن يجد مدى اعتباره للبرهان العقلي بشتى الصور مثل: "أفرأيتم، أوَليس، أفمَن، أفلا تعقلون، أفلا تتفكرون، لأولي الأبصار، لأولي الألباب، أم على قلوب أقفالها، قل انظروا"، وغير ذلك كثير.
ابحث إلكترونيًّا في القرآن عن مادة "العقل"، فستذهل من وفرة الآيات التي حاكمت الناس عليه، ومن ذلك: "لعلكم تعقلون، لا يعقلون شيئًا، صم بكم فهم لا يعقلون، الصم البكم الذين لا يعقلون، أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون، ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون، لقوم يعقلون، إن كنتم تعقلون، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون، وأكثرهم لا يعقلون، فتكون لهم قلوب يعقلون بها، ، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام، وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالِمون، أفلم تكونوا تعقلون، لو كنا نسمع أو نعقل" وغير ذلك.
وقل مثل ذلك في بقية الإطلاقات الأخرى مثل: "أفلا تتفكرون، لقوم يتفكرون، أولم يتفكروا في أنفسهم، هل في ذلك قسم لذي حجر، وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" وغير ذلك.
وأخيرًا، فإن الشارع قد جاء بتعظيم العقل، وصاغ به خطابه، وحاكم عليه الكفار بسائر مللهم، ولم يقع في موطن واحد ذمه، أو التنقيص منه، أو تأخير مرتبته؛ فلِمَ نجعل أنفسنا في معركة مع العقل؟! والله تعالى يقول: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140].
النتائج
- إطلاق مصطلح "العقلانيين" على "المنحرفين في اعتبار النص" خطأ؛ إذ هو معنى شريف، أثنى عليه الشارع؛ فلا يسوغ إطلاقه على طائفة منحرفة.
- أسباب إطلاق الاصطلاح:
السبب الأول: تقليد محض للصراع الغربي بين الكنيسة وفلاسفة الحضارة.
السبب الثاني: تقليد للنظرة الخطأ للمستشرقين على واقع الاحتكاك في الفكر الإسلامي، إضافة إلى وصفهم "المعتزلة" بالعقلانيين.
السبب الثالث: خطأ منهجي في الرؤية والتعليم، فقد كان نتيجة انحراف بعض الإسلاميين في اعتبار الشريعة للعقل، وترتب عليه أخطاء عميقة في التعليم والبحث.
- شرارة المصطلح اشتعلت نتيجة احتكاك طائفتين انحرفتا في اعتبار العقل.
- ساغ للكنيسة وصف خصومهم بالعقلانيين والتنويريين، لموقفها السلبي تجاه العقل، لكن لا يسوغ ذلك من الإسلاميين، وقد جاءهم الشارع بنهاية الحكمة، ومنتهى العقل.
- إذا كان المصطلح بسبب خلل منهجي فإنه يُنتقد، ولا يقال فيه: "لا مشاحة في الاصطلاح".
- لم يطلق السلف مصطلح "العقل" كوَسم على المعتزلة، وهم أشهر مَنْ غالى في اعتباره.